أثبت القائد الأردني المجاهد الكبير عبدالله التل أحد كبار الأبطال العرب في حرب 1948 أنه كان يتمتع بحنكة ومهارة في إدارة المعارك وهو ما تجلى بوضوح من خلال إدارته معركة قلب القدس بحيث يستحق أن يكتب اسمه بأحرف من ذهب في سجل القدس الخالد.
فتلك المعركة بجانب معركتي اللطرون وباب الواد هي من أبقت القدس بأيدي العرب تسع عشرة سنة قادمة حتى احتلال الصهاينة لها في عدوان عام 1967، وتميزت معركة قلب القدس عن غيرها بكونها كانت معركة بإدارة عربية كاملة للواء الرابع بقيادة أحمد صدقي الجندي، قال عنها الخبير الأمريكي كينيث بولاك إن الجيش الأردني استطاع في هذه المعركة مزج المشاة مع الآليات المدرعة ببراعة داخل المدينة وبإسناد من الهاون ورماية مباشرة من فرق القناصين، ويمكن القول إن الأمر تعدى الحرب المشتركة فقد استخدم القائد الأردني عبدالله التل أسلوب الحرب المختلطة عندما واءم بين العمليات التقليدية والعمليات غير التقليدية التي كانت تنفذها سرايا الجهاد الفلسطيني المقدس وتحت إشرافه المباشر.
حاييم هيرتزوج والذي أصبح فيما بعد الرئيس السادس للاحتلال الإسرائيلي يزعم أن معركة الحي اليهودي في قلب القدس هي النصر الوحيد الذي يمكن اعتباره بالمهم أثناء سير عمليات 1948 للجانب العربي.
لقد مُنِح عبدالله التل قيادة الكتيبة السادسة بعد نجاحه في قيادة حرس القوافل واحتلاله السريع لمستعمرات كفار عتصيون قبل انتهاء الانتداب الإنجليزي والتي أسر فيها 320 مسلحا يهوديا وقتل ما مجموعة 360 .
انتقلت سرايا الكتيبة من موقعها الثابت في أريحا إلى القدس بعد طلب والتماس أهالي القدس من الأمير عبدالله بن الحسين التدخل العسكري (آخر الوفود كان بقيادة الدكتور جودت طنوس) حيث كانت مسألة سقوط كامل القدس بيد عصابات الهاجاناة والارجون هي مسألة وقت ولم يكن الإنجليز متحمسين للدفاع عن القدس لأنها تخضع للوصاية الدولية حسب قرار التقسيم عام 1947.
كان هدف عبدالله التل هو السيطرة على قلب القدس الذي احتمى به حوالي 1800 يهودي ولديهم مؤن كافية وذخيرة تكفيهم سنة كاملة وأما الكتيبة السادسة فقوامها هو 600 مقاتل وقدر القائد عبدالله التل أن الهجوم الشامل على الحي اليهودي سيكلفه نصف الكتيبة نظرا لمناعة الدفاعات اليهودية ولذلك ابتكر أسلوب عمليات تفجير المباني والأسوار بالمتفجرات وأوكل هذه المهمة لكتائب الجهاد المقدس الذين برعوا في التفجيرات وبحيث يعقب كل عملية تفجير تنفيذ لعمليات تطهير من أفراد كتيبة المشاة.
الأمر الثاني الذي اتبعه التل للتأثير في معنويات المقاتلين اليهود المتحصنين في قلب مدينة القدس والذين كانت أوامر الوكالة اليهودية لهم بعدم ترك الحي اليهودي يسقط تحت أي ذريعة والدفاع لآخر رجل هو إبقاء الحي تحت رماية الهاون المستمرة وبصورة متقطعة حتى في الليل مما أسهم بإفساد العلاقة القائمة بين المقاتلين والمدنيين داخل الحي حيث لم يعودوا قادرين على الحركة.
التكتيك الثالث الذي أستخدمه هو تمكنه من إدخال 3 آليات مدرعة إلى الحي اليهودي بعملية غير متوقعة نظرا إلى جغرافية المنطقة وتميز القدس التاريخية بضيق الشوارع.
من الأمور المهمة التي أسهمت في نجاح العملية هو منع وصول الإمدادات للحي وإبقاؤه تحت الحصار، ولم تكن هذه العملية لتنجح لولا الصمود الأسطوري للكتيبة الرابعة بقيادة حابس المجالي فلو تمكن اليهود من عبور اللطرون لاستطاعوا تأمين خطوط الإمداد من تل أبيب إلى القدس.
لجأ قادة الحي اليهودي إلى الصليب الأحمر والتوسل بنقل النساء والأطفال وكبار السن إلى خارج الحي ولكن عبدالله التل رفض الالتماس لعلمه بأن ذلك قد يقوض فرص النجاح حيث ستقاتل القوة اليهودية المتبقية من دون عوائق نفسية ولأن تلك العملية تستوجب الحصول على هدنة مؤقتة وأي توقف لعمليات جيش على وشك الانتصار عادة ما يمهد لتحول في مسار الأحداث.
عندما وصل الحصار إلى الكنيس اليهودي الكبير واحتمى داخله المقاتلون اليهود، رأى القائد عبدالله التل في ذلك فرصة سانحة لإجبار اليهود على الاستسلام، فأصدر الإنذار النهائي في 27 مايو من خلال الصليب الأحمر بأنه إذا لم يستسلم المقاتلون اليهود خلال عدة ساعات فإنه سيهاجم الكنيس.
وبعد هذا التهديد سقط الحي اليهودي في اليوم التالي في 28 مايو بأيدي الكتيبة السادسة. وقد قاد مفاوضات الاستسلام من الجانب الأردني عبدالله التل ومحمود موسى العبيدات ومن الطرف الآخر المختار اليهودي وموشيه روزنك قائد الهاجاناه في القدس وكانت مطالب عبدالله هي تسليم الأسلحة والذخائر وأخذ الرجال أسرى حرب وتسليم النساء والأطفال وكبار السن والجرحى إلى الصليب الأحمر.
وكان من نتائج هذه العملية النجاح في أسر 340 مقاتلا صهيونيا ومقتل 300 مسلح آخر منهم 136 من عصابة الارجون وأما من الجانب الأردني ومن المجاهدين الفلسطينيين فكان استشهاد 14 وجرج 25 .
وقد برزت أخلاق عبدالله التل العالية وحرفيته العسكرية بالمعاملة الحضارية تجاه اليهود المستسلمين حيث لم يسمح لأحد بالتعرض لهم ولم يأسر النساء علما بأن ذكرى مذبحة دير ياسين كانت ما زالت حاضرة وماثلة في الأذهان آنذاك.
يقول الباحث الإسرائيلي رونيين يتسحاق في كتابه: (عبدالله التل ضابط في الجيش العربي): «قليلون هم من الضباط العرب الذين نالوا إعجاب اليهود في أحداث حرب 1948 وربما يكون عبدالله التل هو الوحيد من بينهم». وأما يائيل زايزر البروفيسور في جامعة تل أبيب فيقول عن حياة عبدالله التل: «إنها مشرفة وظاهرة وتستحق أن تكون فيلما ملحميا».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك