ضمن سلسلة الحوارات الفكرية التي ينظمها مركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات» نظم المركز في 11 أكتوبر 2023م حواراً فكرياً بعنوان «دور التخطيط الاستراتيجي في عمل المؤسسات» والذي تضمن أربع مشاركات مهمة بعضها تناول الجوانب التاريخية للموضوع والبعض الآخر تناول تجارب عملية لكيفية تأثير التخطيط الاستراتيجي في عمل المؤسسات، فضلاً عن المناقشات المهمة التي أثيرت حول تلك المشاركات، وواقع الأمر أن موضوع التخطيط الاستراتيجي أصبح مثار اهتمام دول العالم كافة ،صحيح أن الأمر ليس بالجديد ولكنه تطور مع تطور البشرية ذاتها فلم يعد مرتبطاً بالجوانب العسكرية والأمنية وإنما طال كل مناحي الحياة لسبب بسيط مؤداه هو أنه دائماً ما تواجه المؤسسات بل والدول ذاتها فجوة فيما تطمح إليه من أهداف والموارد المتاحة لديها لتحقيق تلك الأهداف ومن هنا تجيء أهمية التخطيط الاستراتيجي، من ناحية ثانية أدت جائحة كورونا إلى إثارة الاهتمام بشكل كبير بالتخطيط الاستراتيجي وأهميته المحورية، فضلاً عن أن الكوارث التي يشهدها العالم على نحو غير مسبوق نتيجة التغير المناخي وتملي على الدول الاهتمام بالتخطيط الاستراتيجي، ولست هنا بصدد الحديث عن تعريفات ونماذج التخطيط الاستراتيجي وهي عديدة للغاية ولكن ما يهمني هو أهمية ومتطلبات وتحديات التخطيط الاستراتيجي وهي قضايا أثيرت خلال الندوة المشار إليها.
فعند الحديث عن أهمية التخطيط الاستراتيجي فلا شك أن الأهمية المحورية للتخطيط الاستراتيجي هي حسن توظيف الموارد المتاحة لدى الدولة لتحقيق أهدافها في كل المجالات، بما يعنيه ذلك من أن التخطيط الاستراتيجي هو ترجمة للقدرات ولكن بشكل شامل ومنسق وواضح ومحدد، فهناك بعض الدول لديها أهداف طموحة وهو حق مشروع لها ولكن لا توجد قدرات تدعم تلك الأهداف وهنا تكمن أهمية التخطيط الاستراتيجي الذي يعد دليلاً عاماً للدولة ومؤسساتها لأنه ينطلق من الواقع ويستهدف الإجابة على تساؤلات مترابطة وهي: من نحن؟ وما قدراتنا؟ وما الذي نريد تحقيقه؟ وما الأولويات؟ بمعنى آخر ما القضايا الملحة التي يجب العمل عليها وفي أي مدى زمني يجب العمل على تلك القضايا؟ وما البيئة التي نعمل فيها سواء أكانت محلية أو إقليمية أو عالمية بما فيها من فرص وتحديات؟ وصولاً إلى وضع مؤشرات للقياس، وجميعها قضايا كانت محل نقاش خلال ندوة دراسات، وفي تقديري أن الأمر المهم أيضاً في التخطيط الاستراتيجي هو المرونة بحيث يمكن الاستجابة لأي متغيرات والقدرة على تعديل الأداء إذا ما اقتضت الحاجة إلى ذلك.
أما عن متطلبات التخطيط الاستراتيجي فإنها في تصوري تعني موارد ذلك التخطيط وهي الدعم المالي والأفراد وسبل العمل، فلابد قبل الحديث عن الخطط الاستراتيجية أن يتم تحديد الموارد المتاحة والدعم المخصص للتخطيط الاستراتيجي، ثم الأفراد وخاصة المؤهلات التي يجب توافرها في هؤلاء الأشخاص لوضع الخطط الاستراتيجية في كل المجالات وعما إذا كانت هناك مواصفات نوعية يتعين توافرها في هؤلاء الأشخاص وخاصة أن التخطيط الاستراتيجي يتطلب تراكم خبرات لدى القائمين عليه بالنظر إلى تكرار الأزمات والكوارث على سبيل المثال بما يعني إمكانية استخلاص الدروس المستفادة بشأن وضع خطط مواجهتها وصولاً إلى سبل العمل ويكون ذلك من خلال إدارة أو لجنة أو مؤسسة بل أحياناً بعض الدول تنشئ وزارة خاصة بهذا الأمر.
ومع أهمية التخطيط الاستراتيجي لكونه خططا تتضمن العمل على المدى القريب والمتوسط والبعيد وهي تقسيمات مستوحاة من علم الإدارة واختلف الباحثون في تحديد المدى الزمني لكل منها إلا أن ثمة تحديات تواجه التخطيط الاستراتيجي ومنها أربعة تحديات على سبيل المثال لا الحصر أولها: التطور التكنولوجي الهائل والذي بقدر ما به من فرص فإنه يتضمن تحديات منها أنه من الصعب وضع خطط على المدى البعيد في مجالات ومنها على سبيل المثال عقد صفقات تسلح لمدى زمني طويل في ظل تأثير التكنولوجيا على نوعية الأسلحة ذاتها، وثانيها: يلاحظ في عديد من الدول أن هناك تخطيطا على مستوى مؤسسي وكذلك على مستوى الدولة ككل إلا أنه في بعض الأزمات فإن التساؤل حول كيفية تكامل المستويين وخاصة إذا كانت أزمات نوعية على غرار جائحة كورونا، وثالثها: عدم استمرارية القائمين على التخطيط الاستراتيجي ذاته وهي إحدى النقاط المهمة التي أثيرت في الندوة بما يتناقض مع طبيعة التخطيط الاستراتيجي الذي يتطلب تراكم الخبرة والمعرفة، ورابعها: مدى احتواء التخطيط الاستراتيجي على خطط عملية لمواجهة الأزمات والكوارث، صحيح أن التخطيط الاستراتيجي يتضمن خططا شاملة ولكن بالنظر إلى طبيعة الأزمات التي تتسم بعنصر المفاجأة وتحتاج إلى قرار حاسم في وقت محدود فإن التخطيط الاستراتيجي لابد وأن يتضمن سيناريوهات معدة سلفاً للتعامل مع مثل هذه الحالات وببساطة تتلخص في معادلة مؤداها: من يفعل ماذا وكيف؟ وقد أولت الكثير من الكليات التي تعنى بموضوع التخطيط الاستراتيجي في العالم تلك القضية أهمية بالغة من خلال تنظيم تمرينات افتراضية والتي تحقق ثلاث فوائد وهي تحديد القدرات ثم الأهداف ثم الفجوات التي يجب العمل على تلافيها خلال مواجهة الأزمات وذلك على مستويات وفي مجالات عديدة ويطلق عليها «نماذج المحاكاة».
ومع أهمية ما سبق أتصور أنه لا تزال هناك متطلبات للاهتمام بقضية التخطيط الاستراتيجي عموماً منها أن يكون ضمن المقررات الدراسية في الكليات المعنية ليس من المنظور النظري بل كيفية ربط الأمر بتجارب واحتياجات دول المنطقة ، فضلاً عن دور المراكز الفكرية ليس فقط بتنظيم المزيد من الفعاليات ذات الصلة بالموضوع ولكن الإصدارات اللازمة من أجل التوعية بتلك المسألة ما يسهم في ترسيخ ثقافة التخطيط الاستراتيجي مجتمعياً، وآخراً وليس أخيراً بالنظر إلى حداثة الخبرات العربية في مجال التخطيط الاستراتيجي وخاصة التخطيط خلال الأزمات المحتملة ومن بينها حالات التسرب النووي والإشعاعي والكوارث الناجمة عن التغير المناخي، وفي ظل التحديات الأمنية الهائلة التي تواجه دول المنطقة فإن ثمة حاجة ملحة للتعرف على تجارب الدول الأخرى في مجال التخطيط الاستراتيجي، صحيح أن التخطيط الصحيح والفعال يظل وليداً لبيئته المحلية والإقليمية إلا أن هناك العديد من الدروس المستفادة في مواجهة التحديات الراهنة ومنها على سبيل المثال لا الحصر التهديدات السيبرانية وتهديدات الأمن البحري وعلى المستوى المؤسسي كيفية تكامل جهود المؤسسات مع خطط الدول ككل سواء في تنفيذ الخطط الاستراتيجية أو خلال الأزمات والكوارث. ومجمل القول إن التخطيط الاستراتيجي يعد البوصلة التي تحدد مسار المؤسسات والدول على حد سواء والتي يجب إيلاء المزيد من الاهتمام به على المستويين الفكري والعملي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك