لم يكن مفاجئا حصول انتفاضة فلسطينية مسلحة (الانتفاضة الثالثة)، وكنا قد حذرنا منذ عام من الزمن، كما حذر غيرنا، وكررنا ذلك مرارا في مقالات عديدة أن الانفجار آتٍ وأن الكيل قد طفح. وتكفى شرارة بسيطة لتُحدث الانفجار الذي حصل. وللتذكير فقد أكمل اتفاق أوسلو أو ما عرف باتفاق إعلان المبادئ الفلسطيني الإسرائيلي عقده الثالث في الشهر الماضي الذي أطلق مرحلة انتقالية (تشمل بالطبع مفاوضات) وتستمر فترة سنوات خمس من الزمن، وتنتهي بالتسوية الدائمة على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338. وكما ذكر رئيس الوزراء الفلسطيني، محمد أشتية، أمام اجتماع المانحين الشهر الماضي في نيويورك على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة، فإن اتفاق السلام تبخر في كل الجوانب الأمنية والسياسية والقانونية والمالية.
وقد اعتبر كثير أن الاتفاق دخل في حالة موت سريري رغم عديد من المحاولات عبر اجتماعات ثنائية ودولية هدفت لإنعاشه، ولكنها لم تمارس ما يفترض أن تقوم به من ضغوط على سلطات الاحتلال لتحرر خريطة الطريق التي نتجت عن ذلك الاتفاق وتعيد تفعيلها.
دلت السياسات الإسرائيلية غداة أوسلو أن الهدف من الاتفاق لم يتخطَ منح بعض الصلاحيات البلدية للسلطة الفلسطينية وبعض المسؤوليات الأمنية نيابة عن سلطات الاحتلال في واقع الأمر. كما أن الاتفاق يفترض أن يفتح الباب تدريجيا أمام مسار التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية، الأمر الذي يشكل هدفا استراتيجيا لاندماج إسرائيل في المنطقة والاستفادة من ذلك في مختلف المجالات. سقط «الملف الفلسطيني» عن جدول الأولويات الإقليمية، مع وجود قضايا ضاغطة ومشتعلة في الإقليم ومع حالات الضعف والتفكك والانقسامات التي نخرت الجسم السياسي والمؤسسي الفلسطيني.
حكومة اليمين الصهيوني الديني التي جاءت بشكل علني لتطرح تحقيق الحلم الصهيوني بإقامة إسرائيل الكبرى من نهر الأردن إلى المتوسط عبر سياسة صدامية قائمة على تهويد الديمغرافيا والجغرافيا، وذلك في ظل صمت عربي ودولي لا يتخطى في أفضل حالاته الإدانة والتحذير والمناشدة، أسهم أيضا بشكل كبير في حصول صاعق التفجير وهو الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى وعلى الأماكن والرموز الدينية الإسلامية والمسيحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، الأمر الذى هيأ الأرضية لإطلاق انتفاضة «طوفان الأقصى» لحركة حماس وانضمت إليها حركة الجهاد الإسلامي. وتشهد الأراضي الفلسطينية حربا على الحدود الفاصلة بين شرق قطاع غزة وإسرائيل، وتحولا نوعيا في القتال إذ طال الداخل الإسرائيلي.
وتذكرنا الحرب التي انفجرت والتي سمتها إسرائيل بعملية السيوف الحديدية، بما كانت قد سمته ضد غزة في صيف 2006 والتي امتدت إلى (نوفمبر) بعملية أمطار الصيف.
الوساطات والمبادرات الدبلوماسية انطلقت بهدف خفض التوتر والتهدئة، ولكن ذلك لن يوفر الاستقرار المنشود والحقيقي وبالتالي الدائم والذي يقوم على إحياء عملية السلام ووضعها على سكة التسوية، حسب المرجعيات الدولية ولو بشكل بطيء.
رغم أن القضية الفلسطينية ليست على سلم الأولويات الدولية ولا الإقليمية ولكن مخاطر استمرار التوتر والقتال والدخول في حرب استنزاف ممتدة تشهد تخفيضا وتصعيدا ولو نجحت الأطراف المعنية مؤقتا في احتواء التصعيد، يحمل انعكاسات سلبية على مستوى الإقليم وعلى مصالح القوى الدولية المعنية ولو بدرجات مختلفة في الإقليم. الرباعي الدولي (الأمم المتحدة، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، وروسيا الاتحادية) لا يمكنه أن يكون فاعلا حاليا، ولم يكن ذات فعالية كبرى أساسا، بسبب الخلاف الروسي الغربي في إطاره ما يشل قدرته على لعب أي دور.
بقي أن هنالك قوى دولية وإقليمية مختلفة منها أطراف الرباعي قادرة أن تلعب دورا، ضمن صيغ وهياكل تعاون متعددة، لإعادة إحياء عملية السلام. بالطبع يبقى العائق الرئيسي أمام وضع عملية السلام على سكة التسوية وهي سكة طويلة، مرتبطة بقدرة العامل الدولي وكذلك الإسرائيلي الداخلي متى شعر الأخير بالسخونة وانسداد الأفق أمام تحقيق أهداف الحكومة الحالية، وبمخاطر انفجار الوضع والذهاب نحو المجهول على إحداث التغيير المطلوب داخليا: تغيير الحكومة أو تغيير جذري في سياساتها وهذا الأمر الأخير مستبعد.
ذلك ليس بالأمر السهل أو السريع التحقيق ولكنه بالممكن مع الوقت كشرط ضروري وأيضا غير كافٍ لتلافي انفجار كبير ستكون له ارتداداته في الإقليم بدرجات ومستويات مختلفة. تلافي الانفجار بدلا من استراتيجيات تأجيله وشراء الوقت عبر مراهم التهدئة والاحتواء والوعود تستدعي ولوج باب التسوية الشاملة والعادلة وبالتالي الدائمة للصراع ذات الأوجه والأبعاد والتداعيات المختلفة على أطرافه وفى الإقليم، وأعتقد أننا ما زلنا بعيدين عن تحقيق ذلك، ولكن تلك التسوية البعيدة تبقى المدخل الواقعي الوحيد لنزع فتيل الانفجار والدخول في مسار بناء الاستقرار.
كلمة أخيرة: ماذا حول لبنان؟، هل يحصل تصعيد مقيد على الحدود، نشهد إرهاصاته حاليا، تصعيد من نوع تبادل رسائل تحذير وردع استباقي. فلا مصلحة لأحد بانفجار الوضع والذهاب نحو المجهول. ولكن يبقى الحذر قائما، فأي تصعيد عبر «لعبة تبادل الرسائل» قد يودي إلى الانزلاق نحو الحرب المفتوحة.
{ وزير خارجية لبنان الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك