بغض النظر عن الاستراتيجية المحددة التي تنتهجها حركة حماس الفلسطينية، أو أي حركة فلسطينية أخرى، فإن الحملة العسكرية الفلسطينية الجريئة التي وصلت إلى عمق إسرائيل، يوم السبت 7 أكتوبر 2023، لم تكن ممكنة إلا لأن الفلسطينيين ضاقوا ذرعا بواقع الاحتلال الاستيطاني الجاثم على حياتهم على مدى عقود من الزمن.
قبل 17 عاماً، فرضت إسرائيل حصاراً وحشيا على قطاع غزة. غالبًا ما يتم تقديم عملية الحصار وفق تفسيرين مختلفين تمامًا. فبالنسبة إلى البعض، يعد هذا عملاً غير إنساني من أعمال «العقاب الجماعي»، وبالنسبة إلى الآخرين، فهو شر لا بد منه حتى تتمكن إسرائيل من حماية نفسها مما يسمى بالإرهاب الفلسطيني.
لكن الشيء المفقود إلى حد كبير في القصة هو أن 17 عامًا هي فترة كافية لينشأ جيل كامل تحت الحصار، ويلتحق بالمقاومة ويقاتل من أجل حريته.
ووفقا لمنظمة إنقاذ الطفولة، فإن ما يقرب من نصف الفلسطينيين الذين يعيشون في غزة اليوم والبالغ عددهم 2.3 مليون نسمة هم من الأطفال.
وغالباً ما يتم غرس هذه الحقيقة لوصف معاناة السكان الذين لم يخرجوا أبداً من القطاع الفقير الصغير الذي تبلغ مساحته 365 كيلومتراً مربعاً، أي حوالي 141 ميلاً مربعاً.
لكن مرة أخرى، وعلى الرغم من أن الأرقام قد تبدو دقيقة، إلا أنها غالبًا ما تُستخدم لسرد جزء صغير من قصة معقدة.
إن هذا الجيل الذي ولد ونشأ في غزة بعد فرض الحصار، شهد ما لا يقل عن خمس حروب مدمرة كبرى، كان الأطفال، مثلهم، وأمهاتهم وآباؤهم وإخوتهم، المستهدفين الرئيسيين وضحاياها.
كتب صن تزو في كتابه «فن الحرب» يقول: «إذا حاصرت عدوك بالكامل، ولم تمنحه أي فرصة للهروب، ولا تقدم له أي مكان، فسوف يقاتل حتى النهاية».
ومع ذلك، سنة بعد سنة، هذا هو بالضبط ما فعلته إسرائيل. وقد ثبت أن هذه الاستراتيجية كانت خطأً كبيراً. وحتى مجرد محاولة الاحتجاج على ظلم الحصار، من خلال التجمع بأعداد كبيرة عند سياج غزة، الذي يفصل القطاع المحاصر عن إسرائيل، لم يكن مسموحًا به.
وتم الرد على الاحتجاجات الحاشدة، المعروفة باسم مسيرة العودة الكبرى، برصاص القناصة الإسرائيليين. أصبحت مشاهد الشباب وهم يحملون شبابًا آخرين ينزفون ويصرخون (الله أكبر) مشهدًا منتظمًا عند الجدار. ومع زيادة عدد الضحايا، تلاشى اهتمام وسائل الإعلام بالقصة مع مرور الوقت.
إن مئات المقاتلين الذين عبروا إلى إسرائيل عبر أربع نقاط دخول مختلفة فجر السابع من أكتوبر، كانوا هم نفس هؤلاء الشباب الفلسطينيين الذين لم يعرفوا شيئاً سوى الحرب والحصار والحاجة إلى حماية بعضهم البعض.
لقد تعلموا كيفية البقاء على قيد الحياة، على الرغم من نقص كل شيء يمت بالحياة في غزة، بما في ذلك المياه النظيفة والرعاية الطبية المناسبة. وهنا تتقاطع قصة هذا الجيل مع قصة حماس أو الجهاد الإسلامي أو أي جماعة فلسطينية أخرى.
نعم، لقد اختارت حماس توقيت وطبيعة حملتها العسكرية لتتناسب مع استراتيجية دقيقة للغاية. ومع ذلك، لم تكن هذه الاستراتيجية ممكنة لو لم تترك إسرائيل لهؤلاء الشباب الفلسطينيين أي خيار آخر سوى القتال.
وأظهرت مقاطع فيديو تم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي مقاتلين فلسطينيين وهم يصرخون باللغة العربية، بلهجة غزة المميزة والقاسية في كثير من الأحيان، «هذا لأخي»، «هذا لابني».
لقد رددوا هذه العبارات وغيرها من العبارات الغاضبة أثناء إطلاق النار وسط المستوطنين والجنود الإسرائيليين المذعورين. وقد ترك هؤلاء الأخيرون مواقعهم وهربوا في مناسبات عديدة.
من المؤكد أن التأثير النفسي لهذه الحرب سيتجاوز ما حدث في أكتوبر 1973، عندما حققت الجيوش العربية مكاسب سريعة ضد إسرائيل، وذلك بعد هجوم مفاجئ أيضًا.
هذه المرة، سوف يثبت التأثير المدمر على التفكير الإسرائيلي الجماعي أنه سيغير قواعد اللعبة، لأن «الحرب» تشمل مجموعة فلسطينية واحدة، وليس جيشا كاملا، أو ثلاثة جيوش.
ومع ذلك، يرتبط الهجوم المفاجئ في 7 أكتوبر 2023 ارتباطًا مباشرًا بالحرب العربية الإسرائيلية في شهر أكتوبر 1973.
وباختيارها الذكرى الخمسين لما يعتبره العرب انتصارا كبيرا على إسرائيل، أرادت المقاومة الفلسطينية أن تبعث برسالة واضحة: قضية فلسطين لا تزال قضية العرب جميعا.
في الواقع، كانت جميع التصريحات التي أدلى بها كبار القادة العسكريين والقادة السياسيين في حماس محملة بمثل هذه الرمزية وغيرها من الإشارات إلى الدول والشعوب العربية.
ولم يكن هذا الخطاب القومي اعتباطيا، بل برز في تصريحات قائد كتائب القسام محمد ضيف، والقائد المؤسس للقسام، صالح العاروري، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، وأبو عبيدة المتحدث الملثم الشهير للكتائب.
لقد حثوا جميعا على الوحدة وأصروا على أن فلسطين ليست سوى عنصر من عناصر النضال العربي الإسلامي الأكبر من أجل العدالة والكرامة والشرف الجماعي.
وأطلقت الجماعة على حملتها اسم «طوفان الأقصى»، وبالتالي إعادة توحيد الوحدة الفلسطينية والعربية والمسلمة حول القدس وجميع أماكنها المقدسة.
وبدا الجميع مصدومين، بما في ذلك إسرائيل نفسها، ليس من هجوم حماس في حد ذاته، بل من التنسيق الكبير والجرأة التي تميزت بها العملية الضخمة التي لم يسبق لها مثيل.
لذا، بدلاً من الهجوم ليلاً، هاجمت المقاومة عند الفجر. وبدلاً من ضرب إسرائيل باستخدام الأنفاق العديدة تحت غزة، فقد توجهوا ببساطة إلى هناك، ونزلوا بالمظلات، ووصلوا عن طريق البحر، وفي كثير من الحالات، عبروا الحدود مشياً على الأقدام.
أصبح عنصر المفاجأة أكثر إرباكًا عندما تحدى المقاتلون الفلسطينيون أساسيات حرب العصابات: فبدلاً من خوض «حرب مناورة»، خاضوا، ولو بشكل مؤقت، «حرب مواقع»، وبالتالي صمدوا لساعات عديدة في المناطق التي سيطروا عليها داخل إسرائيل نفسها.
وفي الواقع، بالنسبة إلى المجموعات في غزة، كانت الحرب النفسية حاسمة مثل القتال الجسدي. وتم بث مئات من مقاطع الفيديو والصور عبر جميع قنوات التواصل الاجتماعي، كما لو كان يأمل في إعادة تعريف العلاقة بين الفلسطينيين، الضحية المعتادة، وإسرائيل، المحتل العسكري.
إن الإصرار على عدم قتل المسنين والأطفال، كما أكد مختلف القادة الميدانيين، لم يكن موجها للفلسطينيين فقط. وكانت أيضًا رسالة للجمهور الدولي مفادها أن المقاومة الفلسطينية ستلعب وفقًا للقواعد العالمية المقبولة.
النظر إلى عدد الفلسطينيين الذين تقتلهم إسرائيل، أو ستقتلهم، فإن ردها الانتقامي، رغم أنه مأساوي، لن ينقذ الصورة الممزقة لجيش غير منضبط، ومجتمع منقسم، وقيادة سياسية تركز فقط على بقائها.
ومن السابق لأوانه التوصل إلى استنتاجات شاملة بشأن نتائج هذه الحرب غير المسبوقة. لكن الأمر الواضح تمامًا هو أن العلاقة الأساسية بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيين الخاضعين للاحتلال بعد 7 أكتوبر 2023، من المرجح أن تتغير، وبشكل دائم.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك