العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

حرب الإبادة في غزة والاجابة عن أسئلة صعبة

بقلم: جميل مطر {

الجمعة ٢٩ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

أظن‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬تمر‭ ‬علينا‭ ‬مرحلة‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ‬والسياسات‭ ‬والأهداف‭ ‬كالمرحلة‭ ‬التي‭ ‬يمر‭ ‬فيها‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬وربما‭ ‬العالم‭ ‬بأسره‭ ‬منذ‭ ‬7‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي،‭ ‬يوم‭ ‬قررت‭ ‬إسرائيل‭ ‬مد‭ ‬حربها‭ ‬ضد‭ ‬فلسطين‭ ‬من‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬إلى‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭.‬

عشنا‭ ‬قبل‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬يوما‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬على‭ ‬أخبار‭ ‬غزوات‭ ‬صغيرة‭ ‬ولكن‭ ‬شريرة‭ ‬وعنيفة‭ ‬ضد‭ ‬سكان‭ ‬مخيمات‭ ‬في‭ ‬جنين‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مدن‭ ‬الضفة‭. ‬قبل‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬تسربت‭ ‬إلينا‭ ‬شكوك،‭ ‬وبخاصة‭ ‬عندما‭ ‬اختار‭ ‬الإسرائيليون‭ ‬حكاما‭ ‬خارجين‭ ‬لتوهم‭ ‬من‭ ‬أزقة‭ ‬الدعوة‭ ‬الإرهابية‭ ‬إلى‭ ‬شوارع‭ ‬الممارسة‭. ‬الأشخاص‭ ‬ربما‭ ‬كانوا‭ ‬جددا‭ ‬ولكن‭ ‬جذورهم‭ ‬امتدت‭ ‬في‭ ‬التاريخ‭ ‬المعاصر‭ ‬إلى‭ ‬سنوات‭ ‬هيمن‭ ‬فيها‭ ‬على‭ ‬ساحة‭ ‬المستوطنات‭ ‬جمعيات‭ ‬إرهابية‭ ‬هدفها‭ ‬دفع‭ ‬أهالي‭ ‬قرى‭ ‬فلسطينية‭ ‬إلى‭ ‬الرحيل‭ ‬والهجرة‭ ‬وفي‭ ‬النهاية‭ ‬إخلاء‭ ‬فلسطين‭ ‬لليهود‭.‬

قبل‭ ‬حلول‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم،‭ ‬يوم‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر،‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬تأكد‭ ‬لقادة‭ ‬جيوش‭ ‬إسرائيل‭ ‬أن‭ ‬التدرج‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬ضد‭ ‬فلسطين‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬مناسبا‭. ‬شاركتهم‭ ‬هذا‭ ‬الاعتقاد‭ ‬قيادات‭ ‬سياسية‭ ‬وعسكرية‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬الأمريكية‭ ‬وبعض‭ ‬دول‭ ‬الحلف‭ ‬الغربي،‭ ‬أي‭ ‬حلف‭ ‬الأطلسي‭. ‬كثيرون‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬رحبوا‭ ‬بالحرب‭ ‬الجديدة‭ ‬ضد‭ ‬فلسطين‭. ‬أغلبية‭ ‬هؤلاء‭ ‬اعتقدوا‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الحرب‭ ‬لن‭ ‬تكلف‭ ‬ما‭ ‬تكلفته‭ ‬الحرب‭ ‬في‭ ‬أوكرانيا‭. ‬لن‭ ‬تكون‭ ‬حربا‭ ‬بشعة‭ ‬إنسانيا‭ ‬واجتماعيا‭ ‬وأخلاقيا،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬حال‭ ‬وحسب‭ ‬بعض‭ ‬التفسيرات‭ ‬وأكثر‭ ‬المبررات‭ ‬حرب‭ ‬ضرورة‭. ‬هي‭ ‬حرب‭ ‬آن‭ ‬أوانها‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬يطلقون‭ ‬عليه‭ ‬الإرهاب‭ ‬الإسلامي‭ ‬والمشرقي‭ ‬عموما‭. ‬يكفي‭ ‬أن‭ ‬تدرك‭ ‬شعوب‭ ‬الغرب‭ ‬أن‭ ‬اليهود‭ ‬سوف‭ ‬يتولون‭ ‬نيابة‭ ‬عن‭ ‬الغرب‭ ‬مهمة‭ ‬تصفية‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬وإعادة‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬كاملا‭ ‬إلى‭ ‬هيمنة‭ ‬الغرب‭ ‬كاملة،‭ ‬فاليهود‭ ‬قبل‭ ‬أي‭ ‬اعتبار‭ ‬آخر‭ ‬غربيون‭ ‬ثقافيا‭ ‬وسياسيا‭. ‬هم‭ ‬جزء‭ ‬لا‭ ‬ينفصل‭ ‬عن‭ ‬حضارة‭ ‬أوروبا‭ ‬وطرف‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬القيم‭ ‬والأخلاق‭ ‬والمصالح‭ ‬الغربية‭.‬

استيقظ‭ ‬قادة‭ ‬الغرب‭ ‬يوم‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬واستيقظت‭ ‬شعوب‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬والعالم‭ ‬الإسلامي‭ ‬والأقليات‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي،‭ ‬أي‭ ‬في‭ ‬الثامن‭ ‬من‭ ‬أكتوبر،‭ ‬على‭ ‬أسئلة‭ ‬بدت‭ ‬في‭ ‬لحظتها‭ ‬صعبة‭ ‬ومعقدة‭ ‬وكان‭ ‬الظن‭ ‬أن‭ ‬إجاباتها‭ ‬ستكون‭ ‬من‭ ‬النوع‭ ‬العصى‭ ‬على‭ ‬الفهم‭. ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الأسئلة‭ ‬مثلا‭:‬

أولا‭: ‬هل‭ ‬عادت‭ ‬نظرية‭ ‬صدام‭ ‬الحضارات‭ ‬تفرض‭ ‬نفسها‭ ‬سبيلا‭ ‬ضروريا‭ ‬نحو‭ ‬فهم‭ ‬أفضل‭ ‬لتطور‭ ‬العلاقات‭ ‬بين‭ ‬الأمم‭ ‬على‭ ‬مر‭ ‬التاريخ‭ ‬ومنهجا‭ ‬ممتازا‭ ‬نحو‭ ‬التنبؤ‭ ‬العلمي‭ ‬بمستقبل‭ ‬هذه‭ ‬العلاقات؟‭ ‬نعم‭. ‬عادت‭ ‬تلح،‭ ‬وأحيانا‭ ‬تهيمن،‭ ‬على‭ ‬النقاش‭ ‬الدائر‭ ‬حول‭ ‬الأسباب‭ ‬المباشرة‭ ‬وراء‭ ‬حال‭ ‬القلق‭ ‬ووراء‭ ‬ظواهر‭ ‬مثيرة‭ ‬للاهتمام،‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الظواهر‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬وليس‭ ‬الحصر‭ (‬أ‭) ‬الشارع‭ ‬الغاضب‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬قارات‭ ‬العالم‭ ‬ضد‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭. ‬رأيناه‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬متمردا‭ ‬على‭ ‬إصرار‭ ‬المصالح‭ ‬الأمريكية‭ ‬والأوروبية‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬هيمنتها‭ ‬على‭ ‬اقتصاد‭ ‬القارة‭ ‬وحياتها‭ ‬السياسية‭. (‬ب‭) ‬هذا‭ ‬الشارع‭ ‬نفسه‭ ‬ما‭ ‬أن‭ ‬أنشبت‭ ‬إسرائيل‭ ‬أنيابها‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬إلا‭ ‬وكان‭ ‬في‭ ‬طليعة‭ ‬الشعوب‭ ‬الملونة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تتردد‭ ‬في‭ ‬إعلان‭ ‬غضبها‭ ‬على‭ ‬الغرب‭ ‬الذي‭ ‬وقف‭ ‬متضامنا‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭. (‬ج‭) ‬استمر‭ ‬الغضب‭ ‬ليمتد‭ ‬في‭ ‬مواقف‭ ‬رسمية‭ ‬أخذت‭ ‬شكل‭ ‬التصويت‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬مشروع‭ ‬قرار‭ ‬في‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬يمنح‭ ‬إسرائيل‭ ‬شرعية‭ ‬سياسات‭ ‬الإبادة‭ ‬والانتقام‭ ‬الجماعي‭. (‬د‭) ‬لأول‭ ‬مرة‭ ‬يخرج‭ ‬العالم‭ ‬الملون‭ ‬في‭ ‬أغلبية‭ ‬ساحقة‭ ‬ليعلن‭ ‬ويمارس‭ ‬باستمتاع‭ ‬غير‭ ‬مألوف‭ ‬فرض‭ ‬العزلة‭ ‬السياسية‭ ‬على‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬باعتبارها‭ ‬الممثل‭ ‬الأكبر‭ ‬لهيمنة‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬وحامل‭ ‬رسالته‭.‬

ثانيا‭: ‬إلى‭ ‬أي‭ ‬حد‭ ‬يمارس‭ ‬الغرب‭ ‬الصدق‭ ‬في‭ ‬إيمانه‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬واحترام‭ ‬حقوق‭ ‬الإنسان‭ ‬وتقرير‭ ‬المصير‭ ‬وأولوية‭ ‬الحريات‭ ‬الفردية‭ ‬والعدالة؟‭ ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬أثبت‭ ‬الغرب‭ ‬الأبيض‭ ‬بأغلبية‭ ‬ساحقة‭ ‬تمسكه‭ ‬بأساليب‭ ‬استخدام‭ ‬المعايير‭ ‬المزدوجة‭ ‬في‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬مصالح‭ ‬وحقوق‭ ‬الشعوب‭ ‬غير‭ ‬البيضاء‭. ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬يؤكد‭ ‬الغرب‭ ‬ولاءه‭ ‬شبه‭ ‬المطلق‭ ‬لهيمنة‭ ‬مبادئ‭ ‬الواقعية‭ ‬السياسية‭ ‬وأولويتها‭ ‬على‭ ‬المبادئ‭ ‬الأخلاقية‭. ‬مرة‭ ‬بعد‭ ‬أخرى‭ ‬يتأكد‭ ‬أن‭ ‬هنري‭ ‬كيسنجر‭ ‬لم‭ ‬يبتكر‭ ‬جديدا‭ ‬خلال‭ ‬مدة‭ ‬توليه‭ ‬شؤون‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬الأمريكية‭. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬جديدا‭ ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬في‭ ‬كمبوديا‭ ‬على‭ ‬طريق‭ ‬إخراج‭ ‬أمريكا‭ ‬من‭ ‬ورطة‭ ‬فيتنام‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬جديدا‭ ‬دفعه‭ ‬المخابرات‭ ‬الأمريكية‭ ‬لإسقاط‭ ‬حكومة‭ ‬يسارية‭ ‬منتخبة‭ ‬في‭ ‬تشيلي‭ ‬انتخابا‭ ‬حرا‭ ‬واغتيال‭ ‬رئيسها‭ ‬وإقامة‭ ‬حكومة‭ ‬عسكرية‭ ‬مارست‭ ‬الإرهاب‭ ‬وفتحت‭ ‬المعتقلات‭ ‬وخربت‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭. ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬جديدا‭ ‬حمايته‭ ‬لإسرائيل‭ ‬وإقامة‭ ‬جسر‭ ‬جوى‭ ‬بشكل‭ ‬عاجل‭ ‬لإنقاذها‭ ‬من‭ ‬تقدم‭ ‬الجيش‭ ‬المصري‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬تحرير‭ ‬سيناء‭ ‬ولتغيير‭ ‬توازن‭ ‬القوة‭ ‬في‭ ‬الحرب‭ ‬لصالحها‭. ‬وبالتالي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مفاجئا‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نسمع‭ ‬عن‭ ‬أوامر‭ ‬من‭ ‬واشنطن‭ ‬تقضي‭ ‬بتحريك‭ ‬حاملتي‭ ‬طائرات‭ ‬وغواصة‭ ‬نووية‭ ‬وآلاف‭ ‬الجنود‭ ‬لحماية‭ ‬عدوان‭ ‬جيش‭ ‬إسرائيل‭ ‬على‭ ‬شعب‭ ‬غزة‭ ‬وحماية‭ ‬إرهاب‭ ‬المستوطنين‭ ‬ضد‭ ‬سكان‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية‭ ‬غير‭ ‬عابئة‭ ‬بمبدأ‭ ‬حق‭ ‬الشعوب‭ ‬استخدام‭ ‬العنف‭ ‬لتحرير‭ ‬أراضيها‭ ‬المحتلة‭. ‬هي‭ ‬هيمنة‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬في‭ ‬أبشع‭ ‬صورها‭.‬

ثالثا‭: ‬استمرار‭ ‬تردد‭ ‬السؤال‭ ‬عن‭ ‬انحدار‭ ‬أمريكا‭. ‬أمريكا‭ ‬تنحدر‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الانحدار‭ ‬تلفيق‭ ‬من‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬لخدمة‭ ‬أهدافهما‭ ‬وبخاصة‭ ‬هدف‭ ‬ضرب‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية؟‭ ‬المثير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬أن‭ ‬واشنطن‭ ‬نفسها‭ ‬تبنته‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬رفضته‭. ‬ولعل‭ ‬شعار‭ ‬العمل‭ ‬لاستعادة‭ ‬أمريكا‭ ‬عظيمة‭ ‬الذي‭ ‬رفعه‭ ‬الرئيس‭ ‬السابق‭ ‬دونالد‭ ‬ترامب‭ ‬ثم‭ ‬رفعه‭ ‬من‭ ‬بعده‭ ‬بصياغة‭ ‬مختلفة‭ ‬الرئيس‭ ‬الحالي‭ ‬جوزيف‭ ‬بايدن‭ ‬لأبلغ‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬انحدار‭ ‬أمريكا‭ ‬كقوة‭ ‬أعظم‭ ‬سواء‭ ‬كان‭ ‬الانحدار‭ ‬نسبيا‭ ‬أو‭ ‬مطلقا‭. ‬وهناك‭ ‬أدلة‭ ‬أكثر‭ ‬وربما‭ ‬أقوى‭ ‬بلاغة‭. ‬سمعت‭ ‬صديقا‭ ‬أوروبيا‭ ‬نافذا‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬صنع‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬يلمح‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬استمرار‭ ‬الانحدار‭ ‬الأمريكي‭ ‬سبب‭ ‬وراء‭ ‬التهور‭ ‬الملحوظ‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬العدواني‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬في‭ ‬الفترة‭ ‬الأخيرة‭. ‬إسرائيل‭ ‬تخشى‭ ‬على‭ ‬مستقبلها‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬أمريكا‭ ‬دولة‭ ‬عظمى‭ ‬منحدرة‭.‬

من‭ ‬هذه‭ ‬الأدلة‭ ‬البليغة‭ ‬على‭ ‬انحدار‭ ‬أمريكا‭ ‬حال‭ ‬الانقسام‭ ‬الشديد‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬أمريكا‭ ‬حول‭ ‬قضايا‭ ‬في‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية،‭ ‬وهي‭ ‬السياسة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬غالبا‭ ‬وبتوحد‭ ‬الرأي‭ ‬حولها‭ ‬دليلا‭ ‬دامغا‭ ‬على‭ ‬قوة‭ ‬الدولة‭ ‬الأعظم‭. ‬رأينا‭ ‬في‭ ‬الأسابيع‭ ‬الأخيرة‭ ‬مظاهر‭ ‬تمرد‭ ‬بين‭ ‬الشباب‭ ‬الأمريكي‭ ‬على‭ ‬سياسة‭ ‬أمريكا‭ ‬الراهنة‭ ‬تجاه‭ ‬مسألة‭ ‬غزة‭. ‬الأخطر‭ ‬هو‭ ‬ما‭ ‬نلاحظه‭ ‬من‭ ‬انقسام‭ ‬حول‭ ‬الاستمرار‭ ‬في‭ ‬توفير‭ ‬دعم‭ ‬مادى‭ ‬كافٍ‭ ‬لأوكرانيا‭ ‬وإسرائيل‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬واحد،‭ ‬أيهما‭ ‬أهم‭ ‬لمصالح‭ ‬أمريكا‭ ‬العليا‭ ‬أوروبا‭ ‬أم‭ ‬إسرائيل؟‭ ‬من‭ ‬الأدلة‭ ‬أيضا‭ ‬الهزال‭ ‬المتزايد‭ ‬في‭ ‬حجج‭ ‬صناع‭ ‬السياسة‭ ‬الخارجية‭ ‬وتضارب‭ ‬مواقفهم‭ ‬وتقلبها‭. ‬ومن‭ ‬الأدلة‭ ‬المثيرة‭ ‬للاهتمام‭ ‬الخروج‭ ‬للعلن‭ ‬في‭ ‬الآونة‭ ‬الأخيرة‭ ‬بخلافات‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬قادة‭ ‬أمريكا‭ ‬وإسرائيل‭ ‬وتعمد‭ ‬كل‭ ‬طرف‭ ‬أن‭ ‬يثبت‭ ‬أنه‭ ‬المهيمن‭ ‬وليس‭ ‬الطرف‭ ‬الآخر‭. ‬بمعنى‭ ‬آخر‭ ‬تعرضت‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬في‭ ‬ولاية‭ ‬بايدن‭ ‬لانكشاف‭ ‬حقيقة‭ ‬الصدع‭ ‬المختفي‭ ‬في‭ ‬منظومة‭ ‬العلاقات‭ ‬الأمريكية‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬والدور‭ ‬غير‭ ‬الطبيعي‭ ‬وغير‭ ‬الصحي‭ ‬الذي‭ ‬تلعبه‭ ‬الصهيونية‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬السياسية‭ ‬الأمريكية‭.‬

رابعا‭: ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬استمرار‭ ‬انحدار‭ ‬أمريكا‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬وانكشاف‭ ‬سلوكيات‭ ‬تمرد‭ ‬وخلافات‭ ‬جديدة‭ ‬بين‭ ‬أعضاء‭ ‬الحلف‭ ‬الأطلسي‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إصرار‭ ‬أمريكا‭ ‬على‭ ‬صنع‭ ‬أو‭ ‬إنعاش‭ ‬تحالفات‭ ‬مصغرة‭ ‬أغلبها‭ ‬في‭ ‬اتجاه‭ ‬آسيا‭ ‬والمحيط‭ ‬الهادي،‭ ‬ومضاعفة‭ ‬جهود‭ ‬إخراج‭ ‬الهند‭ ‬من‭ ‬عالم‭ ‬الجنوب‭ ‬المنتمية‭ ‬له‭ ‬طبقا‭ ‬لمختلف‭ ‬المعايير‭ ‬وضمها‭ ‬إلى‭ ‬تحالفات‭ ‬يقودها‭ ‬الرجل‭ ‬الأبيض‭ ‬اللون‭ ‬والغربي‭ ‬المركز،‭ ‬على‭ ‬ضوء‭ ‬استمرار‭ ‬هذه‭ ‬العناصر‭ ‬مجتمعة‭ ‬يتردد‭ ‬السؤال‭ ‬التالي‭: ‬هل‭ ‬بدت‭ ‬على‭ ‬سلوك‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬الصين‭ ‬وروسيا‭ ‬بوادر‭ ‬ثقة‭ ‬زائدة‭ ‬في‭ ‬نفسيهما‭ ‬واطمئنان‭ ‬أوفر‭ ‬على‭ ‬مستقبل‭ ‬مكانتيهما؟‭ ‬نعم‭ ‬ولكن‭ ‬بتحفظ‭ ‬ملموس‭. ‬فمن‭ ‬ناحية‭ ‬أقبلت‭ ‬دول‭ ‬في‭ ‬عالم‭ ‬الجنوب‭ ‬على‭ ‬إقامة‭ ‬علاقات‭ ‬أقوى‭ ‬ومصالح‭ ‬مشتركة‭ ‬مع‭ ‬الدولتين‭ ‬العظمتين‭ ‬المنافستين‭ ‬لأمريكا،‭ ‬وفي‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬المحافظة،‭ ‬كلما‭ ‬أمكن‭ ‬ذلك،‭ ‬على‭ ‬علاقات‭ ‬طيبة‭ ‬بدول‭ ‬الغرب‭ ‬وبأمريكا‭ ‬خاصة‭. ‬خلصت‭ ‬الظاهرة‭ ‬إلى‭ ‬اقتناع‭ ‬متزايد‭ ‬بين‭ ‬بعض‭ ‬مفكري‭ ‬وعلماء‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية‭ ‬في‭ ‬الغرب‭ ‬بأن‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬عادت،‭ ‬كما‭ ‬فعلت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬عهد‭ ‬الحرب‭ ‬الباردة،‭ ‬قوة‭ ‬سياسية‭ ‬تسعى‭ ‬لتثرى‭ ‬السياسة‭ ‬الدولية‭ ‬وتؤثر‭ ‬فيها‭. ‬صعود‭ ‬في‭ ‬ثقة‭ ‬روسيا‭ ‬والصين‭ ‬بنفسيهما‭ ‬استنادا‭ ‬إلى‭ ‬ازدهار‭ ‬نشاط‭ ‬دول‭ ‬الجنوب‭ ‬ربما‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬دفع‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مفكر‭ ‬ومركز‭ ‬بحث‭ ‬في‭ ‬أمريكا‭ ‬إلى‭ ‬تفنيد‭ ‬صلاحية‭ ‬ومضمون‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬عالم‭ ‬الجنوب‮»‬‭. ‬كما‭ ‬حث‭ ‬هؤلاء‭ ‬السياسيون‭ ‬الغربيون‭ ‬على‭ ‬وقف‭ ‬تقدمه‭ ‬وتسربه‭ ‬إلى‭ ‬تصريحاتهم‭ ‬الرسمية‭ ‬وأنشطة‭ ‬البحث‭ ‬العلمي‭.‬

من‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬خافية‭ ‬حال‭ ‬العجز‭ ‬بل‭ ‬والشلل‭ ‬التي‭ ‬أصابت‭ ‬عمل‭ ‬مختلف‭ ‬أجهزة‭ ‬ومؤسسات‭ ‬العمل‭ ‬الدولي‭ ‬المشترك‭ ‬كدليل‭ ‬إضافي‭ ‬وملموس‭ ‬في‭ ‬أسوأ‭ ‬الأحوال‭ ‬على‭ ‬تدهور‭ ‬مكانة‭ ‬نظام‭ ‬الهيمنة‭ ‬الأمريكية‭ ‬أو‭ ‬كدليل‭ ‬في‭ ‬الحال‭ ‬الأقل‭ ‬سوءا‭ ‬على‭ ‬تخلف‭ ‬مستوى‭ ‬أداء‭ ‬الدبلوماسية‭ ‬الأمريكية‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬وتعدد‭ ‬وتفاقم‭ ‬أسباب‭ ‬الخلافات‭ ‬الداخلية‭ ‬بين‭ ‬أفرع‭ ‬أجهزة‭ ‬صنع‭ ‬القرار‭ ‬الأمريكي‭.‬

خامسا‭: ‬إلى‭ ‬أين؟‭ ‬أقصد‭ ‬السؤال‭ ‬كثير‭ ‬التردد‭ ‬في‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬وزارات‭ ‬الخارجية‭ ‬والمجتمعات‭ ‬المدنية‭ ‬ومراكز‭ ‬البحوث،‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬نحن‭ ‬ذاهبون‭ ‬قسرا‭ ‬أو‭ ‬برضانا‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬استمرت‭ ‬طويلا‭ ‬تهيمن‭ ‬على‭ ‬العالم‭ ‬ظواهر‭ ‬التحول‭ ‬في‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬وفي‭ ‬مختلف‭ ‬الأنظمة‭ ‬الإقليمية‭ ‬والفرعية‭ ‬ومنها‭ ‬طبعا‭ ‬النظام‭ ‬الإقليمي‭ ‬العربي؟‭ ‬حرب‭ ‬إسرائيل‭ ‬الوحشية‭ ‬بهدف‭ ‬إبادة‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬تطور‭ ‬منفرد‭ ‬أم‭ ‬مؤشر‭ ‬على‭ ‬عودة‭ ‬إلى‭ ‬شريعة‭ ‬الغاب‭ ‬في‭ ‬العلاقات‭ ‬الدولية؟‭.‬

‭ ‬الإجابات‭ ‬كثرت‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يرى‭ ‬احتمالا‭ ‬قويا‭ ‬في‭ ‬قرب‭ ‬عودة‭ ‬الصين‭ ‬وأمريكا‭ ‬إلى‭ ‬حديث‭ ‬مختلف‭ ‬عن‭ ‬عودة‭ ‬تايوان‭ ‬إلى‭ ‬الوطن،‭ ‬ومن‭ ‬يرى‭ ‬زيادة‭ ‬هائلة‭ ‬في‭ ‬قوافل‭ ‬الهجرة‭ ‬من‭ ‬إفريقيا‭ ‬والشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬نحو‭ ‬قوارب‭ ‬في‭ ‬البحر‭ ‬المتوسط،‭ ‬ومن‭ ‬يرى‭ ‬توسعا‭ ‬في‭ ‬النفوذ‭ ‬الروسي‭ ‬في‭ ‬إفريقيا‭ ‬ووسط‭ ‬آسيا‭ ‬وشرق‭ ‬أوروبا‭ ‬وصعود‭ ‬مألوف‭ ‬للحركات‭ ‬اليمينية‭ ‬المتطرفة‭ ‬في‭ ‬معظم‭ ‬هذه‭ ‬الأقاليم‭. ‬هناك‭ ‬من‭ ‬يتوقع‭ ‬مرحلة‭ ‬من‭ ‬الفوضى‭ ‬في‭ ‬حال‭ ‬العالم،‭ ‬وفي‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬بخاصة‭.‬

هناك‭ ‬إجابات‭ ‬أخرى،‭ ‬أغلبها‭ ‬صعب‭ ‬ومعقد‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬هي‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعا‭ ‬وبخاصة‭ ‬في‭ ‬دوائر‭ ‬النخب‭ ‬الحاكمة‭ ‬وكتائب‭ ‬التنظير‭ ‬لسياسات‭ ‬الوضع‭ ‬القائم‭. ‬ضروري‭ ‬جدا‭ ‬لفهم‭ ‬هذه‭ ‬الإجابات‭ ‬الصعبة‭ ‬والمعقدة‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬قراءة‭ ‬خلفيات‭ ‬وتفاصيل‭ ‬الحرب‭ ‬الدائرة‭ ‬حاليا‭ ‬على‭ ‬فلسطين‭ ‬والمواقف‭ ‬الحقيقية‭ ‬لكل‭ ‬أطرافها‭ ‬المتحاربة‭ ‬والمتفاوضة‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

{‭ ‬كاتب‭ ‬ومحلل‭ ‬سياسي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا