في عام 1974، في الذكرى الأولى لانتصار أكتوبر، أقيم مهرجان كبير ومسابقات أدبية عديدة بين مدارس وزارة التربية في مدينتي، وكنت حينها طالبا في الثاني المتوسط (الإعدادي)، فشاركت بقصة قصيرة حازت المركز الثالث على مستوى المحافظة، وهي بعنوان «نهر الدم»، تتحدث عن فتى فلسطيني يسكن في أحد المخيمات الفلسطينية في الأردن، بعد أن قتل الصهاينة والده أمام عينيه وهجروا أسرته وغيرها من الأسر إلى الأردن، فظل مشهد قتل والده يؤجج حماسه واستعداده للثأر، فانتمى لأحدى منظمات المقاومة الفلسطينية وتدرب على السلاح، حتى جاء اليوم الذي كلف فيه بعبور نهر الأردن، وتنفيذ عملية فدائية، وفعلا تمكن في جنح الظلام من عبور نهر الأردن باتجاه فلسطين السليبة ونفذ ما مطلوب منه، وعاد ليعبر النهر سباحة باتجاه الأردن، إلا أن الجنود الصهاينة تمكنوا منه، فأردوه قتيلا وهو في منتصف النهر، ليصطبغ النهر بالدم، فكان ذلك ثمنا لابد منه للحرية.
واليوم وبعد نصف قرن وفي ذات المناسبة يتكرر المشهد نفسه عبر عملية طوفان الأقصى، وان كان مشهد نهر الدم مشهدا قصصيا، لكنه في السابع من أكتوبر 2023 مشهدا واقعيا، فقد أربك المقاتلون الفلسطينيون حسابات العدو الصهيوني وأثبتوا فشل خططه ودفاعاته، ونظمه الاستخبارية، وقبته الحديدية، وسيناريوهاته المستقبلية، فكان رده الإجرامي الأهوج وابل متواصل من الصواريخ والمقذوفات المحرمة دوليا لقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وتدمير المدارس والمستشفيات والعمارات السكنية، ومختلف مكونات البنية التحتية، ومنع الكهرباء والماء والغذاء عن الشعب العربي الفلسطيني المحاصر في غزة.
ومثلما كشف الكيان الصهيوني عن أنيابه وحقيقته العنصرية الإجرامية أمام العالم أجمع، حيث تعدى رد فعله معاقبة حماس كما يدعي إلى قتل الشعب الفلسطيني وتهجيره من جديد، فقد كشفت الولايات المتحدة الأمريكية عن استمرار انحيازها ووقوفها العسكري التام إلى جانب المحتل الصهيوني، ضاربة عرض الحائط بعلاقاتها العربية ووعودها في رعاية وإحلال السلام.
وإذا كان عديد من المحللين السياسيين والمتابعين العرب يتحدثون في الأشهر الثلاثة الماضية عن انفتاح جديد في العلاقات العربية الأمريكية، وعن سعي أمريكا لإذابة الجليد الذي طوى علاقاتها العربية خلال السنوات الماضية من حكم الرئيس الأمريكي جو بايدن، فقد أظهرت الأحداث أن لا أمل بموقف أمريكي محايد بين العرب وإسرائيل، فإرسال حاملات الطائرات الأمريكية إلى البحر المتوسط وتزويد إسرائيل بأحدث الأسلحة وأكثرها فتكا، ومحاولة الضغط على مصر لقبول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وزيارات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى المنطقة للضغط على الحكومات العربية، وزيارة جو بايدن وإعلان تضامنه مع إسرائيل، كلها تدلل على أن أمريكا لا يمكن الوثوق بها، ولا يمكنها أن تكون راعية لسلام حقيقي في المنطقة. ولا يمكن أن تضغط على إسرائيل لقبول حل الدولتين.
كما إن الدول العربية وعلى الرغم من إمكاناتها العسكرية والسياسية والأمنية المحدودة بالمقارنة، لا يمكن أن تتراجع عن ثوابتها القومية وتخضع للمنطق الأمريكي الصهيوني حتى وإن كان ميزان القوى مختلا وليس في صالحها، ولنا في خطاب جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البحرين المعظم في الثامن من شهر أكتوبر 2023 في افتتاح دور الانعقاد الثاني من الفصل التشريعي السادس لمجلسي الشورى والنواب وتأكيده موقف البحرين الثابت تجاه القضية الفلسطينية بالقول «وستبقى قضية العرب الأولى أولويتنا الكبرى، وموقف مملكة البحرين في دعم وتأييد جهود السلام الشاملة لإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، لهو موقف ثابت لا حياد عنه، وصولاً إلى حل الدولتين وفق مبادرة السلام العربية» مثالا يحتذى به، فضلا عن جهود جلالته في زيارته لجمهورية إيطاليا وتأكيد جلالته النهج الثابت لمملكة البحرين الداعي إلى «تعزيز الأمن والاستقرار وترسيخ السلام الذي يتحقق من خلال إعطاء الشعب الفلسطيني الشقيق حقوقه المشروعة وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية، وصولا إلى حل الدولتين وفق مبادرة السلام العربية، وبما يضمن حق الشعب الفلسطيني الشقيق في إقامة دولته المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية».
فضلا عن توجيهات جلالته لحكومة المملكة بتقديم مساعدات عاجلة إلى الشعب الفلسطيني من خلال وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين، وإطلاق حملة «أغيثوا غزة»، وغيرها من الأنشطة البحرينية على الصعيد الوطني والإقليمي والعالمي لإغاثة ودعم وحماية الشعب الفلسطيني.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك