العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

إسرائيل وتوريط الغرب في حرب الإبادة على غزة

بقلم : د. حسن نافعة {

الجمعة ١٥ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

ارتبط‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬ارتباطاً‭ ‬عضوياً‭ ‬بالمشروع‭ ‬الاستعماري‭ ‬الأوروبي‭. ‬ولأن‭ ‬بريطانيا‭ ‬كانت‭ ‬هي‭ ‬الدولة‭ ‬المهيمنة‭ ‬على‭ ‬النظام‭ ‬العالمي‭ ‬عندما‭ ‬تأسست‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر،‭ ‬وكانت‭ ‬تتطلع‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬وراثة‭ ‬إمبراطورية‭ ‬عثمانية‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬التفكك‭ ‬والانهيار،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬اندلاع‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الأولى‭ ‬إلى‭ ‬تهيئة‭ ‬الأوضاع‭ ‬لتلاقي‭ ‬المصالح‭ ‬الاستعمارية‭ ‬والصهيونية‭.‬

فبريطانيا‭ ‬كانت‭ ‬تدرك‭ ‬أن‭ ‬غالبية‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬لتعذر‭ ‬اندماجهم‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬أوروبية‭ ‬تعرضوا‭ ‬فيها‭ ‬لموجات‭ ‬متلاحقة‭ ‬من‭ ‬الاضطهاد،‭ ‬وكانت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬تخشى‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬تفكك‭ ‬الإمبراطورية‭ ‬العثمانية‭ ‬إلى‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬تحل‭ ‬محلها‭ ‬عقب‭ ‬هزيمتها‭ ‬المتوقعة‭ ‬في‭ ‬الحرب،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬تلاقت‭ ‬مصالحها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬التطابق‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬مشروع‭ ‬يستهدف‭ ‬إقامة‭ ‬وطن‭ ‬قومي‭ ‬لليهود‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬تحديداً،‭ ‬وليس‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭.‬

فإقامته‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬دولة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬تخليص‭ ‬المجتمعات‭ ‬الأوروبية‭ ‬من‭ ‬يهود‭ ‬غير‭ ‬مرحب‭ ‬بوجودهم‭ ‬فيها،‭ ‬لكن‭ ‬إقامته‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬تحديداً‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تساعد‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬على‭ ‬فصل‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬عن‭ ‬مغربه،‭ ‬ويحول‭ ‬بالتالي‭ ‬دون‭ ‬إقامة‭ ‬دولة‭ ‬عربية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬استراتيجية‭ ‬حساسة‭.‬

وفي‭ ‬هذا‭ ‬السياق‭ ‬وحده،‭ ‬يمكن‭ ‬فهم‭ ‬الدوافع‭ ‬التي‭ ‬حدت‭ ‬ببريطانيا‭ ‬إلى‭ ‬إصدار‭ ‬‮«‬وعد‭ ‬بلفور‮»‬‭ ‬في‭ ‬2‭ ‬نوفمبر‭ ‬1917،‭ ‬ثم‭ ‬إلى‭ ‬الحرص‭ ‬على‭ ‬تضمين‭ ‬صك‭ ‬انتدابها‭ ‬على‭ ‬فلسطين‭ ‬عام‭ ‬1922‭ ‬بنداً‭ ‬يضفي‭ ‬مشروعية‭ ‬دولية‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الوعد‭ ‬الصادر‭ ‬عن‭ ‬غير‭ ‬ذي‭ ‬صفة‭. ‬ولولا‭ ‬هاتان‭ ‬الخطوتان‭ ‬التأسيسيتان‭ ‬لما‭ ‬تحوّل‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬من‭ ‬حلم‭ ‬بعيد‭ ‬المنال‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬يتحرك‭ ‬على‭ ‬الأرض‭.‬

مع‭ ‬هبوب‭ ‬رياح‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬ظهرت‭ ‬تناقضات‭ ‬بين‭ ‬المصالح‭ ‬البريطانية‭ ‬والصهيونية،‭ ‬إذ‭ ‬خشيت‭ ‬بريطانيا‭ ‬من‭ ‬انحياز‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬إلى‭ ‬دول‭ ‬المحور،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬قامت‭ ‬بنشر‭ ‬‮«‬الكتاب‭ ‬الأبيض‮»‬‭ ‬الذي‭ ‬تضمن‭ ‬فرض‭ ‬بعض‭ ‬القيود‭ ‬على‭ ‬الهجرة‭ ‬اليهودية‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين،‭ ‬ما‭ ‬أثار‭ ‬غضب‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬ودفعها‭ ‬إلى‭ ‬نقل‭ ‬مركز‭ ‬نشاطها‭ ‬إلى‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭.‬

لذا،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬بأن‭ ‬انعقاد‭ ‬المؤتمر‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬بلتيمور‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬1942‭ ‬يعد‭ ‬نقطة‭ ‬تحوّل‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬التي‭ ‬استشعرت‭ ‬بداية‭ ‬أفول‭ ‬العصر‭ ‬البريطاني‭ ‬وصعود‭ ‬العصر‭ ‬الأمريكي،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬شرعت‭ ‬في‭ ‬التغلغل‭ ‬داخل‭ ‬أحشاء‭ ‬المجتمع‭ ‬الأمريكي‭ ‬وحرصت‭ ‬على‭ ‬عقد‭ ‬أوثق‭ ‬الصلات‭ ‬مع‭ ‬مختلف‭ ‬أطياف‭ ‬نخبته‭ ‬السياسية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نجحت‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد،‭ ‬بدليل‭ ‬قيام‭ ‬الرئيس‭ ‬الأميركي‭ ‬ترومان‭ ‬بممارسة‭ ‬ضغوط‭ ‬هائلة‭ ‬على‭ ‬الدول‭ ‬الأعضاء‭ ‬في‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬لحملها‭ ‬على‭ ‬التصويت‭ ‬لصالح‭ ‬مشروع‭ ‬تقسيم‭ ‬فلسطين‭ ‬الذي‭ ‬أقرته‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬عام‭ ‬1947،‭ ‬واعترافه‭ ‬بدولة‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬بعد‭ ‬دقائق‭ ‬فقط‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬بن‭ ‬جوريون‭ ‬عن‭ ‬قيامها‭ ‬في‭ ‬14‭ ‬مايو‭ ‬عام‭ ‬1948‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬ارتكبت‭ ‬خطأ‭ ‬قاتلاً‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬حين‭ ‬تآمرت‭ ‬مع‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬ظهر‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وقررت‭ ‬المشاركة‭ ‬في‭ ‬العدوان‭ ‬على‭ ‬مصر‭ ‬عام‭ ‬1956،‭ ‬لكنها‭ ‬حرصت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬على‭ ‬ألا‭ ‬يتكرر‭ ‬مثل‭ ‬هذا‭ ‬الخطأ‭ ‬أبداً،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬بدأت‭ ‬تضاعف‭ ‬جهودها‭ ‬للسيطرة‭ ‬على‭ ‬أهم‭ ‬مفاصل‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركية‭.‬

ولأنه‭ ‬تعين‭ ‬على‭ ‬الإدارات‭ ‬الأميركية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬أن‭ ‬تأخذ‭ ‬في‭ ‬حسبانها‭ ‬ظهور‭ ‬التيار‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬وتنامي‭ ‬قوته‭ ‬بقيادة‭ ‬مصر‭ ‬الناصرية،‭ ‬فقد‭ ‬حرص‭ ‬بعض‭ ‬الرؤساء‭ ‬الأميركيين‭ ‬ومنهم‭ ‬كيندي‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬على‭ ‬تبني‭ ‬سياسة‭ ‬أقل‭ ‬انحيازاً‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬سوى‭ ‬الاستثناء‭ ‬الذي‭ ‬يثبت‭ ‬القاعدة‭.‬

فبعد‭ ‬اغتيال‭ ‬كيندي،‭ ‬الذي‭ ‬تؤكد‭ ‬مصادر‭ ‬كثيرة‭ ‬ضلوع‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬فيه،‭ ‬تبنت‭ ‬إدارة‭ ‬جونسون‭ ‬سياسة‭ ‬منحازة‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬طول‭ ‬الخط،‭ ‬تجلّت‭ ‬أبعادها‭ ‬بوضوح‭ ‬إبان‭ ‬العدوان‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬عام‭ ‬1967‭.‬

كانت‭ ‬أزمة‭ ‬67‭ ‬كاشفة‭ ‬لعمق‭ ‬العلاقة‭ ‬التي‭ ‬ربطت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬بالولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأميركية‭. ‬فبعد‭ ‬ما‭ ‬حققته‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الحرب،‭ ‬بدأت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬تدرك‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬وقت‭ ‬مضى‭ ‬أنها‭ ‬دولة‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬القيام‭ ‬بوظائف‭ ‬كثيرة‭ ‬لخدمة‭ ‬المصالح‭ ‬الأميركية‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬وفي‭ ‬العالم،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬تهتم‭ ‬كثيراً‭ ‬بمراعاة‭ ‬شعور‭ ‬الدول‭ ‬العربية،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬أقرب‭ ‬حلفائها‭.‬

ساعد‭ ‬على‭ ‬تعميق‭ ‬هذا‭ ‬التوجه‭ ‬انهيار‭ ‬التيار‭ ‬القومي‭ ‬العربي‭ ‬وتفكك‭ ‬نظامه‭ ‬الإقليمي‭ ‬تدريجياً،‭ ‬بعد‭ ‬تلقيهما‭ ‬ضربة‭ ‬شديدة‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬67،‭ ‬ثم‭ ‬أقدم‭ ‬السادات‭ ‬على‭ ‬إبرام‭ ‬معاهدة‭ ‬سلام‭ ‬منفردة‭ ‬مع‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عام‭ ‬1979،‭ ‬ثم‭ ‬جاءت‭ ‬ضربة‭ ‬قاصمة‭  ‬للنظام‭ ‬العربي‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬حين‭ ‬أقدم‭ ‬على‭ ‬احتلال‭ ‬الكويت‭ ‬وضمها‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬بالقوة‭ ‬المسلحة‭.‬

ولا‭ ‬جدال‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬انفراط‭ ‬عقد‭ ‬النظام‭ ‬العربي،‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬وازدياد‭ ‬قوة‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬العسكرية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والتكنولوجية،‭ ‬من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬أغرى‭ ‬الغرب‭ ‬بالاعتماد‭ ‬أكثر‭ ‬على‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬بل‭ ‬وبدأ‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬ليس‭ ‬باعتبارها‭ ‬مجرد‭ ‬حاجز‭ ‬يحول‭ ‬دون‭ ‬التقاء‭ ‬المشرق‭ ‬العربي‭ ‬بمغربه،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬هذا‭ ‬الاحتمال‭ ‬بعيد‭ ‬المنال،‭ ‬ولكن‭ ‬باعتبارها‭ ‬الركيزة‭ ‬الاستراتيجية‭ ‬الرئيسية‭ ‬للغرب‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬والوكيل‭ ‬المعتمد‭ ‬الوحيد‭ ‬المخوّل‭ ‬المحافظة‭ ‬على‭ ‬مصالحه‭.‬

كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي،‭ ‬في‭ ‬سياق‭ ‬كهذا،‭ ‬أن‭ ‬تبدأ‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬إعداد‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬وتجهيزها‭ ‬لقيادة‭ ‬المنطقة‭. ‬لذا،‭ ‬لم‭ ‬تكتف‭ ‬بالتعهد‭ ‬بضمان‭ ‬تفوقها‭ ‬العسكري‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬مجتمعة،‭ ‬ولا‭ ‬بمدّها‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬تحتاجه‭ ‬من‭ ‬دعم‭ ‬مادي‭ ‬ومعنوي‭ ‬للمحافظة‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬التفوق،‭ ‬وإنما‭ ‬قامت‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬بتحويلها‭ ‬إلى‭ ‬أكبر‭ ‬مخزن‭ ‬للسلاح‭ ‬الأميركي‭ ‬في‭ ‬العالم‭.‬

وهكذا‭ ‬راح‭ ‬الدعم‭ ‬الأمريكي‭ ‬غير‭ ‬المشروط‭ ‬وغير‭ ‬المحدود‭ ‬يتدفق‭ ‬تباعاً‭ ‬على‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬وتتزايد‭ ‬وتيرته‭ ‬من‭ ‬إدارة‭ ‬لأخرى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬وصل‭ ‬ذروته‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬الإدارة‭ ‬الأميركية‭ ‬الحالية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يتردد‭ ‬رئيسها‭ ‬في‭ ‬وصف‭ ‬نفسه‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬صهيوني‮»‬‭.‬

ورغم‭ ‬ما‭ ‬تتسم‭ ‬به‭ ‬العلاقة‭ ‬بين‭ ‬بايدن‭ ‬ونتنياهو‭ ‬من‭ ‬جفاء،‭ ‬فإن‭ ‬الأول‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬منع‭ ‬نفسه‭ ‬من‭ ‬الهرولة‭ ‬لزيارة‭ ‬الثاني‭ ‬في‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬عقب‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬راح‭ ‬العالم‭ ‬كله‭ ‬يتابع‭ ‬في‭ ‬ذهول‭ ‬وزير‭ ‬الخارجية‭ ‬الأميركي‭ ‬وهو‭ ‬يقول‭ ‬عند‭ ‬مصافحته‭ ‬نتنياهو‭ ‬بعد‭ ‬الطوفان‭ ‬‮«‬لقد‭ ‬جئت‭ ‬إليك‭ ‬اليوم‭ ‬ليس‭ ‬بصفتي‭ ‬وزيراً‭ ‬لخارجية‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬ولكن‭ ‬بصفتي‭ ‬يهوديا‮»‬‭!‬

ثم‭ ‬شاهدنا‭ ‬تدافع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬الوزراء‭ ‬وكبار‭ ‬الشخصيات‭ ‬الأمريكية‭ ‬والأوروبية‭ ‬وهم‭ ‬يهرولون‭ ‬نحو‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬كأنهم‭ ‬يتوجهون‭ ‬إلى‭ ‬سرادق‭ ‬عزاء‭ ‬أقيم‭ ‬لكبير‭ ‬العائلة‭.‬

وليس‭ ‬عندي‭ ‬من‭ ‬تفسير‭ ‬لهذا‭ ‬المشهد‭ ‬المثير‭ ‬سوى‭ ‬أنه‭ ‬يعكس‭ ‬مشاعر‭ ‬غربية‭ ‬متضاربة‭ ‬تجاه‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬تختلط‭ ‬فيها‭ ‬أحاسيس‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬عقدة‭ ‬ذنب‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬يشعر‭ ‬بها‭ ‬عدد‭ ‬كبير‭ ‬من‭ ‬الزعماء‭ ‬الغربيين‭ ‬بسبب‭ ‬ما‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬اليهود‭ ‬من‭ ‬اضطهاد‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وصل‭ ‬ذروته‭ ‬في‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية،‭ ‬مع‭ ‬أحاسيس‭ ‬ناجمة‭ ‬عن‭ ‬إعجاب‭ ‬شديد‭ ‬بما‭ ‬حققته‭ ‬‮«‬دولة‮»‬‭ ‬يعتقدون‭ ‬أنها‭ ‬تنتمي‭ ‬إلى‭ ‬دائرتهم‭ ‬الحضارية‭ ‬من‭ ‬إنجازات‭ ‬على‭ ‬مختلف‭ ‬الصعد‭ ‬العسكرية‭ ‬والعلمية،‭ ‬لكن‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬الغرب‭ ‬نسي‭ ‬تماماً،‭ ‬أو‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يتناسى،‭ ‬أنه‭ ‬لعب‭ ‬الدور‭ ‬الأكبر‭ ‬في‭ ‬التمكين‭ ‬لكيان‭ ‬قام‭ ‬على‭ ‬أساطير‭ ‬دينية‭ ‬من‭ ‬ارتكاب‭ ‬جريمة‭ ‬تاريخية‭ ‬كبرى‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬شعب‭ ‬فلسطيني‭ ‬لا‭ ‬ذنب‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الاضطهاد‭ ‬الذي‭ ‬تعرض‭ ‬له‭ ‬اليهود‭.‬

والواقع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المشاعر‭ ‬المختلطة،‭ ‬والمتناقضة‭ ‬في‭ ‬آن‭ ‬واحد،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬جعلت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وحلفاءها‭ ‬الغربيين‭ ‬يتغاضون‭ ‬عن‭ ‬الانتهاكات‭ ‬البشعة‭ ‬التي‭ ‬ترتكب‭ ‬يوميا‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حرب‭ ‬الإبادة‭ ‬التي‭ ‬تشنها‭ ‬إسرائيل‭ ‬ضد‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬وكذلك‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬كامل،‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬شعب‭ ‬احتلت‭ ‬أرضه‭ ‬ويعيش‭ ‬نصفه‭ ‬مشرداً‭ ‬في‭ ‬المنافي‭ ‬أما‭ ‬نصفه‭ ‬الآخر‭ ‬فما‭ ‬زال‭ ‬يعيش‭ ‬في‭ ‬وطنه‭ ‬المغتصب،‭ ‬ولكن‭ ‬كمواطنين‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية‭.‬

لقد‭ ‬نسيت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وحلفاؤها‭ ‬الأوروبيون‭ ‬أن‭ ‬الكيان‭ ‬الذي‭ ‬تأسس‭ ‬على‭ ‬أسطورة‭ ‬دينية‭ ‬لا‭ ‬يملك‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يتجه‭ ‬دوماً‭ ‬نحو‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬التطرف‭ ‬والتعصب‭ ‬ورفض‭ ‬الآخر‭. ‬وها‭ ‬هي‭ ‬تقارير‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬ومنظمات‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬العالمية‭ ‬تجمع‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬السياسي‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬أصبح،‭ ‬ومنذ‭ ‬سنوات‭ ‬عديدة،‭ ‬نظام‭ ‬فصل‭ ‬عنصري‭ ‬يمارس‭ ‬التمييز‭ ‬وينتهج‭ ‬الأبارتيد،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬يبتعد‭ ‬تماماً‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭ ‬التي‭ ‬نادت‭ ‬بها‭ ‬الديمقراطيات‭ ‬الليبرالية‭ ‬يوماً‭ ‬ما‭.‬

ويكفي‭ ‬أن‭ ‬نتأمل‭ ‬رد‭ ‬فعل‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الغاصب‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬التي‭ ‬تسببت،‭ ‬حتى‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬السطور،‭ ‬في‭ ‬استشهاد‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬18ألف‭ ‬شخص‭ ‬وفي‭ ‬إصابة‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬خمسين‭ ‬ألف‭ ‬شخص،‭ ‬ودمرت‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬مساكن‭ ‬غزة،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬المدارس‭ ‬والمستشفيات‭ ‬ودور‭ ‬العبادة،‭ ‬وقطعت‭ ‬الغذاء‭ ‬والمياه‭ ‬والكهرباء‭ ‬ووسائل‭ ‬الاتصال‭ ‬عن‭ ‬جميع‭ ‬سكان‭ ‬القطاع‭ ‬البالغ‭ ‬تعدادهم‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬اثنين‭ ‬ونصف‭ ‬مليون‭ ‬نسمة،‭ ‬لندرك‭ ‬حجم‭ ‬الانحطاط‭ ‬الذي‭ ‬تردى‭ ‬إليه‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬وحجم‭ ‬الجرم‭ ‬الذي‭ ‬ارتكبه‭.‬

عندما‭ ‬تصف‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬والدول‭ ‬الأوروبية‭ ‬سلوك‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يتورع‭ ‬عن‭ ‬ارتكاب‭ ‬جرائم‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬وجرائم‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية‭ ‬بأنه‭ ‬‮«‬دفاع‭ ‬عن‭ ‬النفس‮»‬،‭ ‬ثم‭ ‬تقوم‭ ‬بإرسال‭ ‬حاملات‭ ‬طائراتها‭ ‬وقطعها‭ ‬البحرية‭ ‬وجيوشها‭ ‬وأجهزة‭ ‬مخابراتها‭ ‬إلى‭ ‬الشواطئ‭ ‬القريبة‭ ‬لحمايته‭ ‬والدفاع‭ ‬عنه،‭ ‬فمن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تصبح‭ ‬شريكاً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬جرائمه‭ ‬ضد‭ ‬الإنسانية‭ ‬في‭ ‬غزة‭.‬

وسواء‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬نجحت‭ ‬في‭ ‬توريط‭ ‬الغرب‭ ‬واستدراجه‭ ‬للتماهي‭ ‬معها‭ ‬في‭ ‬جرائمها،‭ ‬أو‭ ‬كان‭ ‬إصرار‭ ‬الغرب‭ ‬على‭ ‬الانحياز‭ ‬إلى‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬لحماية‭ ‬مصالحه‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬توريط‭ ‬الغرب‭ ‬وتعريته‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬الحد،‭ ‬فالنتيجة‭ ‬واحدة،‭ ‬وهي‭ ‬أن‭ ‬كليهما‭ ‬سقطا‭ ‬في‭ ‬اختبار‭ ‬الإنسانية‭ ‬والحضارة‭ ‬الحقة،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فعليهما‭ ‬معاً‭ ‬تقع‭ ‬مسؤولية‭ ‬إنقاذهما‭ ‬من‭ ‬الوحل‭ ‬الذي‭ ‬انغرسا‭ ‬فيه‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية

في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا