يقول الراضون عن الهبة الفلسطينية التي انطلقت من قطاع غزة، من خارج فلسطين إنها جاءت نتيجة استفزاز طويل من جانب هجمات المستوطنين ضد المدنيين الفلسطينيين والتوسع الاستيطاني في الضفة الغربية وفى القدس وسياسات اليمين المتطرف الشريك في الحكومة والمواقف المتخاذلة للسلطة في رام الله ونتيجة عرض نتنياهو في الأمم المتحدة لخريطة تظهر إسرائيل محتلة كل فلسطين التاريخية والجولان ولم تعترض دولة غربية واحدة وبخاصة الولايات المتحدة على هذا التحدي الصارخ للأمم المتحدة بينما تصر على كونها حامية قواعد العمل الدولي.
ويقول الغاضبون إنها جاءت نتيجة تدريب طويل لقوات حماس وتحميس من جانب إيران ودعم مستمر وإن مستتر من جانب دول عربية ونتيجة تعمق الخلافات داخل مراتب وفصائل المقاومة الفلسطينية. يقول مراقبون إن الهبة الحماسية الأخيرة حلقة في سلسلة هبات تحمل جميعها سمات غزاوية بامتياز ومتأثرة بالتطورات في الكيان الفلسطيني الأكبر، ولكن جاءت هذه الهبة الأخيرة متأثرة أكثر من الهبات السابقة بالتطورات المهمة التي جرت في إقليم الشرق الأوسط وإسرائيل بشكل خاص وفي العالم الخارجي بشكل عام. جاءت أيضا متفاعلة بشدة مع حال احتقان قومي على مستوى النظام العربي ككل وحال نهوض سياسي متعثر على مستوى ما صار يعرف بعالم الجنوب. لن أستطيع في هذه الساعات المبكرة وأمامي على الشاشة صور لإحدى آخر محارق العصر، محرقة بأيدي أحفاد من نجوا من محارق هتلر، لن أستطيع في مساحتي الراهنة إلا أن ألم بأقل القليل من الملاحظات.
كان المنظر السياسي لرد فعل أمريكا والاتحاد الأوروبي دافعا للشفقة. ليس هكذا يجب أن تدار الأزمات الساخنة. سواء صدرت ردود الفعل من الرئيس الأمريكي بلسانه أو من موظفيه على وزن كبار مساعديه وخاصة كل من بلينكين وسوليفان والتي صدرت على الناحية الأخرى من الأطلسي من السيدة أورسولا صاحبة الوزن الخفيف جدا في معظم المهام التي كلفت بتنفيذها، فقد جاءت جميعها تعبر بكل الصدق عن سبب من أهم أسباب «وكسة» الغرب الراهنة. حاملة طائرات أمريكية تتحرك في اتجاه الشرق الأوسط لترهيب الفلسطينيين بينما لم يصدر عتاب أمريكي لخطاب نتنياهو في الجمعية العامة أو لموقف حكومته من عمليات القتل العمد لفلسطينيين على أيدي مستوطنين ولم يصدر عن واشنطن أو بروكسل ما يمكن أن يردع إسرائيل عن بناء مستوطنات وهدم منازل فلسطينيين.
كنا، في هذا الجزء من العالم، نأمل في أن تفتح الهبة الفلسطينية عيون وعقول السياسيين في الغرب على حقيقة أن استمرار انحدار الغرب صار يكلف العالم غاليا. أوكرانيا تدفع هذه الأيام ولأيام كثيرة قادمة جانبا من هذا الثمن. بل سمعت ورأيت سياسيا كبيرا جدا في حكومة الهند يجرب حظ بلاده باللعب مع الغرب والإعلام الصهيوني على مصائر شعب في الشرق الأوسط متجاهلا أبجديات الإقليم أو جاهلا بها. لم نكد نتفاءل خيرا بتوسع مجموعة البريكس وباحتمالات العودة إلى ممارسة دبلوماسية جنوبية جديدة تستعيد للشعوب استقلال إرادتها وتحررها من هيمنة العقلية الاستعمارية الانجلو فونية والفرانكوفونية على حد سواء إلا ووجدنا بعض ساسة الهند يقررون الانصياع نحو تنفيذ ما أملته واشنطن على عديد الدول في العالم للتعامل مع هذا التطور الجديد في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
نعرف، والعالم يعرف، أن ثلث حكومات العرب متوقفة أو موقوفة عن العمل. نعرف، والعالم يعرف، أن الجامعة العربية بهذا المعنى ومعانٍ أخرى تعمل بأقل من نصف طاقتها وبأقل من ربع إرادتها. نعرف أيضا، ويعرف حكام إسرائيل الجدد والقدامى على حد سواء أن العربي العادي في كل بيت وشارع غاضب أشد الغضب، وليس هناك من أو ما يمكنه أن يمتص هذا الغضب أو يخفف من وقعه على سلوك هذا العربي أو غيره في الأيام والشهور والسنوات المقبلة.
سمعت من حكيم غربي قوله، «غدا أو بعد غد وقد برد غضب نتنياهو وعصابته وهدأت شهوتهم للقتل والإبادة تحت تأثير الإجماع الغربي ضد الفلسطينيين، لماذا لا نبدأ بجمع الطرفين على مائدة «سلام أبدي»؟. لن تمانع حكومات العرب أو على الأقل الموجود منها». سمعت حكيما آخر يرد عليه بالقول، «كيف توصلت إلى قناعة تقضي بأن كلا من تركيا وإيران لن تحاولا ملء فراغ أخلته توازنات قوة جديدة في الإقليم».
سمعت ثالثا ادعى الحكمة بواقعية هادئة، سمعته ينصح بـ «ألا تتعجلوا.. فحملة الانتخابات الأمريكية لم تبدأ فعليا وسوف تزداد بالتأكيد حاجة بايدن وفلوله في الحزب الديمقراطي إلى أصوات اليهود وتمويلات الجمعيات الصهيونية، فليستمر القتل المتبادل ليستمر معه الطلب الإسرائيلي على الدعم المعنوي والمادي نقدا وسلاحا من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي ومحاولات من أجل تطبيع أشمل وأعمق مع نظام عربي أو شرق أوسطي جديد».
قرأت لرابع تحليلا يحمل الزعم بالفهم الواثق للعقل السياسي المهيمن هذه الأيام على تفكير صانع السياسة في واشنطن وما وراءها من مؤسسات أعمق. يفترض التحليل أن أزمة غزة الأخيرة كانت الفرصة الثمينة أمام حكومة بايدن لاستعادة لم شمل حلفاء الغرب. حليف بعد الآخر يعترض على نصيبه في دعم الحرب الأوكرانية، حليف آخر ينتخب حكومة ضد الحرب أو أقرب للتحالف مع روسيا، حليف ثالث أو رابع يدعى حقا في قيادة فصيل من الحلفاء غير المطمئنين لقيادة الرئيس بايدن لحلف الأطلسي وغير الواثقين في الوقت نفسه من «صحة» قلب السياسة الأمريكية، فالقيادة السياسية للحزبين في واشنطن مفككة ومتخاصمة وبدائل المستقبل لا توحي بالثقة والاطمئنان. أضف إلى ما سبق حقيقة أن «المسألة الغربية» تزداد تعقيدا مع مرور الوقت ومع كل انحدار، أو سمِّه تدهورا، في حال النظام السياسي للمملكة المتحدة، الحليف «المرجع» لواشنطن.
مرة أخرى يخرج من يلقي باللوم على روسيا. روسيا مسؤولة عن الصراعات الدائرة، أو كانت دائرة، في القوقاز بين الآذريين والأرمن وفى البلقان بين كوسوفو وصربيا وفى إفريقيا بين شعوبها وفرنسا والآن في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين. سخف حتى وإن صدر حقا عن هنري كيسنجر.
نسأل مع السائلين، «من، وماذا، يمكن أن يروي ظمأ بنيامين نتنياهو الشخصي إلى الانتقام من كل الذين في الداخل الإسرائيلي والخارج الفلسطيني والشرق أوسطي تسببوا بشكل مباشر أو غير مباشر في إشعال هذه الهبة الغزاوية أو طوروها أو استفادوا منها؟». القضية بالفعل هي الآن في أحد جوانبها على الأقل قضية شخصية. هذا الرجل لن يتاح له مرة أخرى هذا الدعم الغربي الكبير لشخصه المكروه غالبا في معظم عواصم الغرب وفى بعض دوائر اليهود الأمريكيين، ومكروه بالتأكيد داخل إسرائيل من جانب التيارات الديمقراطية والعلمانية والإصلاحية كما أوضحت أزمة إصلاح قانون الحكم والقضاء. مكروه الرجل وأعوانه المقربون داخل عواصم عربية عديدة، مكرهون بسبب عنصريتهم وتعاليهم المتعمد على السياسيين العرب. مكروه بخاصة ومكروهة علاقته الوثيقة بوزير الدفاع الذي دأب على وصف خصوم إسرائيل في صفوف المقاومة الفلسطينية، والعربية عموما، بالحيوانات المتوحشة.
هناك، على الناحية الأخرى، أفرز الانتقام الإسرائيلي دمارا غير متناسب بالمرة مع ما تسببت فيه الهبة الغزاوية من خسائر في الأرواح والممتلكات الإسرائيلية. عشرات الألوف من الفلسطينيين، وأكثرهم من أبناء وأحفاد النكبة الأولى، يجدون أنفسهم لاجئين ونازحين وأمامهم مساكنهم ينبعث من ركامها الدخان مختلطا بالتراب. سوف يكتمون في صدورهم الأسى والغضب ليوم أو شهر أو عقد أو حتى لقرن لكنهم سوف يعودون.
{ كاتب ومحلل سياسي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك