من يشاهد ما يجري في حي الرمال وفي غيره من أحياء مدينة غزة يتبادر إلى ذهنه أننا أمام جريمة حرب كتلك التي جرت في مدينة درسدن الألمانية في الثالث عشر من فبراير 1945 يوم أغارت طائرات بريطانية وأمريكية على المدينة وحولتها إلى أنقاض. يومها هاجمت 800 طائرة قاذفة بريطانية من طراز «أفرو لانكاستر» و311 طائرة أمريكية من طراز «بي-17» مدينة درسدن. وألقت الطائرات البريطانية 1478 طنًّا من القنابل الشديدة الانفجار و1182 طنا من القنابل الحارقة على المدينة النائمة لتُحدث إعصارا ناريا، ثم ألقت الطائرات الأمريكية 771 طنا من القنابل في يوم 14 فبراير، و466 طنا في اليوم التالي .
لم تكن في درسدن صناعات عسكرية ولم يكن فيها قواعد عسكرية ولا حتى قواعد إمداد لجيش ألماني متهالك أصلا ينتظر لحظة الاستسلام بعد الحرب الوحشية، التي بدأها الجيش النازي وغطت أحداثها القارة الأوروبية بأسرها من الاتحاد السوفياتي في الشرق إلى بريطانيا العظمى في الغرب. هذا الكم الهائل من القنابل سقط على رؤوس مدنيين فدمر 78 ألف دار سكنية تدميرا كاملا بالإضافة إلى عديد من المباني الأخرى غير السكنية ومنها 50 مبنى تاريخيا وتسبب في مقتل أكثر من 25 ألف مدني .
عدد من الشخصيات الألمانية البارزة منهم الكاتب الألماني الحائز جائزة نوبل، غونتر غراس، وصف قصف درسدن بمثابة جريمة حرب. الصحفي الأمريكي المعروف كريستوفر هيتشينس أشار إلى أن الهدف من الهجوم الجوي على درسدن كان تدريب الطيارين على إلقاء القنابل، أما المؤرخ الألماني يورغ فريدريخ فقد وصف قصف درسدن بالعملية الإرهابية.
جرائم الحرب والأعمال الإرهابية لها سجل حافل ليس فقط في تاريخ ممتد للحكومات والإدارات البريطانية والأمريكية، بل وذلك لحكام تل أبيب. فتلك قواسم مشتركة بين حكام لندن وواشنطن وتل أبيب على امتداد تاريخ طويل لتحالف سمته الشيطانية لا تخفى على أحد. وهي بالتأكيد ليست جديدة على حكام تل أبيب منذ تنفيذ الجرائم المروعة في «خطة دالت»، التي أقرتها قيادة كل من الوكالة اليهودية والحركة الصهيونية في آذار من عام 1948 وترتب عليها محو مئات البلدات والقرى الفلسطينية من الوجود، وهي بالنسبة إلى المتطرفين الجدد في إسرائيل أمثال ايتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وغيرهما مجرد تدريب على ما هو قادم وفقا لخطة الحسم التي يجري تنفيذها على مراحل في الضفة الغربية بدعم كامل من بنيامين نتنياهو، الذي انشغل جيشه عن غزة بأساطير وبمرافقة المهووسين بإقامة الصلوات التلمودية في «قبر يوسف» وفي «مذبح يشع» وبتوفير الحماية للمستوطنات والبؤر الاستيطانية وما يسمى المزارع الرعوية وما تحويه من منظمات وكيانات إرهاب يهودي كزعران «شبيبة التلال» وزعران «تدفيع الثمن».
وبالعودة إلى درسدن فقد بلغ وزن القنابل التي ألقيت عليها في يومين من الطائرات البريطانية والأمريكية نحو 2249 طنا، غزة غير بعيدة عن هذا الرقم حتى الآن، فقد ذكر الناطق بلسان جيش الاحتلال الإسرائيلي أن طائراته ألقت على القطاع في اليومين الأول والثاني من العدوان أكثر من ألف طن من المتفجرات، ما يعني أن وزن المتفجرات التي تلقيها طائراته على المدنيين الأبرياء كلما طال أمد العدوان سيكون أضعافا مضاعفة لما تعرضت له تلك المدينة الألمانية، ما يعني أن العالم سوف يكون في مواجهة كارثة إنسانية، تعهدت الإدارة الأمريكية بمضاعفة معاناتها من خلال تزويد حكام تل أبيب بمزيد من قنابل الموت والدمار أمريكية الصنع تلقيها طائرات من صناعة أمريكية على غزة لمحو أحياء منها من الخارطة وتفريغ شريط من الأرض من سكانه تمهيدا لمخطط سيطرة من نوع جديد على قطاع غزة يراود حكام تل أبيب، بعد أن فشل الانسحاب من جانب واحد من القطاع من تحقيق جميع أهدافه.
غونتر غروس، ذاك الأديب الألماني الكبير رحل عن عالمنا قبل ثمانية أعوام. كان يوصف بضمير ألمانيا وعميد أدبائها، لم يتردد في توجيه النقد لدولة إسرائيل، لم يتردد في المطالبة بنزع أسلحتها النووية، في قصيدته المشهورة «ما ينبغي أن يقال «وجه في وقت مبكر انتقادات لاذعة إلى سياسة وسلوك بنيامين نتنياهو متحررا من عقدة الذنب الألمانية، فالنازية في ألمانيا وأهوال الهولوكوست (المحرقة) ليست ذريعة لأن نصمت على امتلاك إسرائيل السلاح النووي». في قصيدته حاول غروس ما أمكنه ذلك تحطيم «صنم عبادة» هو معاداة السامية ووقف يحذر العالم من جنون الغطرسة الإسرائيلية، وهو جنون يمكن أن يتخطى جنون العدوان الهمجي الراهن على قطاع غزة وما يرافقه من جرائم حرب إلى ما هو أعظم وأخطر، إذا ما تجاوزت خطوة بايدن إرسال حاملات الطائرات والبوارج والمدمرات إلى شرق البحر الأبيض المتوسط حدود المناورة السياسية .
{ عضو المكتب السياسي للجبهة
الديمقراطية لتحرير فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك