إن قراءة كتاب «التطهير العرقي في فلسطين» للمؤرخ الإسرائيلي اليساري إيلان بابيه، الذي قام بترجمته الباحث الفلسطيني أحمد خليفة مهمة بالنسبة إلى القارئ العربي فهو وثيقة رائدة صادقة تكشف حقيقة النكبة وأسبابها ووقائعها، ويحتوي على سيل من المعلومات المهمة التي تثري المعرفة وتدفع للمزيد من العمل لصالح القضية الفلسطينية. تكمن أهمية الكتاب، بالإضافة إلى قيمته العلمية، انه جاء بقلم مؤرخ وكاتب يهودي – إسرائيلي ومحاضر رفيع المستوى في العلوم السياسية في جامعة حيفا، شغل منصب ورئيس معهد أميل توما للدراسات الفلسطينية في حيفا. وهو ايضا أستاذ بكلية العلوم الاجتماعية والدراسات الدولية بجامعة إكسيتر بالمملكة المتحدة.
يقول الكاتب تحت عنوان شكر وعرفان: هذا الكتاب ليس مكرسا رسميا لأحد، وقد كتب أولا وقبل كل شيء من اجل الفلسطينيين، ضحايا التطهير العرقي في سنة 1948، وكثير منهم أصدقاء ورفاق، وكثيرون غيرهم أجهل أسماءهم، لكن منذ يوم عرفت عن النكبة رافقتني معاناتهم وفقدانهم وآمالهم. وعندما يعودون فقط سأشعر بأن هذا الفصل من النكبة بلغ أخيرا النهاية، التي نرجوها، والتي من شأنها أن تتيح لنا جميعاً العيش في سلام وانسجام في فلسطين.
هذا العمل الرائد يلقي ضوءا جديدا على أصول الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وتطوراته، ويبرهن الكاتب، بكل أمانة مستنداً على وثائق ومواد أرشيفية أفرج عنها مؤخراً بصورة لا تقبل الجدل، أن التطهير العرقي كان منذ بداية الصراع جزءا لا يتجزأ من خطة صهيونية رسمت بعناية فائقة، وان هذا التطهير العرقي العنصري لشعب بأكمله هو الأساس للصراع المستمر الى الآن في المنطقة، وسيبقى هذا الصراع مستمراً حتى يعود الحق إلى أصحابه.
يذكر الكاتب أنه في عصر يوم الأربعاء 10 مارس من عام (1948) اجتمع أحد عشر رجلاً في المبنى الأحمر في تل أبيب وهم قادة صهاينة قدامى وضعوا اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً. وفي مساء اليوم نفسه صدرت الأوامر الى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من أرضهم، وأرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بقوة: إثارة الرعب بشكل واسع النطاق، محاصرة وقصف القرى والمراكز السكانية، حرق المنازل والأملاك والبضائع، الطرد، هدم البيوت، وأخيراً زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم. وتم تزويد كل وحدة عسكرية بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحددة كأهداف لها في الخطة الكبرى، وعرفت هذه الخطة بالخطة (د). وتمثل ملخص الخطة (د) في وجوب ترحيل الفلسطينيين، وتدمير المناطق الفلسطينية الريفية والحضرية على السواء.
استغرق تنفيذ هذه الخطة ستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سكان فلسطين الأصليين، أي ما يقارب (800000 نسمة) قد اقتلعوا من أماكن عيشهم، و(531 قرية) دمرت، و(11حياً مدنياً) أخلي من سكانه. إن تنفيذ هذه الخطة يشكل مثالاً واضحاً جداً لعملية تطهير عرقي، هذا الفعل الذي يعتبر اليوم في نظر القانون الدولي جريمة ضد الإنسانية؛ أي جريمة حرب يجب محاكمة كل من شارك في تنفيذها.
وهي ذات الخطة التي تعيد حكومة نتنياهو تنفيذها في قطاع غزة عبر العدوان الهمجي الراهن في محاولة لتهجير سكانه خارج غزة الى سيناء المصرية.. فما أشبه اليوم بالبارحة.
وقد تحدث الكاتب عن التطهير العرقي، وأن الغزاة استخدموه وطبقوا مضمونه بمنهجية عالية ضد السكان الأصليين منذ زمن التوراة حتى زمن أوج الاستعمار. ويهدف الطرد الى ترحيل أكبر عدد من السكان، بكل الوسائل المتاحة. وذكر المؤلف عدة تعريفات للتطهير العرقي وكلها تقريباً تتشابه بانه طرد جماعي واسع النطاق يتم بالقوة على خلفية دينية أو عرقية أو سياسية... الخ.
وإن التطهير العرقي يعتبر في المعاهدات الدولية جريمة ضد الإنسانية يجب أن تخضع للمحاكمة بموجب القانون الدولي، وإن مرتكبي هذه الجريمة هم مجموعة معروفة تبدأ من بن جوريون وزملائه أمثال: ياجيل يادين، وموشيه ديان، وإيجال آلون، ويتسحاق ساديه. ويذكر الكاتب أسماء بعض الضباط الذين قادوا عمليات تطهير في المدن الفلسطينية، كاللد والرملة وصفد والجليل.
ويستغرب الكاتب كيف تم اسقاط جريمة التطهير العرقي في فلسطين من الذاكرة العالمية الجماعية ومحو هذه الجريمة من ضمير العالم، وكيف تم تجاهل هذه الجريمة مع وجود مراسلين صحفيين أجانب ومراقبين تابعين للأمم المتحدة.
يكشف كتاب التطهير العرقي في فلسطين كيف جرت عمليات التطهير في فلسطين سنة 1948، وكيف كان الترحيل والتطهير العرقي جزءاً جوهرياً من استراتيجيا الحركة الصهيونية. ما يشكل جريمة ضد الإنسانية وليس مجرد هروب أو انتقال إرادي للسكان.
ويعتبر هذا الكتاب للكاتب إيلان بابيه؛ من الكتب الجريئة التي تناولت القضية الفلسطينية بطريقة جديدة وهي الخروج عن الرواية الرسمية، عن طريق تسجيل شهادة موثقة عن حرب التطهير العنصري التي تعتبرها إسرائيل حرب التحرير.
واعتبر الدكتور ريتشارد فولك، أستاذ القانون الدولي وممارسته في جامعة برينستون، ومقرر حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية سابقا، أن «إيلان بابيه ألف كتابا مدهشا بما يتعلق بالعلاقات الإسرائيلية – الفلسطينية وحاضرها ومستقبلها». النظرة الثاقبة التي وظفها البروفيسور بابيه في بحثه، وكذلك شجاعته؛ وجهتا خطاه للتنقيب والكشف عن أكبر عدد من الجرائم؛ فهو ينظر أيضا إلى الحروب التي حدثت في غزة بمنظور جرائم التطهير العراقي.
وفي الكتاب معلومات توثق حرب 1948 والأعمال الوحشية التي حدثت في القرى، والإعدامات الجماعية، وتعذيب الضحايا. ويشير بابيه، إلى أن فكرة تهجير العرب من ديارهم كانت في أذهان القادة الصهاينة منذ ثلاثينيات القرن الماضي. «كانت رؤية الدولة القومية اليهودية المحضة راسخة في صميم الأيديولوجيا الصهيونية منذ أن برزت الحركة أواخر القرن التاسع عشر».
ويختم بابيه الكتاب بالقول، إن إسرائيل كدولة وكشعب ليست نادمة على ما فعلت بحق الفلسطينيين.
وما يميز هذا الكتاب أنه يقدم صورة شاملة لما حدث من أعمال التطهير العرقي ضد الفلسطينيين، أصحاب الأرض، عامي 1947 و1948، بأسلوب علمي جريء، وخاصة أنّ مؤلفه مؤرخ يهودي يساري، حاول دحض مزاعم الصهيونية والأفكار التي حاولت أن تروجها إسرائيل لشعبها وللعالم على مدار العقود السابقة. وتأتي أهمية الكتاب لكونه يعتمد على أرشيف الحركة الصهيونية والأرشيفات العسكرية من جهة، وعلى شهادات الناجين من المجازر من جهة أخرى.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك