إن مما يحزِن قلبَ كل مسلم صادق ويشغل ذهنه وتفكيره في هذه الأوقات؛ ما يلاقيه أهلنا وإخواننا المسلمون في فلسطين وبالتحديد في غزة الصابرة المحاصرة، على أيدي المعتدين الصهاينة، ومن ورائهم أمريكا الباغية.
ولقد كتب الكثير من الدعاة وطلبة العلم والمجاهدين في نصرة إخواننا هناك والتضامن معهم، والدعاء لهم، والوقوف معهم في محنتهم كلٌّ بحسبه وقدرته، فجزى الله الجميع خيراً، وليس هذا مستغرباً على أهل التوحيد والإسلام الذين وصفهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجسد الواحد الذي إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر. وهنا نرى أموراً مهمة يجب أن تطرح وتُلفت أنظار المسلمين إليها.
ومن أهم الأمور التي ينبغي أن ننتبه إليها في خضم هذه الأحداث وأمثالها، ما يلي:
الأمر الأول:
اليقين الجازم والاعتقاد الراسخ بأن ما يجري اليوم من كيد وقتل وهجوم شرس من المعتدين على بلدان المسلمين؛ فإنما هو بعلم الله - تعالى - وإرادته. قال الله - عز وجل -: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ» (الأنعام:٢١١)، وقال سبحانه: «وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ» (البقرة: ٣٥٢).
ومشيئته - سبحانه - ليست مجردة عن حكمته، بل له - سبحانه - الحِكَم البالغة في خَلْقه وأمره، والعارفون لربهم - عز وجل - يعلمون ذلك، ولذا فهم يحسنون الظن بربهم، ويوقنون أن عاقبة هذه الأحداث التي يقــدرها الله - عز وجل - هي خير ومصلحة ولطف بالموحدين، إن شاء الله تعالى. ومع أن المعركة اليوم لا تزال في بدايتها، ومع أنها موجعة وكريهة؛ إلا أننا نلمس لطف الله - عز وجل - وحكمته ورحمته في أعطافها.
الأمر الثاني:
إن من حِكَم الله - عز وجل - البالغة في هذه الأحداث أن يعرِّفنا على سننه - سبحانه - التي لا تتبدل ولا تتحول، وبمعرفة هذه السنن الإلهية يتضح الطريق المستقيم ويهتدي المسلم فيه، ويوفق إلى الموقف الحق والمنهج الصائب.
يقول الله - عز وجل - آمراً لنا بالنظر في سننه المطَّردة: «قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ» (آل عمران: ٧٣١) وقال - سبحانه -: «فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً» (فاطر: ٣٤).
لذا وجب على المسلمين عامة وعلى دعاة الحق المجاهدين في سبيل الله - عز وجل - خاصة؛ أن يقفوا طويلاً مع كتاب الله - عز وجل - وما تضمن من الهدى والنــور؛ ومن ذلــك ما تضمنه من السنن الربانية المستوحاة مــن دعـــوة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ وذلك لأن في معرفتها والسير على هداها أخذاً بأسباب النصر والتمكين والفلاح، ونجاةً مما وقع فيه الآخرون من تخبط وعناء، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث؛ فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق.ومن هذه السنن التي ينبهنا الله - عز وجل - إليها في مثل هذه الأحداث ما يلي:
1 - سُنة المدافعة: إن إيماننا بأن كل ما يحدث في هذا الكون من أحداث إنما هو بعلم الله - عز وجل - وإرادته وحكمته؛ لا يعني الاستسلام وترك المدافعة؛ لأن الله - عز وجل - الذي أراد هذه الأحداث كوناً وقدراً؛ أراد منا مدافعتها ديناً وشرعاً، وهذه هي سُنَّة المدافعة. قال الله - عز وجل -: «ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ» (محمد: ٤). ويقول الله - عز وجل -: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» (الحج: ٠٤).
والمدافعة بين الحق والباطل تأخذ صوراً متعددة: فبيان الحق وإزالة الشُّبَه ورفع اللبس عن الحق وأهله مدافعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مدافعة، ويأتي الجهاد والقتال في سبيل الله - عز وجل - على رأس هذه المدافعات وذروتها لكف شر الأعداء وفسادهم عن ديار المسلمين ودينهم وأنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: (والجهاد منه ما هو باليد، ومنه ما هو بالقلب والدعوة والحجة والبيان والرأي والتدبير والصناعة؛ فيجب بغـــاية ما يمكن) (الاختيارات الفقهية).
وما يحصل الآن في غزة المحاصرة عدوان صارخ يجب على المسلمين مدافعته بكل ممكن، وكلٌّ بحسبه، ولا يُعذَر أحد حتى يزول العدوان ويندفع الفساد: وعلى علماء الأمة واجب المدافعة بإعلان النصرة لإخواننا هناك، وتوجيههم والتضامن معهم، وحث الأمة على دعمهم والوقوف معهم.
وعلى الأغنياء في هذه الأمة واجب المدافعة بدعمهم بالمال الذي يخفف من معاناتهم ويعينهم على جهاد أعدائهم. وعلى أصحاب الأقلام والمنابر الإعلامية النَّفْرة لنصرة إخواننا هناك؛ بالتعريف بقضيتهم، وفضح أعدائهم، وإظهار صور الظلم والعدوان التي يواجهونها، ومخاطبة الأمة بالوقوف معهم ونصرتهم. وعلى المسلمين عامة واجب المدافعة؛ بالاهتمام بشؤونهم، والحزن لمصابهم، والدعاء لهم، ودعمهم قدر الإمكان.
2 - سنة الابتلاء والتمحيص:
يقول الله - عز وجل -: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْـمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ» (محمد: ١٣)، وقال الله - عز وجل - معقباً على غزوة أحد: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ» (آل عمران: ٩٧١) ، وقال - سبحانه - في الحدث نفسه: «وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْـجَمْعَانِ فَبِإذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْـمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا...» (آل عمران: ٦٦١ – ٧٦١).
قال ابن كثير - رحمه الله تعالى - عند الآية الثانية: (أي: لا بد أن يعقد سببا من المحنة يظهر فيه وليُّه، ويفتضح فيه عدوُّه، يُعرَف به المؤمن الصابر والمنافق الفاجر).
وبالنظر لهذه الأحداث الجارية في فلسطين في ضوء سنن الابتلاء والتمحيص؛ نرى أن هذه السنة المطردة الثابتة تعمل الآن عملها بإذن ربها - سبحانه وتعالى - لتؤتي أُكُلَها الذي أراده الله عز وجل، ومنه اللطف والرحمة من الله - عز وجل - والمتمثل في تمحيص المؤمنين في فلسطين وخارجها، وتمييز الصفوف حتى تتنقَّى من المنافقين وأصحاب القلوب المريضة وينكشف أمرهم للناس، وحتى يتعرف المؤمنون أنفسُهم على أنفسهم وما فيها من الثغرات والعوائق التي تحول بينهم وبين التمكين والنصر، فيتخلصوا منها ويغيروا ما بأنفسهم.
3 - سُنة التغيير:
يقول الله - عز وجل -: «إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ» (الرعد: ١١). ويقول - سبحانه - عن أحداث غزوة أحد المؤلمة للمسلمين: «أَوَ لَـمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ». (آل عمران: ٥٦١).
ففي هاتين الآيتين تنبيه من الله - عز وجل - لعباده المؤمنين إلى أن يتفقدوا أنفسهم وواقعهم ومواقفهم، ويبدؤوا بالتغيير من الداخل إلـى ما يحبـه الله ويرضـاه؛ لأن أكثـر ما يؤتى المسلمون أفراداً وجماعات إنما هو من قِبَل أنفسهم. لذا؛ وجب في مثل هذه الأحداث محاسبة النفوس، ومراجعة المواقف، والبعد عن كل ما يسبب الهزائم وتسليط الأعداء من الذنوب والمعاصي والفرقة والأهواء، فمن هنا يبدأ التغيير ويبدأ الإصلاح.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك