قالت العرب يوماً لكل امرئ من اسمه نصيب، وكان اسمه فوز الدين وعرف باسم فوزي. هو فوزي القاوقجي المقاتل العربي الذي طاف الأقطار مشاركاً في حركات مقاومة الاستعمار، عرفته ثورة صالح العلي السورية، وثورة 1936 الفلسطينية، وثورة رشيد عالي الكيلاني العراقية، وكان عاملاً مشتركاً في كل حركات التحرر العربية خلال النصف الأول من القرن العشرين. ولد القاوقجي في مدينة طرابلس عام 1890 من أُسرة عريقة في الوجاهة، وتلقى علومه العسكرية في مدرسة استانبول الحربية، وتخرج فيها عام 1912 برتبة يوزباشي (نقيب) في سلاح الفرسان، وعند تخرجه ضابطاً خيّالاً سنة 1912 التحق بالجيش العثماني. عُيّن في الموصل في يناير1915 ونُقل بعدها إلى مدينة بئر السبع الفلسطينية.
بعد الحرب العالمية الأولى خدم في صفوف الجيش السوري، إذ أعجب الأمير فيصل بشجاعته الاستثنائية ودعاه إلى دمشق ليكون أحد مؤسسي الجيش السوري. عُيّن قائداً لسرية خيالة في مدينة حماة، وأبلى في معركة ميسلون عام 1920 بلاء حسناً، وتمكن خلال هذه المعركة من أسر عدة ضباط فرنسيين.
وفي عام 1925 أعلن ثورة حماة التاريخية، وكاد يستولي عليها لولا قصف الطائرات الفرنسية، ما اضطره إلى الانسحاب إلى البادية، ولكن قيادة الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش أسندت إليه قيادة منطقة الغوطة، حيث حقق انتصارات كبيرة على الجيش الفرنسي، ولكن نقص الذخيرة والسلاح واستشهاد الكثير من رجاله اضطره إلى الانسحاب إلى جبل العرب في السويداء.
لكن كان لهذه الثورة الفضل في عدم تمكن الفرنسيين من القضاء على ثورة جبل الدروز. قاد القاوقجي الثورة السورية ما يقرب من ثلاث سنوات بنجاح، وبقي في سورية حتى عام 1927، وحكمت عليه محكمة عسكرية فرنسية غيابياً بالإعدام، فغادرها إلى الحجاز حيث عمل مستشاراً عسكرياً للملك عبدالعزيز آل سعود ما بين 1928 و1932.
انتقل القاوقجي إلى بغداد سنة 1932 ليصبح معلماً للفروسية وأستاذاً لتدريس الطبوغرافيا في الكلية العسكرية في بغداد، وكان يحمل رتبة رئيس خيالة في الجيش العراقي، وبحسب المصادر البريطانية فإن القاوقجي بدأ في عام 1934 في وضع الخطط لتنظيم ثورة عسكرية في سورية أو فلسطين، وقابل لهذا الغرض زعماء عربا من كلا البلدين، وتعهد بتجنيد متطوعين وتهريب أسلحة في حال نشوب ثورة في إحداهما.
وهو ما حدث بالفعل عندما اندلعت ثورة 1936 في فلسطين. في الثاني والعشرين من أغسطس سنة 1936 وصل القاوقجي فلسطين للمشاركة في الثورة، ورافق القاوقجي مائة متطوع عراقي وستون سورياً وثلاثون درزياً كانوا طليعة المتطوعين العرب، وبعدها بستة أيام أصدر القاوقجي بلاغه الأول بوصفه قائد الثورة العسكري. وفي الثاني من سبتمبر التقى القاوقجي عددا من أعضاء اللجنة العربية العليا والقادة العسكريين للثورة وهم: فخري عبدالهادي، عبدالرحيم الحاج محمد، عارف عبدالرازق، الشيخ فرحان السعدي، الشيخ عطية أحمد عوض ومحمد الصالح الذين سلموه إقراراً خطياً بأنه القائد الأعلى للثورة العربية في فلسطين.
بدأ القاوقجي تدريب المتطوعين وفقاً للأساليب العسكرية، وفرض الانضباط على قادة الفصائل المسلحة، وشكل محكمة عسكرية للثورة لمحاكمة الخونة والجواسيس والوشاة، ونجح في القيام بعدة عمليات مسلحة ناجحة ضد القوات البريطانية التي اعترفت بوجود تغيير واضح في تكتيكات وأسلوب الثوار خاصة في عمليات الإغارة ونصب الكمائن والاستدراج والانسحاب.
كانت لانتصارات القاوقجي أثرها البالغ في ارتفاع الحالة المعنوية للثوار ولكن بعد ستة أشهر من اندلاع الثورة أصدرت اللجنة العربية العليا بياناً طالبت فيه بوقف الثورة وقطع الإضراب استجابة لمطالب الملوك والأمراء العرب وبالفعل توقفت الثورة، لكن القاوقجي طلب من قواته الاحتفاظ بسلاحها.
لكن اللجنة العربية العليا عادت وطلبت منه الخروج بقواته من فلسطين، فغادرها إلى العراق حيث ألقت القوات البريطانية هناك القبض عليه ونفته إلى كركوك لكنه نجح في الإفلات من الاعتقال. غادر القاوقجي العراق إلى سورية ثم عاد إليها للمشاركة في ثورة رشيد عالي الكيلاني في عام 1941.
وبعد انكسار الثورة عاد إلى سورية وشارك في التصدي للهجوم البريطاني على تدمر ونقل إلى مستشفى دير الزور ثم إلى حلب ثم إلى برلين. وهناك أجريت له عدة عمليات واستخرج من جسده تسع عشرة رصاصة وشظية وظلت رصاصة تسكن رأسه حتى وفاته، وبعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية ألقى السوفييت القبض على القاوقجي وزوجته ومرافقه في برلين ولكنهم أطلقوا سراحه بعد أن تأكدوا أن تعاونه مع الألمان كان فقط بسبب كراهيته للإنجليز.
غادر القاوقجي برلين إلى القاهرة، وفي عام 1947 اجتمع بالحاج أمين الحسيني في القاهرة واتفقا على تقديم اقتراح إلى جامعة الدول العربية لتشكيل قوة من المتطوعين العرب على أن تتولى الجامعة العربية تدريبهم وتسليحهم للقتال في فلسطين، في وقت تقف الجيوش العربية على الحدود مستعدة لتلبية نداء الاستغاثة عند الحاجة، ووافقت الجامعة العربية على ذلك وأسندت إلى القاوقجي مسؤولية قيادة هذه القوة التي عرفت فيما بعد باسم جيش الإنقاذ العربي، كما تشكلت قوات الجهاد المقدس بقيادة عبدالقادر الحسيني في داخل فلسطين، ونجحت هذه القوات العربية في تحقيق انتصارات كبيرة ضد العصابات الصهيونية رغم ضعف إمكانياتها.
بعد دخول الجيوش العربية إلى فلسطين طالبت القاوقجي بسحب قواته وتسليم مواقعه للجيش الأردني الذي كان يقوده الجنرال البريطاني جلوب باشا فانسحب في السادس عشر من مايو سنة 1948 لكنه عاد إلى القدس لمساعدة الأحياء الفلسطينية المهددة بالسقوط ثم انتقل بقواته إلى الجبهة اللبنانية بطلب من القيادة السورية، وشاركت قواته مع الجيشين السوري واللبناني في معركة المالكية في السادس من يونيو 1948 والتي انتصر فيها الجانب العربي، وهي المعركة التي ضمنت بقاء جبل عامل كله تحت السيادة اللبنانية.
عند إعلان الهدنتين الأولى والثانية في فلسطين قدم القاوقجي استقالته اعتراضاً على عدم استجابة الدول العربية لمطالبه بدعم قواته بالسلاح والذخيرة، لكنه عاد وسحبها بعد تقديم بعض المعونات لجيشه مما جعله يحقق بعض النجاح، ولكن تعقد الموقف اذ توقفت الجيوش العربية النظامية عن القتال مما جعل المنظمات الصهيونية تستفرد بجيش الإنقاذ وتهاجمه من جميع الجهات، وظلت المعارك مستمرة حتى نهاية نوفمبر من العام 1948 بعدها اضطر القاوقجي إلى سحب قواته إلى جنوب لبنان ثم تسريح نصفها استجابة لطلب الجامعة العربية بذريعة عدم وجود المال الكافي. بعد نكبة فلسطين انسحب القاوقجي من المشهد السياسي والعسكري العربي، وعاش متنقلاً بين بيروت ودمشق حتى وفاته في عام 1977.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك