وقت كتابة هذه السطور، يكون عدد القتلى في غزة قد تجاوز العشرة آلاف، وعدد المصابين أكثر من 27 ألفًا. خلال أربعة أسابيع أسفر القصف الإسرائيلي عن قتل أو إصابة وفقدان ما يقرب من 2% من سكان قطاع غزة. ولا يزال القصف مستمرًا، ومعه تهجير مليون ونصف المليون شخص من منازلهم (حوالي 70% من السكان)، باتوا معرضين للموت من الجوع والمرض.
هل هذه الأرقام مكررة ونسمعها عشرات المرات كل يوم؟ بالتأكيد، ولكن هذا ليس سببًا للاعتياد عليها، بل يجب أن تظل حاضرة في أذهاننا كي لا ننسى أن كل يوم إضافي من الحصار والقصف له تكلفة إنسانية فادحة تُقدر بمئات الأرواح.
الأرقام ليست وحدها كافية للدلالة على ما جرى ولا يزال يجري في غزة. فهذه ليست مقارنات اقتصادية أو إحصاءات سكانية. بل نحن أمام مذبحة جماعية من النوع الذي كنا نعتقد أنه لم يعد من الممكن حدوثه في العصر الذي نعيشه. وهذا وصف لا يستند إلى عدد الضحايا- فالأرقام كما قلت غير دالة- بل الحقيقة إن دولة تنتقم من شعب بأكمله دون تمييز، وليس فقط ممن قاموا بالهجوم عليها.
مع ذلك فإن اثنتي عشرة دولة وقفت مع إسرائيل في رفض قرار الأمم المتحدة الداعي فقط لهدنة إنسانية من أجل توفير السلع والخدمات الأساسية لسكان غزة، وأربعين أخرى امتنعت عن التصويت. كلها دول وافقت بوعي كامل على استمرار القصف والقتل دون تمييز، أو ظنت أن هناك ما يدعو إلى التردد والحيرة بين وقف المذبحة فوراً أم تركها تستمر بضعة أيام أو أسابيع أخرى.
صحيح إن الدول الكبرى جميعاً تعاطفت مع إسرائيل في أعقاب طوفان الأقصى الذي بلغ عدد ضحاياه ما يقرب من ألف وأربعمائة ووقع في الآسر مالا يقل عن ٢٠٠، وحتى في الوطن العربي دارت أسئلة كثيرة حوله، وما سيُفضى إليه من رد الفعل الإسرائيلي. ولكن الانتقام الوحشي بدد كثيرًا من التعاطف العالمي مع إسرائيل، وجعله ينحسر تدريجيًا، على الأقل بين الناس لا الحكومات، حتى في الدول الحلفاء التقليديين. وقد عدت قبل أيام من رحلة عمل في بلدين أوروبيين، لاحظت خلالها أنه حتى المدافعين التقليديين عن إسرائيل وسياساتها يفضلون عدم التطرق إلى الوضع في غزة في خطابهم العلني.
أما في الأحاديث الجانبية فهناك رفض تام للمذبحة الجارية في غزة، وإن كان من منظور إنساني محض لا عدولًا عن الموقف الأساسي الداعم لإسرائيل، بالإضافة إلى ضرورة تجنب اتساع نطاق المواجهات مستقبلًا.
ولكن يظل الرهان الإسرائيلي معولًا على تراجع التغطية الإعلامية والاهتمام الشعبي العالمي حول ما يجري في غزة مع مرور الوقت، كما يجري مع كل حدث مثير يلفت الأنظار أولًا، ثم يفقد جاذبيته بعد حين، حينما يعتاد الناس على مشاهد غزة المدمرة والأطفال الجرحى في المستشفيات، بما يُمكّن من استمرار الاحتلال والقصف والقتل دون مساءلة دولية أو اعتراض شعبي عالمي. والأحداث السابقة تؤكد أن لدى إسرائيل القدرة على إدارة المعركة الإعلامية على المدى الطويل أفضل بكثير من الجانب العربي.
هناك بالفعل معركة إعلامية جارية، ويجب أن تلحقها معركة قانونية في المحاكم الدولية، وهذا كله بجانب الساحة الدبلوماسية، وهذه معارك بالغة الأهمية لأن نتائجها ستؤثر في مستقبل المنطقة بقدر ما تؤثر فيه النتائج العسكرية. لهذا يظل التمسك بالحق الفلسطيني والتذكير به والتعبير عن مساندة أهل غزة ضرورياً ومُلحاً مهما طال الوقت، كما يحتاج الخطاب العربي أن يكون معاصراً وإنسانياً وواقعياً، ومستنداً للقانون الدولي والمبادئ الإنسانية.
لأن القضية الفلسطينية عادلة، والتضحيات الجسيمة على أرض غزة لا بد أن تدعمها مساندة سياسية وإعلامية واعية تحافظ على الدعم الشعبي العالمي، وتنقذ أهل غزة من المصير الذي يواجهونه.
{ نائب رئيس الوزراء المصري الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك