العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

العدوان على غزة.. وحرب الرهانات القصوى

بقلم: د. برهان غليون

الخميس ٢٦ أكتوبر ٢٠٢٣ - 02:00

كان‭ ‬لإعلان‭ ‬نهاية‭ ‬المواجهة‭ ‬العربية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬واضحا‭ ‬في‭ ‬الأعوام‭ ‬الماضية‭ ‬نتيجتان‭ ‬الأولى‭: ‬بروز‭ ‬الحرب‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بصورة‭ ‬مباشرة‭ ‬ومستقلّة‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬أيديولوجية‭ ‬الفصائل‭ ‬التي‭ ‬تخوضها‭ ‬وخياراتها‭ ‬السياسية‭. ‬والثانية،‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عنها،‭ ‬انهيار‭ ‬السردية‭ ‬التي‭ ‬دأبت‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬ترديدها‭ ‬لكسب‭ ‬تعاطف‭ ‬المجتمع‭ ‬الدولي‭ ‬أن‭ ‬المسألة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬مصطنعة‭ ‬من‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬المعادية‭ ‬للسامية‭ ‬التي‭ ‬تختلق‭ ‬النزاع‭ ‬معها،‭ ‬للتغطية‭ ‬على‭ ‬إخفاقاتها‭ ‬الداخلية‭. ‬وقد‭ ‬أتاح‭ ‬هذا‭ ‬كله‭ ‬لقطاعاتٍ‭ ‬واسعةٍ‭ ‬من‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬العالمي‭ ‬اكتشاف‭ ‬الحقيقة‭ ‬التي‭ ‬عملت‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬إخفائها،‭ ‬وهي،‭ ‬ببساطة،‭ ‬واقع‭ ‬الاحتلال‭ ‬ووجود‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ومقاومته‭ ‬المستمرّة‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬سبعة‭ ‬عقود،‭ ‬وسقوط‭ ‬ترّهة‭ ‬تصوير‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬أدوات‭ ‬في‭ ‬يد‭ ‬الدول‭ ‬المعادية‭ ‬التي‭ ‬ترفض‭ ‬الاعتراف‭ ‬بالمحرقة‭ ‬اليهودية‭ ‬التي‭ ‬جاء‭ ‬قيام‭ ‬إسرائيل‭ ‬ردّا‭ ‬سياسيا‭ ‬وأخلاقيا‭ ‬‮«‬نبيلا‮»‬‭ ‬عليها‭ ‬كما‭ ‬صور‭ ‬الغرب‭ ‬ذلك‭.‬

ومن‭ ‬يستعيد‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬العقود‭ ‬الطويلة‭ ‬الماضية‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬الأرض‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المقدّسة‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أديان‭ ‬يرى،‭ ‬بوضوح،‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬في‭ ‬حروبها‭ ‬العديدة‭ ‬مع‭ ‬الوطنية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬والمحيط‭ ‬العربي،‭ ‬سوى‭ ‬هدف‭ ‬واحد،‭ ‬تأكيد‭ ‬صدق‭ ‬الشعار‭ ‬الذي‭ ‬اعتمدته‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬منذ‭ ‬تحرير‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬اليهود‮»‬‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬بلا‭ ‬شعب‭ ‬لشعب‭ ‬بلا‭ ‬أرض‮»‬‭. ‬ومن‭ ‬هنا‭ ‬أصبح‭ ‬القضاء‭ ‬السياسي،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬المادي،‭ ‬على‭ ‬الشعب‭ ‬الموجود‭ ‬فيها‭ ‬وتغييبه،‭ ‬بل‭ ‬إنكار‭ ‬وجوده‭ ‬أصلا‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬وخارجها‭ ‬محور‭ ‬السياسة‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬‮ ‬بأكملها،‭ ‬فهي‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬الاعتراف‭ ‬بوجوده،‭ ‬ولو‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين،‭ ‬نفيا‭ ‬لشرعية‭ ‬وجودها،‭ ‬أو‭ ‬بالأحرى‭ ‬ادّعائها‭ ‬ملكية‭ ‬فلسطين‭ ‬الحصرية‭ ‬وحقها‭ ‬التاريخي‭ ‬في‭ ‬وراثتها‭ ‬ومصادرتها‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شريك،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬تحويلها‭ ‬إلى‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬صافية،‭ ‬مستلهمة‭ ‬نموذج‭ ‬الدولة‭ ‬‮ ‬الألمانية‭ ‬العنصرية‭ ‬التي‭ ‬أرادت‭ ‬النازية‭ ‬تخليصها‭ ‬من‭ ‬‮«‬الشوائب‮»‬‭ ‬العرقية‭ ‬والأقليات‭ ‬غير‭ ‬الآرية،‭ ‬لتكون‭ ‬تعبيرا‭ ‬عن‭ ‬هويتها‭ ‬وتفوّقها‭ ‬الطبيعي‭ ‬وعبقريتها،‭ ‬والتي‭ ‬كان‭ ‬أبرز‭ ‬ضحاياه‭ ‬الطائفة‭ ‬اليهودية‭ ‬ذاتها‭. ‬لكن‭ ‬الآية‭ ‬كانت‭ ‬معكوسة‭ ‬هنا،‭ ‬فليست‭ ‬الأكثرية‭ ‬القومية‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تريد‭ ‬تطهير‭ ‬نفسها‭ ‬من‭ ‬الأقلية‭ ‬‮«‬الناشزة‮»‬،‭ ‬وإنما‭ ‬العكس‭.‬

يشبه‭ ‬وضع‭ ‬المسألة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬بالأحرى،‭ ‬ما‭ ‬حصل‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية،‭ ‬عندما‭ ‬قرّرت‭ ‬الجماعات‭ ‬الأوروبية‭ ‬القادمة‭ ‬من‭ ‬أوروبا‭ ‬المأزومة‭ ‬مهاجمتها‭ ‬وتفريغ‭ ‬القارّة‭ ‬من‭ ‬سكّانها‭ ‬الأصليين‭ ‬لاستعمارها‭ ‬وتقاسم‭ ‬الأراضي‭ ‬والمصالح‭ ‬فيها‭ ‬بين‭ ‬الغُزاة‭ ‬البيض‭. ‬من‭ ‬هنا،‭ ‬جاءت‭ ‬استراتيجية‭ ‬التهجير‭ ‬الجماعي‭ (‬والمذابح‭ ‬إحدى‭ ‬أدواتها‭) ‬ومحو‭ ‬اسم‭ ‬فلسطين‭ ‬وتاريخها‭ ‬والدولة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬قائمة‭ ‬فيها‭ ‬باسم‭ ‬دولة‭ ‬فلسطين،‭ ‬ومصادرة‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬تملكه‭ ‬من‭ ‬إرثٍ‭ ‬مادي‭ ‬ولا‭ ‬مادي‭ ‬لحسابها،‭ ‬ثم‭ ‬نزع‭ ‬هوية‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬كشعب،‭ ‬وإطلاق‭ ‬اسم‭ ‬عرب‭ ‬إسرائيل‭ ‬عليهم‭ ‬لحرمانهم‭ ‬من‭ ‬حقوقهم‭ ‬السياسية‭ ‬وشرعنة‭ ‬انتزاع‭ ‬أراضيهم‭ ‬وممتلكاتهم‭ ‬لصالح‭ ‬إقامة‭ ‬المستوطنات‭ ‬اليهودية‭. ‬ولقطع‭ ‬الطريق‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬أمل‭ ‬لهؤلاء‭ ‬‮«‬العرب‮»‬‭ ‬بالحصول‭ ‬على‭ ‬حقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وتحويلهم‭ ‬إلى‭ ‬لاجئين‭ ‬داخل‭ ‬بلادهم‭ ‬صوت‭ ‬الكنيست‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬على‭ ‬قانون‭ ‬يهودية‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬19‭ ‬يوليو‭ ‬2018،‭ ‬فصارت‭ ‬إسرائيل‭ ‬دولة‭ ‬لليهود،‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬منشؤهم‭ ‬وأصلهم‭ ‬ووطنهم‭ ‬الأصلي،‭ ‬وصار‭ ‬الفلسطينيون،‭ ‬أصحابها‭ ‬الأصليون،‭ ‬لاجئين،‭ ‬لا‭ ‬هوية‭ ‬سياسية‭ ‬لهم،‭ ‬سواء‭ ‬لا‭ ‬يزالون‭ ‬يقيمون‭ (‬مؤقتا‭) ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬أو‭ ‬يقيمون‭ ‬خارجها‭ ‬في‭ ‬مخيمات‭ ‬اللجوء‭. ‬وبالتواطؤ‭ ‬مع‭ ‬الكتلة‭ ‬الغربية‭ ‬التي‭ ‬رعت،‭ ‬منذ‭ ‬البداية،‭ ‬ولا‭ ‬تزال،‭ ‬قيام‭ ‬إسرائيل‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬يظهر‭ ‬من‭ ‬قضية‭ ‬فلسطين‭ ‬سوى‭ ‬جانبها‭ ‬الإنساني،‭ ‬أي‭ ‬مشكلة‭ ‬لاجئين‭ ‬تقع‭ ‬مسؤولية‭ ‬حلها،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬القضايا‭ ‬الإنسانية،‭ ‬على‭ ‬دول‭ ‬اللجوء‭ ‬العربية‭ ‬والمجتمع‭ ‬الدولي‭.‬

من‭ ‬المستحيل‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬المنظور‭ ‬تصوّر‭ ‬أي‭ ‬مخرج‭ ‬للنزاع‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬الفلسطيني‭ ‬غير‭ ‬الحرب‭ ‬الدائمة،‭ ‬فطرد‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬بأي‭ ‬وسيلة،‭ ‬وإخراجهم‭ ‬من‭ ‬فلسطين،‭ ‬سواء‭ ‬بالتهجير‭ ‬أو‭ ‬بحصارهم‭ ‬في‭ ‬معازل‭ ‬وجيتوات‭ ‬داخلها‭ ‬وإخفاء‭ ‬وجودهم‭ ‬بأي‭ ‬شكل،‭ ‬هو‭ ‬شرط‭ ‬وجود‭ ‬فلسطين‭ ‬دولة‭ ‬يهودية‭ ‬صافية‭ ‬أو‭ ‬خالصة‭ ‬ليهودها،‭ ‬والصراع‭ ‬ضد‭ ‬الطابع‭ ‬الصهيوني‭ (‬العنصري‭) ‬لإسرائيل‭ (‬أي‭ ‬ملكيتها‭ ‬الحصرية‭ ‬لليهود‭) ‬هو‭ ‬شرط‭ ‬استعادة‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬اللاجئين‭ ‬في‭ ‬الداخل‭ ‬والخارج‭ ‬لصفة‭ ‬الشعب‭ (‬بدلا‭ ‬من‭ ‬اللاجئين‭ ‬والنازحين‭) ‬وحقوق‭ ‬المواطنة‭ ‬السياسية‭ ‬والقانونية‭ ‬معا‭.‬

من‭ ‬هنا،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الممكن‭ ‬لتاريخ‭ ‬إسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬إعلانها‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬تاريخ‭ ‬الحروب‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المنظّمة‭ ‬ضد‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬جهة،‭ ‬وتاريخ‭ ‬المقاومات‭ ‬الفلسطينية‭ ‬بكل‭ ‬أشكالها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬أخرى‭. ‬الأولى‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إفراغ‮»‬‭ ‬الدولة‭ ‬من‭ ‬فلسطينييها‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تحييدهم،‭ ‬وهذا‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬مركز‭ ‬الجهد‭ ‬ومحور‭ ‬النقاش‭ ‬والصراع‭ ‬السياسي‭ ‬والأيديولوجي‭ ‬الدائم‭ ‬بين‭ ‬يهود‭ ‬إسرائيل،‭ ‬أحزابا‭ ‬وحكومات،‭ ‬والثانية،‭ ‬المقاومة،‭ ‬تهدف‭ ‬إلى‭ ‬البحث‭ ‬بكل‭ ‬الوسائل‭ ‬عن‭ ‬‮«‬الدخول‮»‬‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭/ ‬إسرائيل،‭ ‬والعودة‭ ‬إليها‭ ‬واختراق‭ ‬أسوارها‭ ‬وتحصيناتها‭ ‬المادية‭ ‬والأيديولوجية‭.‬

هذا‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬عداء‭ ‬الحكومات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المستمر‭ ‬والثابت‭ ‬للفظ‭ ‬فلسطين‭ ‬أو‭ ‬فلسطيني،‭ ‬ورفضها‭ ‬المنهجي‭ ‬أي‭ ‬مشاريع‭ ‬أو‭ ‬مبادرات‭ ‬فلسطينية‭ ‬أو‭ ‬عربية‭ ‬أو‭ ‬أممية‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬أو‭ ‬تسعى‭ ‬إلى‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسويةٍ‭ ‬أو‭ ‬حلٍّ‭ ‬سياسي،‭ ‬لا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬حلّ‭ ‬الدولتين‭ ‬المنفصلتين،‭ ‬ولا‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬دولة‭ ‬ديمقراطية‭ ‬واحدة‭ ‬يتساوى‭ ‬فيها‭ ‬اليهود‭ ‬والفلسطينيون،‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬حال‭ ‬جميع‭ ‬الدول‭ ‬المتمدّنة،‭ ‬وإصرارها‭ ‬عكس‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬استغلال‭ ‬أي‭ ‬فرصة‭ ‬أو‭ ‬ذريعة‭ ‬لبناء‭ ‬المستعمرات‭ ‬على‭ ‬الأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المصادرة‭ ‬وترحيل‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬الذين‭ ‬يشكّل‭ ‬وجودهم‭ ‬هاجسا‭ ‬دائما‭ ‬لإسرائيل،‭ ‬وإنكار‭ ‬حق‭ ‬العودة‭ ‬على‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬والرمي‭ ‬عرض‭ ‬الحائط‭ ‬بجميع‭ ‬قرارات‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬ومبادرات‭ ‬السلام‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬طرفٍ‭ ‬جاءت‭. ‬وربما‭ ‬يلقي‭ ‬هذا‭ ‬الواقع‭ ‬الضوء‭ ‬على‭ ‬المصير‭ ‬التراجيدي‭ ‬لأحد‭ ‬أبرز‭ ‬قادة‭ ‬اسرائيل‭ ‬إسحق‭ ‬رابين،‭ ‬الذي‭ ‬اغتاله‭ ‬متطرّف‭ ‬يهودي،‭ ‬حالما‭ ‬أعلن‭ ‬نيته‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬مسار‭ ‬سلام‭ ‬وتسوية‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭.‬

لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الحالة،‭ ‬بعد‭ ‬تقويض‭ ‬مفاوضات‭ ‬سلام‭ ‬أوسلو‭ ‬وإخفاق‭ ‬محاولات‭ ‬الترحيل‭ ‬الجماعي‭ ‬لسكان‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬تُطرح‭ ‬خلال‭ ‬الأزمة‭ ‬الراهنة‭ ‬مسألة‭ ‬ترحيل‭ ‬أهالي‭ ‬غزّة‭ ‬إلى‭ ‬سيناء‭ ‬بشكل‭ ‬علني‭ ‬اليوم،‭ ‬خيار‭ ‬آخر‭ ‬يسمح‭ ‬بتغييب‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وتحييدهم‭ ‬سياسيا،‭ ‬سوى‭ ‬إقامة‭ ‬جدار‭ ‬ثم‭ ‬نظام‭ ‬فصل‭ ‬عنصري‭ ‬شبيه‭ ‬بما‭ ‬عرفته‭ ‬جنوب‭ ‬أفريقيا‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭. ‬هكذا‭ ‬تحوّلت‭ ‬غزّة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬جيتو‮»‬‭ ‬كبير‭ ‬لمليوني‭ ‬فلسطيني‭. ‬أما‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬فقسّمت‭ ‬إلى‭ ‬مجموعات‭ ‬من‭ ‬المناطق‭ ‬المحاصرة‭ ‬بالمستعمرات‭ ‬والمنذورة‭ ‬للتفكيك‭ ‬والاحتواء‭. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لهذا‭ ‬الخيار‭ ‬أن‭ ‬يتحقّق‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬أشلاء‭ ‬أيديولوجيات‭ ‬اليسار‭ ‬التي‭ ‬حكمت‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬مرحلة‭ ‬قيامها‭ ‬الأولى‭ ‬وانحسار‭ ‬أفكارها‭ ‬لصالح‭ ‬أيديولوجيات‭ ‬عنصرية،‭ ‬ساهمت‭ ‬في‭ ‬تغذيتها‭ ‬الإسلاموفوبيا‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬في‭ ‬الغرب،‭ ‬بسبب‭ ‬بعض‭ ‬العمليات‭ ‬التي‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬جماعات‭ ‬فلسطينية‭ ‬أو‭ ‬عربية‭ ‬على‭ ‬أرضية‭ ‬الصراع‭ ‬الفلسطيني‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬أيضا‭ ‬بمثل‭ ‬ما‭ ‬تغذّت‭ ‬منها‭. ‬هكذا‭ ‬انحسرت‭ ‬التيارات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬الديمقراطية‭ ‬الأكثر‭ ‬اعتدالا،‭ ‬وسيطرت‭ ‬على‭ ‬الصراع‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬الداخلي‭ ‬المزايدات‭ ‬بين‭ ‬يمين‭ ‬ويمين‭ ‬اليمين‭ ‬واليمين‭ ‬الأكثر‭ ‬تطرّفا،‭ ‬ما‭ ‬أدخل‭ ‬السياسة‭ ‬الصهيونية‭ ‬في‭ ‬أزمة‭ ‬أيديولوجية‭ ‬خانقة‭ ‬ووضع‭ ‬إسرائيل،‭ ‬كما‭ ‬أشار‭ ‬مراقبون‭ ‬عديدون‭ ‬ونقلته‭ ‬الصحافة،‭ ‬على‭ ‬أبواب‭ ‬حرب‭ ‬أهلية‭.‬

من‭ ‬الصعب‭ ‬لأحد‭ ‬أن‭ ‬يتنبأ‭ ‬بتطور‭ ‬الأحداث‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الصدام‭ ‬المتعدّد‭ ‬الأقطاب،‭ ‬إذ‭ ‬تجد‭ ‬جميع‭ ‬الأطراف‭ ‬نفسها‭ ‬في‭ ‬الخندق‭ ‬الأخير‭ ‬دفاعا‭ ‬عن‭ ‬رهاناتها‭. ‬الفلسطينيون‭ ‬الذين‭ ‬يلعبون‭ ‬بورقتهم‭ ‬الأخيرة‭ ‬للحفاظ‭ ‬على‭ ‬حلمهم‭/ ‬حقهم‭ ‬بفرض‭ ‬حلٍّ‭ ‬سياسي‭ ‬يفضي‭ ‬إلى‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬إسرائيل‭ ‬تضمّ‭ ‬ما‭ ‬تبقى‭ ‬لهم‭ ‬من‭ ‬فلسطين،‭ ‬وتنقذ‭ ‬تضحياتهم‭ ‬الهائلة‭ ‬قرنا‭ ‬كاملا‭ ‬تقريبا،‭ ‬وإسرائيل‭ ‬الصهيونية‭ ‬التي‭ ‬تلعب‭ ‬مصيرها‭ ‬دولة‭ ‬عنصرية‭ ‬لا‭ ‬شريك‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬التي‭ ‬كانت،‭ ‬وينبغي‭ ‬أن‭ ‬تبقى‭ ‬أرضا‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شعب‭ ‬لشعبٍ‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬أرض‭. ‬وإلا‭ ‬سوف‭ ‬تُكره‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بتنازلاتٍ‭ ‬في‭ ‬هوية‭ ‬إسرائيل‭ ‬الصهيونية‭ ‬نفسها‭ ‬إذا‭ ‬اعترفت‭ ‬بوجود‭ ‬شعب‭ ‬فلسطيني،‭ ‬في‭ ‬إسرائيل‭ ‬أو‭ ‬خارجها‭.. ‬وفي‭ ‬المقابل،‭ ‬لا‭ ‬يسمح‭ ‬التكتّل‭ ‬الغربي،‭ ‬وفي‭ ‬مقدمته‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬بنهاية‭ ‬لهذه‭ ‬المواجهة،‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬نتيجتها‭ ‬تقزيم‭ ‬إسرائيل‭ ‬ونزع‭ ‬الطابع‭ ‬الاستثنائي‭ ‬عنها‭ ‬وإجبارها‭ ‬على‭ ‬الخضوع‭ ‬للقانون،‭ ‬وبالتالي،‭ ‬هزيمة‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬امتداد‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وقاعدة‭ ‬عسكرية‭ ‬أساسية،‭ ‬تضمن‭ ‬له‭ ‬نفوذه‭ ‬الاستثنائي‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬استثنائية‭ ‬من‭ ‬الناحية‭ ‬الجيوستراتيجية،‭ ‬ولا‭ ‬يزال‭ ‬يستخدم‭ ‬تفوّقها‭ ‬بنجاح‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬لفرض‭ ‬إرادته‭ ‬على‭ ‬شعوبها‭ ‬وإجبار‭ ‬حكوماتها‭ ‬على‭ ‬الخضوع‭ ‬لحساباته‭ ‬وخدمة‭ ‬مصالحه‭.‬

لكن،‭ ‬مهما‭ ‬كانت‭ ‬قوّة‭ ‬التدخّل‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬وأغراضه‭ ‬ونتائجه،‭ ‬وحجم‭ ‬الدعم‭ ‬العسكري‭ ‬والسياسي‭ ‬للحلفاء‭/ ‬الشركاء‭ ‬الغربيين،‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬أمام‭ ‬إسرائيل،‭ ‬بعد‭ ‬صفعة‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬التي‭ ‬أعادت‭ ‬فلسطين‭ ‬إلى‭ ‬واجهة‭ ‬الأحداث،‭ ‬وأحبطت‭ ‬محاولات‭ ‬تغييب‭ ‬الشعب‭ ‬والقضية‭ ‬معا،‭ ‬سوى‭ ‬أحد‭ ‬خيارين‭: ‬الدخول،‭ ‬ولو‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬المعركة،‭ ‬في‭ ‬مفاوضاتٍ‭ ‬جدّية‭ ‬تنهي‭ ‬سياسة‭ ‬الإنكار،‭ ‬وتسعى‭ ‬إلى‭ ‬تطبيق‭ ‬حلّ‭ ‬الدولتين‭ ‬الذي‭ ‬أصبح‭ ‬يحظى‭ ‬بإجماع‭ ‬عربي‭ ‬ودولي‭ ‬شامل،‭ ‬أو‭ ‬الهرب‭ ‬إلى‭ ‬الأمام‭ ‬والتقدّم‭ ‬نحو‭ ‬حرب‭ ‬شاملة‭ ‬وحاسمة،‭ ‬تقضي‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬تعتقد‭ ‬تل‭ ‬أبيب‭ ‬أنه‭ ‬المشكلة‭ ‬الأساسية‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تهدّد‭ ‬وجودها،‭ ‬والتي‭ ‬أخفقت‭ ‬في‭ ‬حلها،‭ ‬وهي‭ ‬محاولة‭ ‬إبادة‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬وتغييب‭ ‬حضوره‭ ‬السياسي‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬بارزا‭ ‬وفاقعا‭ ‬لعين‭ ‬خصومه‭ ‬كما‭ ‬هو‭ ‬عليه‭ ‬اليوم،‭ ‬في‭ ‬مقاومته‭ ‬الاستثنائية‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬لكن‭ ‬أكثر‭ ‬في‭ ‬طوفان‭ ‬دماء‭ ‬أبنائه‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتوقف‭. ‬لكن‭ ‬لن‭ ‬يعني‭ ‬اختيار‭ ‬كهذا‭ ‬سوى‭ ‬سوْق‭ ‬المنطقة‭ ‬بأكملها‭ ‬نحو‭ ‬دوامة‭ ‬الهاوية‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬إسرائيل‭.‬

{ كاتب‭ ‬ومفكر‭ ‬سوري

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا