إن اللسان لَيقف عاجزًا أمام وصف الأحداث الأليمة التي شهدناها في الأيام الماضية في غزة، وإن القلب لَيعتصر ألمًا وحزنًا، ولَيتقطَّع حرقة وغضبًا وكَمَدًا، على ما يجري لإخوان لنا في النسب واللغة والدين، وفي الآلام والآمال، في أرض فلسطين، فلسطين الجريحة، وإنه لإحساس يسري في جسد كل مسلم صادق، غيور على دينه وعِرْضِهِ وأرضه، وقضايا أمته، حين يرى قتل الأبرياء، من شيوخ وأطفال ونساء، وحصار ظالم مُنِعَ فيه الغذاء والدواء، وقطع للمياه والاتصال والكهرباء، وقصف غاشم بأطنان من الصواريخ المتفجرة التي دمرت المساكن فوق رؤوس الساكنين، بلا رحمة ولا شفقة ولا هوادة من الصهاينة المعتدين المغتصبين، بدعم وتكالب من أمم الغرب، فيعاني إخواننا في قِبلة الإسلام الأولى، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من ظلم كيان دخيل ماكر، حتى رأينا أجسادًا ذبَلت، وأكبادًا جفَّت، وأجوافًا ظمِئت، من عدوان غاشم، وحصار ظالم، أطفالٌ يبكون ويصرخون، وشيوخ يئِنُّون، ومرضى يتوجُّعون، ورجال حائرون.
رأينا الجنائز متوالية، وشهداء وجرحى في كل آنٍ ولحظة، سمعنا بفناء عائلات كاملة، ودمار أحياء عامرة، وغير ذلك من أشكال العدوان، ما تهتز بأهواله الشنيعة همًّا رفات الفاتحين الأجداد، وتهتز بأخباره غمًّا أفئدة الآملين المتألمين الأحفاد، ولكن ثباتًا ثباتًا يا عباد الله، ها قد أُثلجت الصدور، وأُذهب غيظ القلوب، بما أذاقه الفلسطينيون - ولا يزالون - هؤلاء الأعداءِ، فدخلوا عليهم في المعسكرات والقواعد والمستعمرات، وأذاقوهم سوء العذاب، وقصفوهم في المدن المغصوبة، فأرعبوهم وقتلوهم، وشلُّوا أركانهم وحركتهم واقتصادهم، وأربكوهم حتى استنجدوا بمن جاء بهم، فكسروا تلك الأوهام التي روَّجها الكِيان الهَشُّ، بأنهم الجيش الذي لا يُقهر، والدولة التي لا تُهزم، فالله أكبر، ببضع مئات، وتدبير قلة، حصل ذلك بساعات محدودة، مع فارق ميزان القوة والهيمنة.
إن الحرب الدائرة اليوم هي حرب ضد الإسلام، وإنه لَمقام يقتضي النُّصرة والتثبيت، ودحر المعتدي الغاصب المحارب، وعدم التخذيل عن نصرة إخواننا في الدين.
إنه لما قصَّر المسلمون في عناية بعضهم ببعض، وفي النصرة والرعاية، والتثبيت والحماية، نجحت مؤامرات الأعداء، وطمِعوا بهم، فالتضامن والتراحم والتعاطف والتعاون بين المسلمين واجب شرعي ومطلب مرعي، على كل خير، وعلى كل حق، وبه تجتمع الكلمة، وتتحقق الألفة، ويتقوى الصف ويخاف العدو، ولا شكَّ أن تعاطف المسلم مع إخوانه وقضايا أمته موقفٌ منضبط بضوابط الشرع، منطلق من الكتاب والسنة إلى الكتاب والسنة، مقيَّد بالحكمة والرفق والعدل، بعيد عن الانقياد العاطفي الهوائي الأهوج، والتعصب المقيت المنحرف الأعوج، والحق أبلج والباطل لجلج.
إن قضية فلسطين، وتحرير المسجد الأقصى، ليست كغيرها من قضايا الأمة الإسلامية، وتطهير فلسطين والمقدسات، من أعظم الواجبات، وما عظم صلاح الدين الأيوبي رحمه الله عند المسلمين حتى صار ذلك القائد الذي خلَّد التاريخ ذكره، وكان له في الأمة الإسلامية مكانة كبيرة، إلا بتحريره بيت المقدس من أيدي الصليبيين، وكان من أجل وأشرف أعماله، وما فرح المسلمون كفرحهم باسترداد بيت المقدس والمسجد الأقصى من أعداء الأمة، فتسرُّنا كمسلمين كل خطوة في اتجاه استرداد المسجد الأقصى المبارك، وتحرير فلسطين من المحتلين، ومن جانب آخر تتقطع أكبادنا مما نراه من مشاهد القتل والدمار والحصار التي يفعلها العدو في إخواننا.
وأقول: إن الخطب الْمُلْهِبة الحماسية الرنَّانة، لا جدوى منها فان لم تكن واقعًا عمليًّا نطبقه في واقع حياة الأمة، فلن تعدو أن تكون إلهابًا للمشاعر لا ثمرة لها، ونفخًا في الصدور لا فائدة فيها، والمسلم لا يستسلم لعاطفته دون عقله، بل يجمع بينهما، فيدرك الأمور إدراكًا بتصور راشد صحيح، ويضع الخيارات والحلول التي تتوافق مع الكتاب والسنة أولًا، ومع واقع الحال ومقدراته ومعطياته ثانيًا.
إن الاستضعاف والحصار والقتل والتشريد الذي يجري من أعدائنا اليوم ليس هو الأول من نوعه، فكم حدث من ذلك عبر الزمان من قتل وتعذيب وحصار! وفي عهد نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم، في بداية رسالته، جرى الاضطهاد من المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم، والقتل والتعذيب لأصحابه؛ ومع ذلك قال: ( كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ) [النساء: 77].
وفي صحيح البخاري يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه: ((شَكَونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّدٌ بُرْدةً له في ظل الكعبة، قلنا له: ألَا تستنصر لنا؟ ألَا تدعو الله لنا؟))، هل كان صلى الله عليه وسلم لا يدعو الله قبل أن يأتوه ويطلبوا منه أن يستنصر لهم ويدعو لهم؟! بل كان يفعل ذلك، لكنه كان يدرك أن لكل شيء عند الله موعدًا، وأن لله حكمة في تأخير النصر.
فعندما وجد عند هؤلاء المستضعفين استبطاءَ النصر، أقسم صلى الله عليه وسلم قائلًا: ((والله لَيَتِمَنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)).
فالنصر سيأتي في موعده الذي أراده الله رب العالمين، وما علينا إلا الاستقامة والثبات وأخذ الأسباب، والتوكل والدعاء، والصبر على البلاء، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه أحمد والحاكم وغيرهما عن أبي بن كعب رضي الله عنه، مرفوعًا: ((بشِّر هذه الأمة بالتيسير، والسناء والرفعة بالدين، والتمكين في البلاد، والنصر، فمن عمِل منهم بعمل الآخرة للدنيا، فليس له في الآخرة من نصيب).
إن الله تبارك وتعالى قادر على نصرنا بلا جهاد ولا أخذ بالأسباب؛ كما قال الله سبحانه: ( ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [محمد: 4]، ولكن جعل الله بحكمته للنصر أسبابًا، وأمر المسلمين أن يعملوا بها لينصرهم، فقد جعل الله لكل شيء سببًا: (وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف: 128]، وله في ذلك حِكَمٌ ولطائف.
إن في أحداث غزة الأخيرة ابتلاءً عظيمًا، انطوى على دروس للأمة ومواقفَ وعِبَرٍ، وآمال وآلام، وإن علينا جميعا ألَّا نرتجل مواقفنا في مثل هذه الأحداث والنوازل ابتداء، وألَّا ننساق وراء العواطف الجارفة، والآراء السائدة، والتحليلات المتناقضة، بل لا بد أن تنطلق مواقفنا من أدلة الشريعة، ونرجع إلى العلماء الراسخين، كما قال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء: 83].
إن التعاطف والتعاون والنصرة للمسلمين من الإيمان الواجب؛ ففي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، مرفوعًا: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضه بعضًا))، وقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالجسد الواحد في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كما في الصحيحين النعمان بن بشير رضي الله عنهما، فالأمة لُحمة واحدة في مواجهة المخاطر والأعداء، وإن من أعظم حقوق المسلم على المسلم الدعاء له، في الصلوات وغيرها من مواطن الدعاء، فتدعو لإخوانك أن يحفظهم ويثبتهم وينصرهم، ويجمعهم على الحق، وأن يُهلِكَ عدوهم، فإذا لم نَدْعُ لإخواننا فأي جسد مريض مقطَّع أصبحنا؟ فأقل حقهم علينا الدعاء لهم وعلى عدوهم، وإنه لَوهن عظيم أن نضَنَّ ونبخل على إخواننا حتى بالدعاء.
فتستطيع - أيها المسلم - أن تقدِّم من مكانك وبيتك ومُصلَّاك الدعاء لإخوانك، متحرِّيًا مواطن الإجابة، ولا تظنُّنَّ أن ذلك غير نافع لهم، كلا، فكم من سوء دُفع عنهم بتلك الدعوات! وكم من مخططات أفشلت بتلك التضرعات! وكم من معاناة خففت ورُفعت بتلك الابتهالات! وفي الحديث الصحيح: ((إنما ينصر الله هذه الأمة بضعيفها، بدعوتهم وصلاتهم، وإخلاصهم))؛ [أخرجه النسائي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه].
وإن استطعت أن تنصرهم بالوسائل المشروعة، وعبر الطرق الرسمية، فافعل، كالتبرع لهم بسخاء، وحثِّ التجار على التبرع عبر القنوات الموثوقة، وتستطيع التحدث عن معاناتهم، وتوضيح قضيتهم من الجانب الشرعي، ونقل كلام العلماء، في وسائل التواصل وقنوات الإعلام، والصحف والمجلات، بمقال رصين، وقصيدة بليغة، ونقل صحيح.
ومن أعظم ما تقوم به أن توضح لأسرتك وأولادك ومجتمعك مفهومَ الولاء والنصرة والجهاد، لكل مسلم موحِّدٍ مُتَّبِعٍ مُحِبٍّ للنبي صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه.
* داعية وباحث إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك