أثار المنهج الذي تعاملت به المقاومة الفلسطينية في غزة مع الأسرى، والمنطلق من المبادئ والقيم والاخلاقيات الإسلامية الإعجاب حتى من جانب أعداء المسلمين، وتجدر الإشارة هنا إلى الأسلوب الذي تمت به معاملة الأسرى الصهاينة والذي سجلته شهادات واعترافات الأسرى الإسرائيليين المفرج عنهم في صفقة التبادل بأنهم لاقوا معاملة راقية وإنسانية وحضارية رغم الظروف الصعبة في غزة على العكس من الأساليب الوحشية والهمجية التي تعامل به سلطات الاحتلال الأسرى الفلسطينيين.
ولا شك ان هذا يكشف بعضا من الأخلاقيات القويمة للمنهج الإسلامي وتعاليمه في كيفية التعامل في زمن الحرب بما يؤكد دائما عظمة هذا الدين ورقيه الحضاري.
ولقد أثنى الله تعالى على خُلُق رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» القلم: 4، وما ذاك إلا لأن حسن الخلق من أعظم الخصال الحميدة، وقد بين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم منزلة الخلق الحسن في الإسلام واعتبره بمنزلة أهم العبادات من صلاة وصيام… فقال: «إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم» رواه الترمذي.
وطبعاً أول ما ينبغي أن يكون الخلق الحسن مع المؤمنين فيما بينهم حيث مدح الله تعالى المؤمنين بقوله: «رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ٫ بينما ينبغي أن يكونوا أشداء مع عدوهم كما قال تعالى في نفس الآية ٫أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ».
ولكن هذه الشدة لا يصح أن تخرجنا عن العدل والإنصاف مع عدونا، كما لا يصح أن تخرجنا عن ثوابتنا، قال تعالى: «وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى». (المائدة: 6)
ومعنى الآية: لا تحملنكم عداوتكم لقوم على ظلمهم وعدم العدل معهم، فالعدل حتى مع الأعداء مطلوب، وهو من علامات التقوى.
وينبغي علينا - معشر المسلمين - أن نحافظ على ثوابتنا وأخلاقنا التي ربانا عليها الإسلام، فلا يصح أن نلجأ إلى الأساليب غير الأخلاقية حتى مع عدونا، ولو تجاوز هو حدّه، وتجاوز كل الأعراف، فلا نتخلى عن ثوابتنا أمام تصرفاته.
فقد نعى الله تعالى على المفسدين في الأرض وذمّهم بقوله: «وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ» (البقرة: 205) ، ومع ذلك فإن هذا لا يمنع من أن يحوز المسلمون على الأسلحة ليستعملوها في الأمور المفيدة، وكذلك حتى يرهبوا بها عدوهم، فلا يهددهم بأسلحته.
وقد حدد الرسول صلى الله عليه وسلم ضوابط الدستور الأخلاقي ودليل ذلك: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: اخرجوا بسم الله تعالى، تقاتلون في سبيل الله من كفر، لا تغدروا، ولا تغلو، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا الأولاد، ولا أصحاب الصوامع» رواه أحمد.
ولنبدأ بها واحدة واحدة:
لا تغدروا:
الغدر يعني: خيانة العهد، وعدم الوفاء به، فالإسلام حرّم الغدر بكل أنواعه واعتبره خصلة من خصال النفاق، قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كان فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» متفق عليه.
ولا تغلو:
الغلول: هو الأخذ من الغنيمة قبل أن يقوم الإمام بتوزيعها على الغانمين واتخاذ ما يرى فيه المصلحة العامة للمسلمين، ويطلق على الغلول أيضاً (النهبة) وقد ورد ذكرها في الحديث بـ (الغلول) و(النهبة).
عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب بعير من المقاسم، ثم تناول شيئاً فأخذ منه قردة (أي وبرة) فجعل بين إصبعيه، ثم قال: «أيها الناس، إن هذا من غنائمكم، أدو الخيط والمخيط، فما فوق ذلك، فما فوق ذلك، فإن الغلول عار على أهله يوم القيامة وشنار ونار» رواه ابن ماجة وهو صحيح، والشنار: هو العيب والعار.
ولا تقتلوا الأولاد ولا أصحاب الصوامع:
إن من أخلاقيات القتال في الإسلام تحريم قتل من لا يقاتل من الأطفال، والنساء، والعجزة، وكبار السن الهرمين، والرهبان الذين يتعبدون في صوامعهم بعيدين عن كل أنواع القتال، ومن في حكمهم من أصحاب العاهات كالأعمى والمجنون وغيرهم، وهؤلاء لا يجوز قصدهم بالقتل مباشرة، أما من قاتل منهم فإنه يجوز قتله لأن النبي صلى الله عليه وسلم قتل يوم قريظة امرأة ألقت رحى على خلاد بن سويد، كما يقتل منهم من كان يستعين العدو برأيه وفكره ولو كان عاجزاً جسدياً، لأن الرأي في الحرب لا يقل عن المعونة بالسلاح، وقد قتل دريد بن الصمة وهو شيخ كبير يوم حنين، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله وذلك لأن قومه كانوا يستعينون برأيه كما في صحيح البخاري ومسلم.
ولا تمثلوا (المُثلة):
الانتقام من العدو بعد قتله، بتشويه جثته، وذلك بقطع أجزاء من جسده مثل: الأنف، والأذن، والذكر، أو باستخراج عضو من أعضائه الداخلية، مثل: الكبد والقلب، أو حرق الجثة، وما شابه ذلك، والتمثيل تعبير عن حقد دفين لدى من يقوم به، وكأنه يريد أن يشفي غيظه بهذا الفعل.
نعم إن عدونا اليوم لم يترك آلة من آلات التدمير والتخريب إلا واستعملها، ولا طريقة من طرق التشويه والتمثيل بالشهداء إلا ارتكبها، وصدق فيهم قول الله تعالى: «كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» (التوبة: 8).
ومع كل هذه الأعمال الإجرامية فلا ينبغي أن يكون لدينا ردات أفعال، فنتصرف كما يتصرف أولئك الهمجيون، وإلا أصبحنا مثلهم، نحن نعلم كما قالت السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها لابنها الزبير عندما قال لها: أخشى يا أماه أن يمثل بي الأعداء فقالت له: «وهل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها»، وإن فعلوا ما فعلوا، فنحن لدينا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم التمثيل بقوله: «لا تمثلوا» وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «أعف الناس قتلة أهل الإيمان» رواه أحمد وهو حسن، ومعنى ذلك أن أهل الإيمان يعفون الانتقام من الموتى والتمثيل بهم.
ضوابط وقواعد هامة في الدستور الأخلاقي
- إخلاص النية لله تعالى والتجرد له بعيداً عن السعي للحصول على أي مكسب دنيوي، أو جاه، أو منصب، فالقتال في سبيل الله، ومن أجل الله ولإعلاء كلمة الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفق عليه، وما أجمل أن يعيش المجاهد مع قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» (الأنعام: 162).
-الحفاظ على أخلاقية المقاومة ونقاء صفحتها بحيث تكون وفق المعايير الإسلامية والإنسانية، وتجنب ردود الأفعال مع العدو حتى في قتالنا فيه، وأسرنا لجنوده، وحيازتنا لمعداته، وسيطرتنا على أماكن تمركزه، فنحن - معشر المسلمين - لنا مرجعيتنا، وثوابتنا، وقيمنا، أما عدونا فلا ثوابت عنده ولا قيم.
- الحفاظ على ضبط النفس أثناء المعركة والبعد عن التصرفات العسكرية الانفعالية العاطفية التي يطيش معها القرار، ويبتعد عن أهدافه وغاياته.
-الحرص على أن يكون استخدام السلاح في أضيق الحدود وعدم الإسراف في استخدام الذخيرة إلا بقدر ما تحتاجه الخطط والعمليات العسكرية.
-التعامل مع الآليات العسكرية التي يستعملها العدو وفق ما تقتضيه خطة المعركة.
- عدم استخدام الذخيرة الحية في التعبير عن الفرح، فقيمة الطلقة الواحدة يمكن أن نطعم بها جائعاً.
- حسن تعامل الإخوة المجاهدين فيما بينهم وإشاعة روح المحبة والتعاون والإيثار واستشعار قوله تعالى: (رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) والحذر من الخلاف، لأن الخلاف هو نذير الفشل والخذلان وفي حال حصول أي نوع من أنواع الخلاف ينبغي المسارعة إلى نزع الفتيل وتقريب وجهات النظر، وتأليف القلوب عملاً بقوله تعالى: «فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ».
* داعية وباحث إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك