العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

ازدواجية معايير الغرب تغطي على حرب الإبادة في غزة

بقلم: د. أسامة مقدسي {

الجمعة ٠٣ نوفمبر ٢٠٢٣ - 02:00

ظل‭ ‬الحب‭ ‬الغربي‭ ‬المتجذر‭ ‬للصهيونية‭ ‬يعتمد‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬محو‭ ‬التاريخ‭ ‬الفلسطيني‭ ‬والإنسانية‭ ‬الفلسطينية‭. ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬العالم‭ ‬الغربي،‭ ‬كان‭ ‬الرعب‭ ‬الرسمي‭ ‬والإعلامي‭ ‬من‭ ‬هجوم‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬غير‭ ‬المسبوق‭ ‬في‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬على‭ ‬إسرائيل،‭ ‬والذي‭ ‬أسفر‭ ‬عن‭ ‬مقتل‭ ‬ما‭ ‬يقدر‭ ‬بنحو‭ ‬1300‭ ‬جندي‭ ‬ومدني،‭ ‬مصحوبًا‭ ‬بتأييد‭ ‬ساحق‭ ‬لوحشية‭ ‬إسرائيل‭ ‬المستمرة‭ ‬تجاه‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬والتي‭ ‬أدت‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬إلى‭ ‬مقتل‭ ‬وجرح‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬22000‭ ‬شخص‭ ‬من‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬وأغلبهم‭ ‬من‭ ‬المدنيين‭.‬

لقد‭ ‬كشفت‭ ‬أحدث‭ ‬دفعة‭ ‬من‭ ‬المحبة‭ ‬الغربية‭ ‬المفرطة‭ ‬للصهيونية‭ ‬بشكل‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحا‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬عن‭ ‬المعايير‭ ‬المزدوجة‭ ‬الفاضحة‭ ‬التي‭ ‬تكمن‭ ‬وراء‭ ‬ارتباط‭ ‬الغرب‭ ‬بإسرائيل‭: ‬ففي‭ ‬حين‭ ‬تعتبر‭ ‬الحياة‭ ‬اليهودية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬والدولة‭ ‬مقدسة‭ ‬فعلياً‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬المعاصر،‭ ‬فإن‭ ‬الحياة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬الإسلامية‭ ‬والمسيحية‭ ‬يتم‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬قيمتها‭ ‬بشكل‭ ‬أساسي‭.‬

وفي‭ ‬ظل‭ ‬هذه‭ ‬المعايير‭ ‬المزدوجة،‭ ‬تتكشف‭ ‬أمام‭ ‬أعيننا‭ ‬محاولة‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬اليوم‭ ‬السكان‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭.‬

تعتمد‭ ‬الفلسفة‭ ‬الصهيونية‭ ‬على‭ ‬ركيزتين‭. ‬تتمثل‭ ‬الركيزة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬وجهة‭ ‬نظر‭ ‬غربية‭ ‬معممة‭ ‬مفادها‭ ‬أن‭ ‬إنشاء‭ ‬إسرائيل‭ ‬هو‭ ‬مكافأة‭ ‬عادلة‭ ‬وأخلاقية‭ ‬لتاريخ‭ ‬معاداة‭ ‬السامية‭ ‬الأوروبية‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬ذروته‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬بات‭ ‬يسمى‭ ‬بالمحرقة‭. ‬أما‭ ‬الركيزة‭ ‬الثانية‭ ‬فهي‭ ‬تتمثل‭ ‬في‭ ‬الشيطنة‭ ‬العنصرية‭ ‬المستمرة‭ ‬لمعارضي‭ ‬إسرائيل‭ ‬باعتبارهم‭ ‬برابرة‭ ‬غير‭ ‬غربيين‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬غريب‭ ‬معاد‭ ‬للسامية‭.‬

والحقيقة‭ ‬أن‭ ‬الدعم‭ ‬الغربي‭ ‬لإسرائيل‭ ‬ترجع‭ ‬جذوره‭ ‬إلى‭ ‬إنكار‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬باعتبارهم‭ ‬شعبا‭ ‬له‭ ‬تاريخ‭ ‬وثقافة‭ ‬عمرها‭ ‬قرون‭ ‬في‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين‭ ‬التاريخية‭.‬

لم‭ ‬يشر‭ ‬وعد‭ ‬بلفور‭ ‬لعام‭ ‬1917‭ ‬سيء‭ ‬السمعة‭ ‬إلى‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬أو‭ ‬العرب‭ ‬بشكل‭ ‬مباشر،‭ ‬ولكنه‭ ‬ألمح‭ ‬ببساطة‭ ‬إلى‭ ‬وجود‭ ‬‮«‬المجتمعات‭ ‬غير‭ ‬اليهودية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تتضاءل‭ ‬أهميتها‭ ‬التاريخية‭ ‬والأخلاقية‭ ‬والسياسية‭ ‬بالمقارنة‭ ‬مع‭ ‬‮«‬الشعب‭ ‬اليهودي‮»‬،‭ ‬الذي‭ ‬وجدت‭ ‬تطلعاته‭ ‬الوطنية‭ ‬التأييد‭ ‬من‭ ‬الحكومة‭ ‬البريطانية‭.‬

إن‭ ‬حقيقة‭ ‬أن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬العرب،‭ ‬مسلمين‭ ‬ومسيحيين‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬كانوا‭ ‬يشكلون‭ ‬الأغلبية‭ ‬الساحقة‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬ذات‭ ‬أهمية‭ ‬للفكر‭ ‬والممارسات‭ ‬الصهيونية‭ ‬اليهودية‭ ‬والمسيحية‭.‬

ولأن‭ ‬إسرائيل‭ ‬أنشئت‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬مجتمع‭ ‬عربي‭ ‬متجذر‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬فإن‭ ‬التفكير‭ ‬الضمني‭ ‬عن‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الغربي‭ ‬لليهود‭ ‬الأوروبيين‭ ‬جاء‭ ‬على‭ ‬حساب‭ ‬الفلسطينيين‭. ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬الأمر‭ ‬كذلك‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭.‬

وتستمر‭ ‬هذه‭ ‬الحسابات‭ ‬غير‭ ‬الأخلاقية‭ ‬في‭ ‬إثراء‭ ‬الخطاب‭ ‬الغربي‭ ‬بشأن‭ ‬إسرائيل‭. ‬إن‭ ‬الصرح‭ ‬الأخلاقي‭ ‬الكامل‭ ‬للإنسانية‭ ‬الغربية‭ ‬المنغلقة‭ ‬والمركزية‭ ‬الأوروبية‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬عملت‭ ‬على‭ ‬إنشاء‭ ‬متاحف‭ ‬تشيد‭ ‬للذكرى،‭ ‬وخطاب‭ ‬عن‭ ‬التسامح‭ ‬والتأمل،‭ ‬وصراع‭ ‬مهووس‭ ‬ضد‭ ‬أشباح‭ ‬الماضي‭ ‬المعادي‭ ‬للسامية‭ ‬‭ ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬مبني‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬على‭ ‬أكتاف‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الأصليين،‭ ‬الذين‭ ‬هجِّروا‭ ‬من‭ ‬منازلهم‭ ‬وأيضا‭ ‬من‭ ‬التاريخ‭.‬

لقد‭ ‬قاوم‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬دائمًا‭ ‬هذه‭ ‬الأخلاق‭ ‬المغرضة،‭ ‬وقاوموا‭ ‬تهميشهم‭ ‬الأخلاقي‭ ‬والسياسي‭. ‬لكن‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬تم‭ ‬إخراجها‭ ‬من‭ ‬سياقها‭ ‬باستمرار،‭ ‬وتم‭ ‬تصويرها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬غير‭ ‬عقلانية‭ ‬وغير‭ ‬أخلاقية‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬القوى‭ ‬الغربية‭ ‬ووسائل‭ ‬الإعلام‭ ‬الرئيسية‭.‬

إن‭ ‬إسرائيل‭ ‬‮«‬الصالحة‮»‬‭ ‬لا‭ ‬تؤجج‭ ‬أعمال‭ ‬العنف‭ ‬أبداً؛‭ ‬إن‭ ‬ما‭ ‬تقوم‭ ‬به‭ ‬هو‭ ‬مجرد‭ ‬‮«‬انتقام‮»‬‭ ‬من‭ ‬همجية‭ ‬الإرهابيين‭ ‬المفاجئة‭ ‬والصادمة‭. ‬وسواء‭ ‬كانت‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬علمانية‭ ‬أو‭ ‬إسلامية،‭ ‬أو‭ ‬احتجاجًا‭ ‬مدنيًا‭ ‬أو‭ ‬كفاحًا‭ ‬مسلحًا،‭ ‬فإنها‭ ‬تُدرج‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬ضمن‭ ‬إطار‭ ‬سردي‭ ‬ضار،‭ ‬مغرض‭ ‬وسلبي‭.‬

لقد‭ ‬تم‭ ‬تطبيع‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬اليهودية‭ ‬الاستعمارية‭ ‬الاستيطانية‭ ‬وتنزيلها‭ ‬في‭ ‬مركز‭ ‬التاريخ‭ ‬الحديث،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تم‭ ‬إبعاد‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬إلى‭ ‬وراء‭ ‬كواليس‭ ‬التاريخ‭ ‬‭ ‬حيث‭ ‬إنهم‭ ‬في‭ ‬أحسن‭ ‬الأحوال،‭ ‬يقبعون‭ ‬كأجنحة‭ ‬غير‭ ‬مرئية‭ ‬للعمل‭ ‬الإنساني‭ ‬الغربي‭ ‬والدولي،‭ ‬وفي‭ ‬أسوأها،‭ ‬باعتبارهم‭ ‬‮«‬إرهابيين‭ ‬أشرار‮»‬‭ ‬يجب‭ ‬تكبيدهم‭ ‬الهزيمة‭ ‬بأي‭ ‬ثمن‭.‬

من‭ ‬الصعب‭ ‬للغاية‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬عديمي‭ ‬الجنسية‭ ‬والمضطهدين،‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬صوت‭ ‬طرقهم‭ ‬المرتفع‭ ‬على‭ ‬باب‭ ‬الوعي‭ ‬الغربي‭.‬

يتم‭ ‬تجاهل‭ ‬الحقائق‭ ‬الأساسية‭ ‬لتاريخ‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬ومجتمعهم‭ ‬المتجذر‭ ‬في‭ ‬التاريخ،‭ ‬الذي‭ ‬انقلب‭ ‬رأسًا‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬بسبب‭ ‬الاستعمار‭. ‬إن‭ ‬ثقافتهم‭ ‬المسكونة‭ ‬بالتعددية‭ ‬العميقة،‭ ‬والتي‭ ‬شكلها‭ ‬الإسلام‭ ‬والمسيحية،‭ ‬اختزلت‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬كاريكاتورية‭ ‬للتعصب‭ ‬الإسلامي‭.‬

كل‭ ‬هذا‭ ‬الإنكار‭ ‬والمحو‭ ‬يمكّن‭ ‬من‭ ‬بث‭ ‬الإشاعة‭ ‬الكاذبة‭ ‬بأن‭ ‬ما‭ ‬يحفز‭ ‬رغبة‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬المصير‭ ‬هو‭ ‬الكراهية‭ ‬غير‭ ‬العقلانية،‭ ‬وليس‭ ‬رغبة‭ ‬إنسانية‭ ‬أساسية‭ ‬وعالمية‭ ‬في‭ ‬العيش‭ ‬بحرية‭ ‬وكرامة‭ ‬كسائر‭ ‬الشعوب‭ ‬البشرية‭ ‬الأخرى‭.‬

يعتمد‭ ‬هذا‭ ‬التمثيل‭ ‬للمقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬بربرية‭ ‬على‭ ‬تقليد‭ ‬استعماري‭ ‬غربي‭ ‬أقدم‭ ‬بكثير‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬شيطنة‭ ‬أي‭ ‬شكل‭ ‬من‭ ‬أشكال‭ ‬ثورة‭ ‬السكان‭ ‬الأصليين‭ ‬أو‭ ‬العبيد‭ ‬ضد‭ ‬الاضطهاد‭.‬

تم‭ ‬تصوير‭ ‬الثوار‭ ‬الهايتيين‭ ‬الذين‭ ‬أطاحوا‭ ‬بالعبودية‭ ‬الفرنسية‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬متوحشون‭ ‬متعطشون‭ ‬للدماء‭. ‬وكذلك‭ ‬الحال‭ ‬بالنسبة‭ ‬إلى‭ ‬العبيد‭ ‬السود‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬الذين‭ ‬تجرأوا‭ ‬على‭ ‬الثورة،‭ ‬وأشهرها‭ ‬انتفاضة‭ ‬العبيد‭ ‬العنيفة‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬نات‭ ‬تورنر‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1831،‭ ‬والتي‭ ‬سحقها‭ ‬مالكو‭ ‬العبيد‭ ‬في‭ ‬فرجينيا‭ ‬بلا‭ ‬رحمة‭.‬

كانت‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬للشعوب‭ ‬الأصلية‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬أمريكا‭ ‬الشمالية‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬التقليل‭ ‬من‭ ‬قيمة‭ ‬حياتهم‭ ‬وتاريخهم،‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تحقيق‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬بنادق‭ ‬وحراب‭ ‬ومدافع‭ ‬الجيش‭ ‬الأمريكي‭ ‬ومليشيات‭ ‬الدولة‭ ‬التابعة‭ ‬له‭.‬

وبالمثل،‭ ‬تم‭ ‬تصوير‭ ‬الانتفاضة‭ ‬الهندية‭ ‬الضخمة‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬البريطاني‭ ‬عام‭ ‬1857‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الخرافة‭ ‬والتعصب‭ ‬الفطري‭ ‬لدى‭ ‬‮«‬الشرقيين‮»‬‭ ‬ضد‭ ‬الحضارة‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬البريطانية‭ ‬الراقية‭.‬

ومن‭ ‬هذه‭ ‬السوابق‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬جاءت‭ ‬عملية‭ ‬شيطنة‭ ‬الثورات‭ ‬الكبرى‭ ‬المناهضة‭ ‬للاستعمار‭ ‬في‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭. ‬في‭ ‬كل‭ ‬حالة،‭ ‬سواء‭ ‬كانت‭ ‬حالة‭ ‬الجزائريين،‭ ‬أو‭ ‬الكينيين،‭ ‬أو‭ ‬جنوب‭ ‬إفريقيا،‭ ‬أو‭ ‬السوريين،‭ ‬أو‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬أو‭ ‬العراقيين،‭ ‬أو‭ ‬الفيتناميين‭ ‬‭ ‬والقائمة‭ ‬بالطبع‭ ‬أطول‭ ‬بكثير‭ ‬‭ ‬كان‭ ‬الغرب‭ ‬يردد‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬نفس‭ ‬الأسطوانة‭ ‬‭ ‬الخوف‭ ‬بل‭ ‬الرعب‭ ‬من‭ ‬الوحشية‭ ‬المحلية،‭ ‬والهمجية،‭ ‬والعنف‭ ‬والإرهاب‭.‬

وعلى‭ ‬نحو‭ ‬فريد‭ ‬من‭ ‬نوعه‭ ‬بين‭ ‬جميع‭ ‬الشعوب‭ ‬المقهورة‭ ‬الأخرى‭ ‬المنخرطة‭ ‬في‭ ‬النضال‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار،‭ ‬يتحمل‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬العبء‭ ‬الإضافي‭ ‬المتمثل‭ ‬في‭ ‬تعرضهم‭ ‬للاضطهاد‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الضحية‭ ‬النموذجية‭ ‬في‭ ‬الوعي‭ ‬الغربي‭ ‬الأوروبي‭ ‬الحديث‭.‬

ولهذا‭ ‬السبب،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬بدأ‭ ‬اليساريون‭ ‬المشهورون‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬بالتعاطف‭ ‬مع‭ ‬النضالات‭ ‬المناهضة‭ ‬للاستعمار‭ ‬في‭ ‬الجزائر،‭ ‬إلا‭ ‬أنهم‭ ‬نادرًا‭ ‬ما‭ ‬عبروا‭ ‬عن‭ ‬تضامن‭ ‬مماثل‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭. ‬فالبعض‭ ‬منهم،‭ ‬مثل‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الوجودي‭ ‬جان‭ ‬بول‭ ‬سارتر،‭ ‬تخلى‭ ‬عن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬النهاية‭ ‬تمامًا‭ ‬وانحاز‭ ‬إلى‭ ‬مضطهديهم‭ ‬الإسرائيليين‭.‬

في‭ ‬العقود‭ ‬التي‭ ‬تلت‭ ‬حرب‭ ‬الأيام‭ ‬الستة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬انتشرت‭ ‬ثقافة‭ ‬إحياء‭ ‬الذكرى،‭ ‬التي‭ ‬تركزت‭ ‬على‭ ‬الشرور‭ ‬المروعة‭ ‬للهولوكوست،‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬دول‭ ‬الغرب‭ ‬المعاصر‭. ‬وقد‭ ‬عززت‭ ‬هذه‭ ‬الثقافة‭ ‬الشعور‭ ‬بأنه‭ ‬عبر‭ ‬تاريخ‭ ‬البشرية‭ ‬كله،‭ ‬عانى‭ ‬شعب‭ ‬واحد‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬شعب‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭ ‬لا‭ ‬يمحى‭ ‬حتى‭ ‬إنشاء‭ ‬دولته‭ ‬القومية،‭ ‬حيث‭ ‬جعل‭ ‬‮«‬الرواد‮»‬‭ ‬اليهود‭ ‬‮«‬الصحراء‭ ‬تزهر‮»‬‭. ‬

في‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الإطار‭ ‬الأخلاقي‭ ‬الأوروبي‭ ‬المركز،‭ ‬يصبح‭ ‬مصير‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬الذين‭ ‬يعيشون‭ ‬تحت‭ ‬نير‭ ‬الاحتلال‭ ‬غير‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬الأساس،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬غير‭ ‬ذي‭ ‬صلة‭. ‬علاوة‭ ‬على‭ ‬ذلك،‭ ‬ترتكز‭ ‬الأيديولوجية‭ ‬الصهيونية‭ ‬على‭ ‬الاقتناع‭ ‬بأن‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬تمثل،‭ ‬بل‭ ‬وتجسد،‭ ‬مصير‭ ‬الشعب‭ ‬اليهودي‭. ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فإن‭ ‬مهاجمة‭ ‬إسرائيل‭ ‬يعني‭ ‬مهاجمة‭ ‬الشعب‭ ‬اليهودي‭.‬

أن‭ ‬تكون‭ ‬‮«‬ضحية‭ ‬الضحايا‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬إدوارد‭ ‬سعيد،‭ ‬يجعل‭ ‬النضال‭ ‬الفلسطيني‭ ‬ضد‭ ‬الاستعمار‭ ‬عبثيًا‭ ‬تقريبًا‭. ‬إن‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬ضد‭ ‬الدولة‭ ‬اليهودية،‭ ‬خارج‭ ‬سياقها‭ ‬وتاريخها،‭ ‬يُنظر‭ ‬إليها‭ ‬ويُشعر‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬تجسيد‭ ‬رهيب‭ ‬للماضي‭ ‬الشيطاني‭ ‬المعادي‭ ‬للسامية‭.‬

ترى‭ ‬الفلسفة‭ ‬الصهيونية‭ ‬الآن‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الوقوف‭ ‬إلى‭ ‬جانب‮»‬‭ ‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬المستعمرة‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬كراهية‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬بل‭ ‬حب‭ ‬اليهود؛‭ ‬لكن‭ ‬الوقوف‭ ‬مع‭ ‬التحرير‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لا‭ ‬يعني‭ ‬حب‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬أو‭ ‬الإنسانية‭ ‬أو‭ ‬العدالة‭ ‬أو‭ ‬الحرية،‭ ‬بل‭ ‬يعني‭ ‬كراهية‭ ‬اليهود‭. ‬ويؤدي‭ ‬هذا‭ ‬إلى‭ ‬الخلط‭ ‬بين‭ ‬تحرير‭ ‬فلسطين‭ ‬ومعاداة‭ ‬السامية،‭ ‬وتجريم‭ ‬التضامن‭ ‬مع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬أنحاء‭ ‬أوروبا‭ ‬والولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭.‬

إن‭ ‬التصريح‭ ‬الصادم‭ ‬الذي‭ ‬أدلى‭ ‬به‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬جو‭ ‬بايدن‭ ‬بأن‭ ‬الهجوم‭ ‬الذي‭ ‬شنته‭ ‬حماس‭ ‬يوم‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬كان‭ ‬‮«‬لا‭ ‬يقل‭ ‬أهمية‭ ‬عن‭ ‬المحرقة‮»‬‭ ‬مليء‭ ‬بالمعاني‭ ‬المظلمة‭. ‬إن‭ ‬العبارة‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬مكان‭ ‬بأن‭ ‬حماس‭ ‬‮«‬شريرة‮»‬،‭ ‬وأن‭ ‬الهجوم‭ ‬الذي‭ ‬شنته‭ ‬الجماعة‭ ‬كان‭ ‬أسوأ‭ ‬هجوم‭ ‬ضد‭ ‬اليهود‭ ‬منذ‭ ‬المحرقة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يحول‭ ‬النضال‭ ‬الفلسطيني‭ ‬من‭ ‬نضال‭ ‬مناهض‭ ‬للاستعمار‭ ‬إلى‭ ‬نضال‭ ‬معاد‭ ‬للسامية‭ ‬في‭ ‬تشويه‭ ‬صارخ‭ ‬للتاريخ‭.‬

إن‭ ‬بايدن‭ ‬إنما‭ ‬ينقل‭ ‬واقع‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬من‭ ‬دراما‭ ‬متجذرة‭ ‬في‭ ‬تاريخهم‭ ‬وتجاربهم‭ ‬الحياتية‭ ‬إلى‭ ‬دراما‭ ‬مركزية‭ ‬أوروبية‭ ‬مألوفة‭ ‬لدى‭ ‬الجماهير‭ ‬الغربية،‭ ‬حيث‭ ‬إن‭ ‬الفاعلين‭ ‬المهمين‭ ‬الوحيدين‭ ‬هم‭ ‬النازيون‭ ‬الأشرار،‭ ‬والضحايا‭ ‬اليهود‭ ‬الأبرياء،‭ ‬ومنقذوهم‭ ‬هم‭ ‬الأمريكيون‭ ‬وحلفاؤهم‭.‬

وهكذا‭ ‬فإن‭ ‬المتحمسين‭ ‬المسيحيين‭ ‬واليهود‭ ‬لإسرائيل‭ ‬يتأكدون‭ ‬في‭ ‬قناعتهم‭ ‬بأن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬لا‭ ‬يقاومون‭ ‬الدولة‭ ‬الاستعمارية‭ ‬التي‭ ‬بنيت‭ ‬قسرا‭ ‬على‭ ‬أرضهم،‭ ‬الدولة‭ ‬التي‭ ‬دمرت‭ ‬حياتهم،‭ ‬وعاملت‭ ‬عائلاتهم‭ ‬بوحشية،‭ ‬وحاصرتهم،‭ ‬ونفتهم،‭ ‬وضايقتهم،‭ ‬وأرهبتهم،‭ ‬وأمعنت‭ ‬في‭ ‬إذلالهم،‭ ‬وانتهاك‭ ‬حقوقهم‭. ‬وسجنتهم‭ ‬وقتلتهم‭ ‬لعقود‭ ‬من‭ ‬الزمن‭ ‬دون‭ ‬عقاب‭. ‬إن‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬يصورون‭ ‬على‭ ‬أنهم‭ ‬هم‭ ‬الذين‭ ‬يقتلون‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬لمجرد‭ ‬أنهم‭ ‬يكرهون‭ ‬اليهود‭. ‬

إن‭ ‬الإنكار‭ ‬التام‭ ‬للتاريخ‭ ‬والسياق‭ ‬الفلسطيني‭ ‬هو‭ ‬وحده‭ ‬ما‭ ‬يجعل‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الاستنتاج‭ ‬المنافي‭ ‬للعقل‭ ‬قابلاً‭ ‬للدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬ويجعل‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬ممكنة‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭.‬

{‭ ‬أستاذ‭ ‬التاريخ‭ ‬بجامعة‭ ‬بيركلي‭ ‬–‭ ‬كاليفورنيا

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا