العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

الثقافي

سـرديـات: الفلسفة التوليفية وسرديات العالم

بقلم: د. ضياء عبدالله الكعبي

السبت ١٦ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

بول‭ ‬ريكور‭ (‬1913-2005‭) ‬هو‭ ‬آخر‭ ‬فلاسفة‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬الذين‭ ‬تركوا‭ ‬بصمة‭ ‬تأسيسيّة‭ ‬ملهمة‭ ‬ومؤثَّرة‭ ‬لاتزالُ‭ ‬فاعلةً‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬الدوائر‭ ‬الأكاديميّة‭ ‬النخبويّة‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬كلِّه،‭  ‬وإنّما‭ ‬حتّى‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬الدوائر‭ ‬السياسيّة‭ ‬الكبرى‭ ‬ومواضع‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭ ‬السياسيّ‭ ‬في‭  ‬واحدة‭ ‬من‭ ‬كبريات‭ ‬الدول‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬أقصد‭ ‬فرنسا‭. ‬فما‭ ‬الذي‭ ‬يجعلُ‭ ‬فيلسوفًا‭ ‬ومفكرًا‭ ‬فرنسيًا‭ ‬قضى‭ ‬جلَّ‭ ‬حياته‭ ‬خلال‭ ‬ستة‭ ‬عقود‭ ‬متصلة‭ ‬في‭ ‬التأليف‭ ‬الفلسفيّ،‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يجعله‭ ‬مؤثِّرًا‭ ‬وفاعلاً‭ ‬راهنًا‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الفرنسيّة‭ ‬الحالية‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬إمانويل‭ ‬ماكرون؟‭!‬

الذي‭ ‬قادني‭ ‬إلى‭ ‬كتابة‭ ‬هذه‭ ‬المقالة‭  ‬محاولة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬إجابة‭ ‬مقنعة‭ ‬لهذا‭ ‬السؤال‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬وجدته‭ ‬في‭ ‬المقدمة‭ ‬التي‭ ‬صدّرها‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬بول‭ ‬ريكور‭ ‬لكتابه‭ ‬الفلسفيّ‭ ‬الملهم‭ ‬‮«‬الذاكرة،‭ ‬التاريخ،‭ ‬النسيان‮»‬،‭ (‬نُشِرَ‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬للمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بالفرنسيّة‭ ‬سنة‭ ‬2000‭)‬؛‭ ‬ففي‭ ‬نهاية‭ ‬التصدير‭ ‬يشكر‭ ‬ريكور‭ ‬تلميذه‭ ‬إمانويل‭ ‬ماكرون‭ ‬الذي‭ ‬يدين‭ ‬له‭ ‬بنقد‭ ‬صائب‭ ‬للكتابة‭ ‬ولصياغة‭ ‬الجهاز‭ ‬النقديّ‭ ‬لهذا‭ ‬المصنَّف،‭ ‬والذي‭ ‬قرأ‭ ‬كتاب‭ ‬‮«‬الذاكرة،‭ ‬التاريخ،‭ ‬النسيان‮»‬‭ ‬يعرف‭ ‬مقدار‭ ‬الجهد‭ ‬المذهل‭ ‬الذي‭ ‬بذله‭ ‬ريكور‭ ‬وهو‭ ‬يستنطق‭ ‬المئات‭ ‬من‭ ‬الوثائق‭ ‬والمصادر‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬لترسيخ‭ ‬الكوجيتو‭ ‬الذي‭ ‬ينطلق‭ ‬منه‭: ‬كوجيتو‭ ‬الإنسان‭ ‬القادر‭: ‬أنا‭ ‬أقدر‭ ‬إذن‭ ‬أنا‭ ‬موجود،‭ ‬وتصدر‭ ‬مؤلفات‭ ‬ريكور‭ ‬في‭ ‬مجملها،‭ ‬وفي‭ ‬مجمل‭ ‬مشروعه‭ ‬الفلسفيّ‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬النظرية‭ ‬الفلسفيّة‭ ‬التي‭ ‬ابتدعها‭ (‬كوجيتو‭ ‬الإنسان‭ ‬القادر‭): (‬‮«‬التناهي‭ ‬والعقاب‮»‬،‭ ‬‮«‬فرويد‭ ‬والفلسفة‮»‬،‭ ‬‮«‬صراع‭ ‬التأويلات‮»‬،‭ ‬‮«‬االاستعارة‭ ‬الحية‮»‬،‭ ‬‮«‬مدرسة‭ ‬الفينومينولوجيا‮»‬،‭ ‬‮«‬الزمان‭ ‬والسرد‮»‬،‭ ‬‮«‬محاضرات‭ ‬في‭ ‬الأيديولوجيا‭ ‬واليوتوبيا‮»‬،‭ ‬‮«‬الذات‭ ‬عينها‭ ‬كآخر‮»‬،‭ ‬‮«‬مسار‭ ‬التعرُّف‮»‬،‭ ‬‮«‬العادل‮»‬،‭ ‬‮«‬الذكرة،‭ ‬التاريخ،‭ ‬النسيان‮»‬‭).‬

ربطت‭ ‬علاقة‭ ‬علمية‭ ‬وثيقة‭ ‬بين‭  ‬بول‭ ‬ريكور‭ ‬والرئيس‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬إمانويل‭ ‬ماكرون‭ ‬قبل‭ ‬توليه‭ ‬الرئاسة‭ ‬الفرنسيّة؛‭ ‬فالمعروف‭ ‬عن‭ ‬ماكرون‭ ‬أنَّه‭ ‬خريج‭ ‬فلسفة‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يلتحق‭  ‬بالمدرسة‭ ‬الوطنية‭ ‬العليا‭ ‬للإدارة‭ ‬في‭ ‬باريس؛‭ ‬ولذلك‭ ‬كان‭ ‬عمله‭ ‬لمدة‭ ‬سنتين‭ ‬مع‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬بول‭ ‬ريكور،‭ ‬وهو‭ ‬الفيلسوف‭ ‬الصعب‭ ‬جدًا‭ ‬والعصي‭ ‬جدًا‭ ‬على‭ ‬التصنيف،‭ ‬الذي‭ ‬تمتاز‭ ‬أطروحاته‭ ‬العلمية‭ ‬بأنها‭ ‬فلسفيّة‭ ‬كونيّة‭ ‬عابرة‭ ‬للأزمنة‭ ‬والأمكنة،‭ ‬ونستطيع‭ ‬وصفه‭ ‬بالفيلسوف‭ ‬‮«‬القاري‮»‬،‭ ‬وهي‭ ‬تسمية‭ ‬أطلقها‭ ‬عليه‭ ‬بعض‭ ‬ناقديه‭. ‬لقد‭ ‬بحث‭ ‬ريكور‭ ‬في‭ ‬إشكاليات‭ ‬فلسفيّة‭ ‬كبرى‭ ‬مثل‭ ‬مسائل‭ ‬الإيديولوجيا‭ ‬واليوتوبيا،‭ ‬واشتُهِرَ‭ ‬بول‭ ‬ريكور‭ ‬في‭ ‬فلسفته‭ ‬التوليفيّة،‭ ‬وهي‭ ‬الفلسفة‭ ‬التي‭ ‬تبحث‭ ‬عن‭ ‬الوحدة‭ ‬بين‭ ‬وجهات‭ ‬النظر‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التوفيق‭ ‬بينها‭ ‬ظاهريًا،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬له‭ ‬صلة‭ ‬بتلك‭ ‬الرؤية‭ ‬المركزية‭ ‬الأوروبيّة‭ ‬السياسيّة‭ ‬التي‭ ‬يحاول‭ ‬الرئيس‭ ‬الفرنسي‭ ‬إمانويل‭ ‬ماكرون‭ ‬تقديمها‭ ‬إلى‭ ‬العالم‭: ‬فرنسا‭ ‬موحَّدة،‭ ‬وأوروبا‭ ‬موحّدة‭ ‬في‭ ‬توليفة‭ ‬سياسية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬أيديولوجيا‭ ‬اليمين‭ ‬المتطرف‭.‬

بيّنت‭ ‬إيلين‭ ‬برينان‭ ‬المتخصصة‭ ‬في‭ ‬الفلسفة‭ ‬الفرنسّية‭ ‬والأستاذة‭ ‬في‭ ‬الجمعية‭ ‬الدوليّة‭ ‬للدراسات‭ ‬الريكورية‭ ‬وجود‭ ‬تأثّر‭ ‬في‭ ‬الخطاب‭ ‬السياسيّ‭  ‬للرئيس‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬إمانويل‭ ‬ماكرن‭ ‬بالفيلسوف‭ ‬والمفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬بول‭ ‬ريكور،‭ ‬فثّمة‭ ‬تكرار‭ ‬‮«‬متعمد‮»‬‭ ‬للغاية‭ ‬عند‭ ‬ماكرون‭ ‬لعبارة‭ ‬‮«‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‮»‬،‭ ‬عندما‭ ‬يعلن‭ ‬عن‭ ‬خططه‭ ‬للقيام‭ ‬بأمرين‭ ‬متناقضين،‭ ‬مثل‭ ‬تحرّر‭ ‬سوق‭ ‬العمل‭ ‬وحماية‭ ‬هؤلاء‭ ‬الذين‭ ‬سيشغلون‭ ‬وظائف‭ ‬غير‭ ‬آمنة‭. ‬ويتفق‭ ‬هذا‭ ‬المخطط‭(‬البلاغيّ‭/ ‬الخطابيّ‭) ‬تمامًا‭ ‬مع‭ ‬المسئولية‭ ‬الأخلاقيّة‭ ‬لدى‭ ‬ماكرون‭ ‬المستوحاة‭ ‬من‭ ‬ريكور‭. ‬لقد‭ ‬اشتغل‭ ‬ريكور‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الذاكرة،‭ ‬التاريخ‭ ‬النسيان‮»‬،‭ ‬وهو‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬أسهم‭ ‬ماكرون‭ ‬في‭ ‬تحريره‭ ‬ومراجعته‭ ‬ونقده،‭ ‬على‭ ‬الوظيفة‭ ‬الدمجية‭ ‬الخاصة‭ ‬بالجماعة،‭ ‬وهو‭ ‬المستوى‭ ‬الذي‭ ‬حاول‭ ‬ماكرون‭ ‬تطبيقه‭ ‬عندما‭ ‬اختار‭ ‬وزراء‭ ‬من‭ ‬مختلف‭ ‬الطيف‭ ‬السياسيّ‭ ‬في‭ ‬سعي‭ ‬منه‭ ‬لترميز‭ ‬الوساطة‭ ‬فيما‭ ‬هو‭ ‬فرنسا‭ ‬مقسمة‭ ‬بشأنه،‭ ‬وهو‭ ‬نهج‭ ‬ريكوريّ‭ ‬أصلاً‭: ‬الوحدة‭ ‬التوليفية‭ ‬رغم‭ ‬التناقض‭ ‬والتعارض‭.‬

أدعو‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬منجز‭ ‬الفيلسوف‭ ‬والمفكر‭ ‬الفرنسيّ‭ ‬بول‭ ‬ريكور‭ ‬كاملاً‭ ‬للتعرّف‭ ‬إلى‭ ‬ذلك‭ ‬التأثير‭ ‬الهائل‭ ‬الذي‭ ‬أحدثه‭ ‬فيلسوف‭ ‬معاصر‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬فلسفته‭ ‬السياسية‭ ‬‮«‬التوليفية‮»‬‭ ‬و«العابرة‭ ‬للقارات‮»‬‭.‬

{ أستاذة‭ ‬السرديات‭ ‬والنقد‭ ‬الأدبيّ‭ ‬الحديث‭ ‬المشارك،

كلية‭ ‬الآداب،‭ ‬جامعة‭ ‬البحرين‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا