كانت جميع المعجزات التي أظهرها الله تعالى على أيدي الرسل الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم) معجزات مادية تنتهي بانتهاء زمن الرسول، وزمن رسالته التي بُعِثَ بها كل رسول، فزمن هذه المعجزة محدود، وأمكنتها محدودة، ولما أراد الحق سبحانه وتعالى ختم الرسالات برسالة محمد (صلى الله عليه وسلم) اختار له معجزة دائمة باقية، وهي القرآن العظيم، وهو معجزة صالحة لكل زمان، ولكل مكان، والتحدي بها ليس مرهونًا بزمان محدد، أو مكان معين.. لًقد تحداهم الله تعالى بأن يأتوا بمثل هذا القرآن فلم يقدروا على ذلك، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات، فلم يستطيعوا ذلك، ثم طلب منهم أن يأتوا بسورة واحدة من مثله مفتراة فعجزوا عن ذلك كله، وهم أرباب البلاغة والبيان، وهم من رواة الشعر ونظمه حتى أنهم كانوا يقيمون الأسواق الأدبية للشعراء ويعلقون القصائد الفائزة على أستار الكعبة تشريفًا لها واعترافًا بتميز صاحب المعلقة عن نظرائه من الشعراء.. إذًا، فقد تحداهم الحق سبحانه وتعالى بجنس ما برعوا فيه، ورُغْمَ ذلك خابوا وفشلوا ولَم يجاروا القرآن في بلاغته، وعلو بيانه، وجمال أسلوبه وحسن صياغته، ولقد أجاز لهم الحق سبحانه بأن يستعينوا بمن يشاؤون من الجن والإنس، قال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الإسراء / 88.
إذًا، فالقرآن معجزة تدل على صدق الرسول المبلغ عن الله تعالى، وهو خاتم الأنبياء والرسل الكرام، وواحد من أولي العزم من الرسل، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد (صلوات الله تعالى وسلامه عليهم) وهو كتاب هداية: هداية الدلالة، وهداية التمكين، قال الله تعالى عن الهداية الأولى وهي: هداية الدلالة: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان..) البقرة/ 185.
وكلمة «الناس» لفظ عام يشترك فيه المؤمن وغير المؤمن، وهو هنا معناه عموم الناس، فقد جاء القرآن ومهمته الأساس دعوة الناس إلى الصراط المستقيم، ثم يترك لهم حرية الاختيار في أن يقبلوا هذه الدعوة أو يرفضوها بعد أن تبين لهم الرشد من الغي، قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي..) البقرة / 256. فمن قبل بهداية الدلالة، ولزم طريقها أعانه الله تعالى بهداية التمكين حتى يجتاز العقبات التي قد تعترض سبيله، ونجد هذا المعنى من معاني الدلالة، وهو هداية التمكين والمعونة في قوله تعالى: (ألم (1) ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين (2)) البقرة.. إذًا، فهذا هو حال الناس مع معنى الهدايتين، وهذا ما يجب عليهم حيالهما، وهذا هو شأن القرآن العظيم وبلاغته في تحديد معنى الهداية وسبر أغوارها، ولكن هل القرآن كتاب تاريخ، أو فلسفة، أو كيمياء، أو علم اجتماع؟! القرآن ليس كتابًا بهذا المعنى لكنه له مقاربات تشير إلى قضايا علمية لو تدبرها أهل الاختصاص من العلماء لأنارت لهم السبل إلى فتوحات علمية ذات شأن عظيم، تأملوا قول الحق سبحانه في آيات سورة الغاشية: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20)).
هذه أسئلة في البحث العلمي لو تدبرها العلماء المسلمون لفتح الله تعالى عليهم فتوحات علمية عظيمة، ولقد أشار القرآن العظيم إلى العلماء من ذوي التخصصات العالية، وأنهم أكثر الناس خشية لله تعالى لأنهم تدبروا آياته في الكون، يقول تعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلف ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء (28)) فاطر.
إذًا، فالعلماء المختصون في هذه العلوم المادية هم أشد الناس خشية لله تعالى لأنهم أكثر معرفة به، ولأنهم علموا بعض سننه وقوانينه. ومن المقاربات التي يلفتنا إليها القرآن الكريم ليبين لنا صلته بعلم التاريخ، قال تعالى: (نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين) يوسف / 3. وهذه الآية الجليلة جاءت في بداية سورة يوسف على نبينا وعليه الصلًاة والسلام، وهي قصة طويلة متكاملة من البداية إلى النهاية لًيؤكد الحق سبحانه وتعالى بها على صلة القرآن العظيم بعلم التاريخ، ثم أشار القرآن إلى قصة أهل الكهف الذين اختلف الناس في شأنهم، فحسم القرآن الجدل حولهم، فقال سبحانه وتعالى: )نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى (13) وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعوا من دونه إلهًا لقد قلنا إذًا شططا (14) الكهف.
ومن المقاربات العلمية التي أشار إليها القرآن الحكيم حديثه عن استدامة العذاب للكفار يوم القيامة حين قال سبحانه: (إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزًا حكيمًا) (النساء / 56) ولقد تنبه العلماء أخيرًا إلى أن الإحساس هو في الجلد، فإذا احترق الجلد توقف الإحساس بالألم، وتوقف العذاب، والله سبحانه يريد دوام العذاب لهم.
هذه بعض مقاربات القرآن الحكيم في إشارات واضحة الدلالة على حضور النص الديني في حياة المسلمين، وإنها بعض المفاتيح التي يفتح الله سبحانه كنوز العلوم والمعارف، وكانت السبب وراء نشوء الحضارة الإسلامية العظيمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك