*ثمانون عامًا بلغها هذا الكاتب الكبير، حتى وقت كتابة هذا المقال -أمدَّ الله في عمره- سادها الأمل والعمل والفكر والإبداع، فقد بدأت حياة هذا الفارس في مملكة البحرين أرض التسامح والتعايش والسلام، برحلة جهاد علمي وفكري، والانكباب على الكتب ومصادر المعرفة والعلوم والثقافة؛ لينتقل من رتبة المتعلم، إلى مرتبة المثقف والكاتب الذي سَنَّ قلمه لتبيان الحق، بخطاب هادي وهادئ، يُسهم مع غيره في ترسيخ قيم التواصل والمحبة والوئام، ويقضي على خطاب التقاطع، ويؤلف بين القلوب ويدعم اللحمة الوطنية المكونة للمجتمعات المسلمة...
تلمَّس قلمه مشكلات الحياة من قريب وكأنه بتحليله الدقيق جزء منها؛ ليسهم في تقديم الحلول الإسلامية الناجعة لها، من مملكة البحرين أرض التعايش والسلام، ولم يغفل عن مشكلة المسلمين الكبرى (القدس الشريف، وفلسطين الأبية) التي كانت محط اهتمامه وحاضرة على بساط بحثه على الدوام كما سنشير إلى ذلك في السطور التالية..
ولقد وهب الله هذا الكاتب قلبًا بشوشًا، وصوتًا بشوشًا، ووجهًا بشوشًا، وحياةً تغمرها البشاشة.
والمدقق في كتاباته ومعاملاته يلحظ الحس الإسلامي المستنير، والمسؤولية، وترسخ القيم البحرينية الأصيلة في شخصيته من حيث: النشأة السوية، والتربية القويمة، والأخلاق النبيلة، وغيرها مما تمتاز به الشخصية البحرينية الأصيلة التي تغلغلت في شخصيته وكينونته؛ فكان أنموذجًا بحرينيًّا يعتز به أصدقاؤه من شتى الدول العربية والإسلامية..
عرَّفني على هذا الكاتب المبجل، فضيلة الأستاذ الدكتور/ أحمد عبد الرحيم السايح الأستاذ بجامعة الأزهر (رحمه الله) منذ نحو عشرين عامًا تقريبا، وخلال هذه الفترة توطدت العلاقة بيننا، واستمرت في تطور مستمر وتنامٍ مستدام، واستثمرتْ لمناقشة القضايا التي تهم أمتنا العربية والإسلامية والتحديات التي تواجهها، والسعي إلى وضع الحلول المناسبة لها من خلال الاستكتاب المباشر، وخلال هذه الفترة لم أر منه إلا كل خير؛ سماحة في التعامل، تواضع مع الناس، رقة في النصح والإرشاد والتوجيه، دقة في العمل، وفي بذل الحقوق.
ولا ريب في أن كلمة السر في شخصية الأستاذ عبد الرحمن البنفلاح تكمن في: (الإبداع، والإمتاع، والإمعان في إخراج الصفحات التي يشرف عليها بصورة لائقة شكلا ومضامين)، ولقد كانت توجيهاته لي دائمًا عندما أجنح إلى الكتابة البلاغية الرصينة ذات الكلمات التراثية القديمة والتي قد يستعصي فهمها على كثير من الناس، فكان يقول لي: «خفف يا دكتور أحمد، نريد أن نؤلف القلوب... نريد أن نصل إلى الجميع». ربما كان هدفي إحياء اللغة لدى قطاع من المتابعين، بيد أن هدفه كان أكبر وأعمق وأشمل، وهو بعث الفكر الإسلامي المستنير لدى الجميع.
لقد أسهم الملحق الإسلامي -الذي كان يشرف عليه -عبر صفحات أخبار الخليج الغراء في تثقيف كثير من المسلمين حول العالم بالفكر الإسلامي الوسطي والمستنير النابع من مِشْكَاة القرآن العظيم، ومن ينابيع النبوة.
لقد أسهم الكاتب الأستاذ/ عبد الرحمن علي البنفلاح رئيس القسم الإسلامي بصحيفة أخبار الخليج (أكبر وأهم الصحف البحرينية)، في تكوين عدد كبير من الكُتَّاب الواعدين الذين يواصلون المسير على خطى الوسطية والاعتدال التي تنتهجها أخبار الخليج الغراء عبر تاريخها المديد؛ لتسهم بملحقها الإسلامي في منظومة الاستنارة البحرينية في الملف الديني.
وإذا انتقلنا إلى منتوجه العلمي ومخرجاته الفكرية فإننا سنلحظ ثراء في الطرح، وعمقا في التناول، وسلاسة في المنطق، وسلامة في العبارة، وتنوعا وشمولية في الموضوعات التي تنوعت واستمرت عبر سبعة وأربعين عامًا في إدارة الصفحة الاسلامية بصحيفة أخبار الخليج، سخرها لبيان ونشر الثقافة الإسلامية بأسلوب ميسر؛ للوصول إلى شتى الفئات التي يخاطبها سواء في الداخل البحريني أو في المحيط العربي والإسلامي، ونلحظ أيضا أن الرجل كان ولا يزال مهموما بهموم أمته ووطنه، وهو صاحب قلم وصاحب رسالة، فقد ركز عبر ما يقرب من خمسة عقود، على تبيان: تجليات البيان الإلهي، وعلى إبراز معالم الرحمة المبثوثة في مناحي الشريعة وفي روحها، فكتب عن: الإسلام دين الرحمة والمرحمة، وأكد أن الرفق خيار الأمة إلى المثالية والتميز، وعن القوة الذاتية في الإسلام وقوته الرافعة، وميراث الله، خطاب التكليف، المرحلة المكية تربية وتعليم.
وشخّص أمراض المسلمين خلال ما يقرب من خمسة عقود وحتى الآن، مؤكدا أن العلاج يبدأ بالمعركة مع الذات أولا لتخليصها من أسباب الوهن والضعف والاستكانة والتخلف، ولابد من المراجعة، وترقية الوجدان، مؤكدًا أن النبوغ ليس حكرًا عليهم وحدهم، وأن بناء الإنسان المسلم يأتي أولا في سلم الأولويات، مشيرا إلى حدود المسؤولية، وأنواعها وضرورة تفعيلها في حياة المسلمين...
وشرح معالم قوة الإسلام بأنها قوة بغير عنف ولين بغير ضعف، وحذر من اليأس والقنوط وهو قرين الكفر، كما حذر من الغلو في الدين، فقد هلك المُتَنَطِّعون، واستمر في الدعوة إلى وسطية الإسلام ومجابهة المتشددين...
وأولى قضية القيم عناية خاصة؛ فركز على عطاء القيم ومردوده على الفرد والأسرة والمجتمع، بل والإنسانية، واعتبر أن انتصار القيم الطريق إلى السعادة في عالم متغير، والضمانة الحقيقية لسلامة الحياة.
وتناول قضية الحريات في الإسلام بالشرح والتحليل، فكتب عن: حرية الاعتقاد، وحرية التفكير، وحرية التعبير، والكرامة الإنسانية، وتحريم الظلم بمفهومه الشامل، وقيام الدولة الإسلامية على دعائم الشورى، والعدل باعتباره أساس الحكم في الإسلام.
وقد تعايش واتسق مع قضايا وطنه وأمته، ولم يغفل، عما يُحاك للأمة بليل أو نهار، فسلط قلمه للتصدي للغزو الفكري، وكشف مخططات وكلاء الاختراق الثقافي، وكتب ماذا يريد العلمانيون؟ ولماذا يخافون الإسلام؟، وغزو فكري اسمه الحداثة، ومحنة المسلمين في عالم متحضر، السابحون ضد التيار.
وتحدث عن المرأة بين الإسلام والرأسمالية والشيوعية، وبيَّن كيف تميزت في ظلال الإسلام العظيم.
وفيما يتعلق بقضية المسلمين الأولى (القضية الفلسطينية)، فيكاد قلمه لم يتوقف عن الكتابة عنها، وهو الذي عاصر قضيتها منذ البداية وحتى الآن، ومن ثم فتكاد كتاباته عنها أن تكون تأريخًا لها.
ولم يغفل الحديث عن الحضارة الإسلامية وفلسفتها مبرزا صفحات مشرقة من تاريخنا الإسلامي، ومبينا بعض فضائل الإسلام، وكيف يرتقي الإسلام بالإنسان؟ والعلم حياة الإسلام، والإسلام والإبداع في مراعاة البعد الاجتماعي، وهيبة الإسلام، والإسلام دين تدبير لا تبرير... وغيرها من القضايا التي لا يتسع المقام لسردها، والتي تنم عن عقلية كبيرة، عاشت وتعايشت مع قضايا أمتنا، وسعت بجهدها الفكري في تبيان الحقائق للناس.
وختاما نقول لكم: أيها الكاتب النبيل إن مكانكم في قلوبنا على الدوام، ندعو لكم بالصحة والبركة والعمر المديد، فقد جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: «يا رسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟» قالَ: (مَن طالَ عمرُهُ، وحَسنَ عملُهُ) (أخرجه الترمذي)، وإننا لفي شوق لما جادت به وتجود قريحة الكاتب الفاضل الأستاذ/ عبد الرحمن البنفلاح، من فكر نافع في صورة كتب بانية للفكر والسلوك والوعي والوجدان، تظل منهلا للأجيال القادمة.
* عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بجمهورية مصر العربية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك