بول ريكور (1913-2005) هو آخر فلاسفة القرن العشرين الذين تركوا بصمة تأسيسيّة ملهمة ومؤثَّرة لاتزالُ فاعلةً حتى الآن ليس فقط في الدوائر الأكاديميّة النخبويّة في العالم كلِّه، وإنّما حتّى كذلك في الدوائر السياسيّة الكبرى ومواضع اتخاذ القرار السياسيّ في واحدة من كبريات الدول في العالم أقصد فرنسا. فما الذي يجعلُ فيلسوفًا ومفكرًا فرنسيًا قضى جلَّ حياته خلال ستة عقود متصلة في التأليف الفلسفيّ، ما الذي يجعله مؤثِّرًا وفاعلاً راهنًا في السياسة الفرنسيّة الحالية في عهد الرئيس الفرنسيّ إمانويل ماكرون؟!
الذي قادني إلى كتابة هذه المقالة محاولة البحث عن إجابة مقنعة لهذا السؤال هو ما وجدته في المقدمة التي صدّرها الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور لكتابه الفلسفيّ الملهم «الذاكرة، التاريخ، النسيان»، (نُشِرَ هذا الكتاب للمرة الأولى بالفرنسيّة سنة 2000)؛ ففي نهاية التصدير يشكر ريكور تلميذه إمانويل ماكرون الذي يدين له بنقد صائب للكتابة ولصياغة الجهاز النقديّ لهذا المصنَّف، والذي قرأ كتاب «الذاكرة، التاريخ، النسيان» يعرف مقدار الجهد المذهل الذي بذله ريكور وهو يستنطق المئات من الوثائق والمصادر في محاولة لترسيخ الكوجيتو الذي ينطلق منه: كوجيتو الإنسان القادر: أنا أقدر إذن أنا موجود، وتصدر مؤلفات ريكور في مجملها، وفي مجمل مشروعه الفلسفيّ عن هذه النظرية الفلسفيّة التي ابتدعها (كوجيتو الإنسان القادر): («التناهي والعقاب»، «فرويد والفلسفة»، «صراع التأويلات»، «االاستعارة الحية»، «مدرسة الفينومينولوجيا»، «الزمان والسرد»، «محاضرات في الأيديولوجيا واليوتوبيا»، «الذات عينها كآخر»، «مسار التعرُّف»، «العادل»، «الذكرة، التاريخ، النسيان»).
ربطت علاقة علمية وثيقة بين بول ريكور والرئيس الفرنسيّ إمانويل ماكرون قبل توليه الرئاسة الفرنسيّة؛ فالمعروف عن ماكرون أنَّه خريج فلسفة قبل أن يلتحق بالمدرسة الوطنية العليا للإدارة في باريس؛ ولذلك كان عمله لمدة سنتين مع الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور، وهو الفيلسوف الصعب جدًا والعصي جدًا على التصنيف، الذي تمتاز أطروحاته العلمية بأنها فلسفيّة كونيّة عابرة للأزمنة والأمكنة، ونستطيع وصفه بالفيلسوف «القاري»، وهي تسمية أطلقها عليه بعض ناقديه. لقد بحث ريكور في إشكاليات فلسفيّة كبرى مثل مسائل الإيديولوجيا واليوتوبيا، واشتُهِرَ بول ريكور في فلسفته التوليفيّة، وهي الفلسفة التي تبحث عن الوحدة بين وجهات النظر التي لا يمكن التوفيق بينها ظاهريًا، وهو ما له صلة بتلك الرؤية المركزية الأوروبيّة السياسيّة التي يحاول الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون تقديمها إلى العالم: فرنسا موحَّدة، وأوروبا موحّدة في توليفة سياسية في مواجهة أيديولوجيا اليمين المتطرف.
بيّنت إيلين برينان المتخصصة في الفلسفة الفرنسّية والأستاذة في الجمعية الدوليّة للدراسات الريكورية وجود تأثّر في الخطاب السياسيّ للرئيس الفرنسيّ إمانويل ماكرن بالفيلسوف والمفكر الفرنسيّ بول ريكور، فثّمة تكرار «متعمد» للغاية عند ماكرون لعبارة «وفي الوقت نفسه»، عندما يعلن عن خططه للقيام بأمرين متناقضين، مثل تحرّر سوق العمل وحماية هؤلاء الذين سيشغلون وظائف غير آمنة. ويتفق هذا المخطط(البلاغيّ/ الخطابيّ) تمامًا مع المسئولية الأخلاقيّة لدى ماكرون المستوحاة من ريكور. لقد اشتغل ريكور في كتابه «الذاكرة، التاريخ النسيان»، وهو الكتاب الذي أسهم ماكرون في تحريره ومراجعته ونقده، على الوظيفة الدمجية الخاصة بالجماعة، وهو المستوى الذي حاول ماكرون تطبيقه عندما اختار وزراء من مختلف الطيف السياسيّ في سعي منه لترميز الوساطة فيما هو فرنسا مقسمة بشأنه، وهو نهج ريكوريّ أصلاً: الوحدة التوليفية رغم التناقض والتعارض.
أدعو إلى قراءة منجز الفيلسوف والمفكر الفرنسيّ بول ريكور كاملاً للتعرّف إلى ذلك التأثير الهائل الذي أحدثه فيلسوف معاصر من خلال فلسفته السياسية «التوليفية» و«العابرة للقارات».
{ أستاذة السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك