وُلِد الشيخ أديب السرّاج سنة إحدى وتسعين وثمانمائة وألف ميلاديّة، في مدينة القدس القديمة، بمنزلٍ في حيّ باب الواد شمال غرب المسجد الأقصى المبارك، وكان أبوه يشغل وظيفة إمام جامع عمر بن الخطّاب الكائن بجوار حارة النصارى بمدينة القدس.
وكان الشيخ إبراهيم –رحمه الله- شديد العناية بتربية ابنه أديب، كثير الحرص على تنشئته تنشئة دينيّة، ومن ثمّ وجدناه يلحقه وهو لا يزال في صباه بالمدرسة الإسلاميّة بحيّ باب الساهرة الواقع في شمال شرق الصخرة المشرّفة، وفيها درس العلوم الدينيّة كالفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والتوحيد والعلوم اللغويّة كالنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع، بالإضافة إلى اللغة التركيّة؛ ولكنّه لم يتمّ دراسته فيها إذ رأى والده أنْ يلحقه بالمعهد الأحمديّ في عكّا، وهناك أتمّ حفظ القرآن، وأتقن تجويده، واستظهر بعض كتب الفقه على مذهب أبي حنيفة –رضي الله عنه- وحفظ طائفةً من الأحاديث الصحيحة ويُقال: إنّه كان يحفظ ألفيّة ابن مالك في النحو، ومتن السلم في المنطق، ومتن الهداية في الفقه على المذهب المذكور.
وبعد أنْ قضى في المعهد الأحمدي بجامع الجزّار في مدينة عكّا نحو ثمانية أعوام عاد إلى القدس حيث ولّي منصب شيخ سدنة الصخرة المشرّفة، وبقِيَ يباشر مهام هذه الوظيفة حتّى سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وألف (1921م)، حيث أصدر المجلس الإسلاميّ الأعلى قراراً بتعيينه رئيس هيئة الوعظ بالمسجد الأقصى.
وقد استهلّ –رحمه الله- جهاده في سبيل تحرير بلاده من الانتداب البريطانيّ والمحافظة عليها من العدوان الصهيونيّ، بتلك الخطبة المثيرة التي ألقاها في جموع المصلّين إثر صلاة الجمعة من شهر (مايو) سنة إحدى وعشرين وتسعمائة وألف (1921م) في مسجد الصخرة المشرّفة، وذلك إثر قيام بعض الصهاينة بقيادة فلاديمير جابوتنسكي بالهجوم على بعض حوانيت العرب في حيّ الباشورة الواقع بجوار حارة اليهود.
وقد أثار الشيخ أديب حماس المصلّين فخرجوا من المسجد غاضبين ثائرين على أولئك الصهاينة المعتدين، فاتّجهت جماعات منهم، وكان في مقدّمتهم الشيخ أديب، نحو حيّ الباشورة، لينطلقوا منه إلى حارة الصهاينة، فاعترضهم الإنجليز الذين جاؤوا للمحافظة على الصهاينة من غضبة جماهير العرب الثائرين، ولم يكونوا وقتذاك يحملون سوى العصيّ، ومع ذلك فإنّهم لم يرهبوا رصاص الإنجليز ولا خافوا بنادقهم، بل اندفعوا نحو حارة اليهود في غضبة عارمة الأمر الذي جعل الإنجليز يمطرونهم بوابلٍ من الرصاص فاستشهد بسبب رصاص الإنجليز الآثمين نحو ثمانية أشخاص وجُرِح نحو خمسة وعشرين بجراحات مختلفة.
ثمّ قُبِض على الشيخ أديب وبعض رفقائه وأودِعوا في القشلاق بقلعة القدس. كما اعتقل الإنجليز عدداً من الصهاينة وفي مقدّمتهم جابوتنسكي. ثمّ أصدر المندوب السامي أمره بالإفراج عن جابوتنسكي وجميع الذين اعتقلوا معه من الصهيونيّين من غير محاكمة على الرغم من أنّهم كانوا هم البادئين بالعدوان، فاتّخذ من ذلك موسى كاظم حجّةً للمطالبة بالإفراج عن الشيخ أديب وأصحابه.
وقد استجاب المندوب الساميّ لهذا الطلب فأمر بالإفراج عنهم متظاهراً بالمساواة في الإجراءات بين العرب واليهود.
وفي سنة اثنتين وعشرين وتسعمائة وألف (1922م) عاد الشيخ أديب إلى إثارة الجماهير ضدّ الصهاينة والبريطانيّين، حيث خرج إثر صلاة الجمعة من أيّام شهر (أبريل) على رأس جمهرة المصلّين واتّجه بهم إلى سراي الحكومة للاحتجاج على جلب الحكومة البريطانيّة بضعة آلاف من الصهاينة المهاجرين من أوروبا إلى فلسطين في ذلك الحين، وقدّم للمندوب السامي مذكّرةً وقّعها معه وجهاء مدينة القدس للمطالبة بوقف الهجرة الصهيونيّة والعمل على استقلال البلاد.
وفي سنة 1929م كان الشيخ أديب أحد زعماء الثورة التي اندلعت شرارتها من المسجد الأقصى في تلك السنة، ضدّ الصهاينة والبريطانيّين والتي عمّتْ جميع قرى ومدن فلسطين.
وقد ظلّ –رحمه الله- يشارك مشاركة فعليّة في جميع الثورات والمظاهرات الوطنيّة حتّى انضوى جنديّاً تحت لواء الشيخ سعيد العاص في ثورة 1936م بصحبة السيّد عبد القادر الحسينيّ.
وقد خاض –رحمه الله- مع الشيخ سعيد العاص معارك كثيرة ضدّ المستعمرات الصهيونيّة والمعسكرات البريطانيّة، أذكر منها على سبيل المثال معركة وادي السرار ودير الشيخ وشعفاط، ومعركة حسّان المشهورة التي وقعت في أخريات شهر (سبتمبر) سنة 1936م، وهي التي أصيب فيها الشيخ أديب السرّاج بنحو خمس رصاصات رماه بها أحد الجنود البريطانيّين فاستقرّ بعضها في جوفه وبعضها الآخر في رأسه فوقع على ثرى الوطن المقدّس مخضّباً بدمه الشذى ثمّ لحقت روحه بأسلافه المجاهدين من رجال الدين المخلصين، ونسأل الله أن يجعله في جنّات النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
* مؤرخ فلسطيني مؤلف كتاب «مجاهدون من فلسطين»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك