العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

الحرب كوابيس مفزعة لا نهاية لها!

بقلم: فاروق يوسف {

الأحد ٢٤ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

يقول‭ ‬المثل‭ ‬‮«‬مَن‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬النار‭ ‬ليس‭ ‬كمن‭ ‬يده‭ ‬في‭ ‬الماء‮»‬‭. ‬وأهل‭ ‬غزة‭ ‬أياديهم‭ ‬في‭ ‬النار‭. ‬وهذه‭ ‬هي‭ ‬ليست‭ ‬المرة‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬تقع‭ ‬أياديهم‭ ‬في‭ ‬النار‭. ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الجزء‭ ‬الأكبر‭ ‬منهم‭ ‬يتألف‭ ‬من‭ ‬لاجئين‭ ‬تقع‭ ‬أرضهم‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬المحتلة‭. ‬لاجئون‭ ‬مثلهم‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مثل‭ ‬إخوتهم‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬سوريا‭ ‬والأردن‭ ‬ولبنان‭ ‬والعراق‭ ‬غير‭ ‬أنهم‭ ‬يقيمون‭ ‬على‭ ‬جزء‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬فلسطين‭ ‬الذي‭ ‬يُفترض‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬حرا‭ ‬ومستقلا‭ ‬بحسب‭ ‬القوانين‭ ‬الدولية،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الواقع‭ ‬يقول‭ ‬غير‭ ‬ذلك‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬فرضه‭ ‬المحتل‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬حين‭ ‬وجد‭ ‬أن‭ ‬في‭ ‬إمكانه‭ ‬اختراق‭ ‬القوانين‭ ‬الدولية‭ ‬برضا‭ ‬عالمي‭.‬

أهل‭ ‬غزة‭ ‬الذين‭ ‬تصطلي‭ ‬أياديهم‭ ‬في‭ ‬النار‭ ‬يقولون‭ ‬عن‭ ‬معاناتهم‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬المأساة‭ ‬التي‭ ‬يعيشون‭ ‬فصولها‭ ‬شيئا‭ ‬مختلفا‭ ‬عمّا‭ ‬يقوله‭ ‬الذين‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬أياديهم‭ ‬تسبح‭ ‬في‭ ‬الماء‭. ‬ولست‭ ‬هنا‭ ‬أطبّق‭ ‬المثل‭ ‬الذي‭ ‬يقول‭ ‬‮«‬أهل‭ ‬مكة‭ ‬أدرى‭ ‬بشعابها‮»‬‭ ‬فقد‭ ‬نعرف‭ ‬نحن‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬بيوتنا‭ ‬الآمنة‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬القصف‭ ‬اليومي‭ ‬أشياء‭ ‬كثيرة‭ ‬عن‭ ‬أسرار‭ ‬الحرب‭ ‬وما‭ ‬يضمره‭ ‬ويخطط‭ ‬له‭ ‬طرفاها،‭ ‬وأيضا‭ ‬مواقف‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭ ‬السياسية‭ ‬وما‭ ‬يحدث‭ ‬في‭ ‬الكواليس‭ ‬وحتى‭ ‬حقيقة‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الشك‭ ‬واليقين‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬الدول‭ ‬المعنية‭ ‬بالصراع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬غيرها‭ ‬أكثر‭ ‬مما‭ ‬يعرفون‭. ‬ولكن‭ ‬المسألة‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬اختصارها‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الحيز‭ ‬الضيق‭ ‬الذي‭ ‬يفصل‭ ‬بين‭ ‬الترف‭ ‬والشظف‭.‬

ولأنني‭ ‬جربت‭ ‬شخصيا‭ ‬أوضاعا‭ ‬شبيهة‭ ‬بأوضاع‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬حربين‭ ‬كارثيتين‭ ‬أعرف‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬أن‭ ‬يقيم‭ ‬المرء‭ ‬تحت‭ ‬القصف‭. ‬يوم‭ ‬كان‭ ‬الآخرون‭ ‬يحللون‭ ‬من‭ ‬فوق‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬لنا،‭ ‬كنا‭ ‬نقف‭ ‬حائرين‭ ‬في‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬الضحك‭ ‬والبكاء‭. ‬كنا‭ ‬نضحك‭ ‬من‭ ‬بلاهة‭ ‬أولئك‭ ‬الآخرين،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬كنا‭ ‬نبكي‭ ‬من‭ ‬بلادتهم‭. ‬حتى‭ ‬إخوتنا‭ ‬كانوا‭ ‬أشبه‭ ‬بالغرباء‭. ‬كانوا‭ ‬غرباء‭ ‬عن‭ ‬هلعنا‭ ‬وخوفنا‭ ‬وجوعنا‭ ‬وعطشنا‭ ‬وفزعنا‭ ‬وحرقتنا‭ ‬وعذاباتنا‭ ‬وآلامنا‭ ‬وخساراتنا‭ ‬وفقداننا‭ ‬وهزائمنا‭ ‬الروحية‭. ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬لم‭ ‬يكونوا‭ ‬مثلنا‭. ‬كانوا‭ ‬بشرا‭ ‬آخرين‭.‬

أعرف‭ ‬شخصيا‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬يعنيه‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬المرء‭ ‬في‭ ‬غزة‭. ‬أما‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬الصمود‭ ‬والاستبسال‭ ‬والمقاومة‭ ‬والبطولة‭ ‬الاستثنائية‭ ‬فكله‭ ‬يقع‭ ‬خارج‭ ‬الشرط‭ ‬البشري‭. ‬شرط‭ ‬الحياة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬يرغب‭ ‬الإنسان‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يأخذ‭ ‬منها‭ ‬كفايته‭. ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬نظرة‭ ‬نلقيها‭ ‬على‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تحمل‭ ‬إلا‭ ‬شيئا‭ ‬من‭ ‬معنى‭ ‬تبسيطي‭.‬

لا‭ ‬يكفي‭ ‬الاستماع‭ ‬إلى‭ ‬صرخة‭ ‬يطلقها‭ ‬طفل‭ ‬أُخرج‭ ‬من‭ ‬تحت‭ ‬الأنقاض‭ ‬وهو‭ ‬لا‭ ‬يعرف‭ ‬من‭ ‬الذي‭ ‬أدخل‭ ‬الوحوش‭ ‬إلى‭ ‬حكايته‭. ‬لا‭ ‬تكفي‭ ‬الهتافات‭ ‬بلغات‭ ‬لا‭ ‬يفهمها‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬يعبر‭ ‬أصحابها‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬عن‭ ‬تضامنهم‭ ‬معهم‭. ‬ليس‭ ‬صحيحا‭ ‬أن‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬سيشعرون‭ ‬بالراحة‭ ‬حين‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬العالم‭ ‬غاضب‭ ‬ومستاء‭ ‬من‭ ‬أجلهم‭. ‬كل‭ ‬هذا‭ ‬إن‭ ‬وصلهم،‭ ‬وأشك‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬لن‭ ‬يمنع‭ ‬الموت‭ ‬من‭ ‬التقدم‭ ‬إليهم‭.‬

لا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك‭ ‬أنني‭ ‬أستخف‭ ‬بما‭ ‬يقوم‭ ‬به‭ ‬شباب‭ ‬العالم‭ ‬وهو‭ ‬يسعى‭ ‬إلى‭ ‬إدانة‭ ‬حكوماته‭ ‬التي‭ ‬وقفت‭ ‬مع‭ ‬الهمجية‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬فكل‭ ‬مبادرة‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬النوع‭ ‬هي‭ ‬نوع‭ ‬من‭ ‬الواجب‭ ‬الإنساني‭ ‬الذي‭ ‬يعبّر‭ ‬عن‭ ‬دفاع‭ ‬الإنسان‭ ‬عن‭ ‬نفسه‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأساس‭. ‬ولكنني‭ ‬أقف‭ ‬ضد‭ ‬الترويج‭ ‬الكاذب‭ ‬لفكرة‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬العالم‭ ‬قد‭ ‬انقلب‭ ‬رأسا‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬بسبب‭ ‬المجازر‭ ‬الإسرائيلية،‭ ‬وأن‭ ‬الدول‭ ‬التي‭ ‬ساندت‭ ‬إسرائيل‭ ‬في‭ ‬عدوانها‭ ‬وهي‭ ‬كثيرة‭ ‬في‭ ‬طريقها‭ ‬إلى‭ ‬مراجعة‭ ‬مواقفها،‭ ‬وأن‭ ‬النصر‭ ‬قادم‭ ‬لا‭ ‬محالة‭ ‬بسبب‭ ‬صمود‭ ‬أهل‭ ‬غزة‭ ‬وبطولتهم‭ ‬الأسطورية‭. ‬

هناك‭ ‬مدينة‭ ‬تقع‭ ‬تحت‭ ‬قصف‭ ‬أعمى‭ ‬لا‭ ‬يفرّق‭ ‬بين‭ ‬مدني‭ ‬ومسلح‭. ‬إنهم‭ ‬ضحايا‭ ‬همجية‭ ‬عنصرية‭ ‬لن‭ ‬تنفع‭ ‬المعنويات‭ ‬العالية‭ ‬في‭ ‬التصدي‭ ‬لآلة‭ ‬حربها‭. ‬أعرف‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬الكلام‭ ‬لا‭ ‬يعجب‭ ‬الكثيرين‭ ‬ممَن‭ ‬أياديهم‭ ‬في‭ ‬الماء‭ ‬لكنني‭ ‬أتكلم‭ ‬بلسان‭ ‬الضحايا‭ ‬الحاليين‭ ‬كوني‭ ‬ضحية‭ ‬سابقة‭.‬

صحيح‭ ‬أنني‭ ‬لا‭ ‬أشبه‭ ‬مَن‭ ‬خطفت‭ ‬الحرب‭ ‬حياته،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬الصحيح‭ ‬أيضا‭ ‬أنني‭ ‬شاركته‭ ‬هلعه‭ ‬حين‭ ‬كان‭ ‬القصف‭ ‬لا‭ ‬يصطادنا‭ ‬بالأسماء‭. ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬مَن‭ ‬يرغب‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬نكون‭ ‬كلنا‭ ‬أمواتا،‭ ‬ولكن‭ ‬القدر‭ ‬شاء‭ ‬أن‭ ‬أخرج‭ ‬حيا‭ ‬من‭ ‬حربين‭. ‬الصدفة‭ ‬وحدها‭ ‬جعلتني‭ ‬أغادر‭ ‬في‭ ‬إجازة‭ ‬من‭ ‬معركة‭ ‬عبادان‭ ‬عام‭ ‬1982‭ ‬فحدث‭ ‬انهيار‭ ‬الجيش‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬شرق‭ ‬البصرة‭ ‬واختفت‭ ‬كتيبتي‭. ‬ماذا‭ ‬يعني‭ ‬ذلك؟

مَن‭ ‬يصف‭ ‬الحرب‭ ‬من‭ ‬خارجها‭ ‬ليس‭ ‬كمَن‭ ‬يعيشها‭. ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يجعلنا‭ ‬نخطئ‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الضحايا‭ ‬ونحن‭ ‬نرغب‭ ‬في‭ ‬تقديم‭ ‬صورة‭ ‬عنهم‭ ‬للعالم‭ ‬كما‭ ‬لو‭ ‬أنهم‭ ‬أبطال‭ ‬في‭ ‬القصص‭ ‬المصورة‭. ‬هناك‭ ‬شيء‭ ‬مضلل‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نقوله‭. ‬ليست‭ ‬الحرب‭ ‬هتافات‭ ‬ومظاهرات‭ ‬واعتصامات‭ ‬ومعارض‭ ‬فنية‭ ‬وتبرعات‭ ‬وأدعية‭ ‬ونداءات‭. ‬الحرب‭ ‬هي‭ ‬قتل‭ ‬ودمار‭ ‬وتشريد‭ ‬وفزع‭ ‬وفقدان‭ ‬وهلع‭ ‬وكوابيس‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬لها‭.‬

 

{ كاتب‭ ‬عراقي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا