العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

أوهام أسقطتها حرب إبادة غزة (1) :
مهنية الإعلام الغربي وأخلاقياته

بقلم: محمد فاضل العبيدلي {

الخميس ١١ يناير ٢٠٢٤ - 02:00

كان‭ ‬انحياز‭ ‬صناعة‭ ‬الصحافة‭ ‬والإعلام‭ ‬الغربي‭ ‬للسردية‭ ‬الصهيونية‭ ‬وتأييدها‭ ‬علناً‭ ‬أمراً‭ ‬معروفاً‭ ‬للجمهور‭ ‬العربي‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬طويلة،‭ ‬لكن‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬كشفته‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬غزة‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬سقطت‭ ‬سقوطاً‭ ‬مدوياً‭ ‬أمام‭ ‬جمهورها‭ ‬نفسه،‭ ‬وأصبحت‭ ‬في‭ ‬مرمى‭ ‬نيران‭ ‬انتقادات‭ ‬قوية‭ ‬من‭ ‬الجمهور‭ ‬الأمريكي‭ ‬والغربي‭ ‬عموماً‭ ‬الذي‭ ‬صدم‭ ‬بعماها‭ ‬المهني‭ ‬والأخلاقي‭ ‬الذي‭ ‬كشفه‭ ‬أداؤها‭ ‬المنحاز‭ ‬تماماً‭ ‬لإسرائيل‭ ‬منذ‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي‭.‬

بفضل‭ ‬تقنيات‭ ‬التواصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬في‭ ‬الفضاء‭ ‬الإلكتروني،‭ ‬تمكن‭ ‬الملايين‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬الغربية‭ ‬والعالم‭ ‬من‭ ‬متابعة‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬حقيقية‭ ‬تشنها‭ ‬إسرائيل‭ ‬ضد‭ ‬غزة‭. ‬لقد‭ ‬ظهرت‭ ‬الحقيقة‭ ‬جلية‭ ‬واكتشف‭ ‬الجمهور‭ ‬الغربي‭ ‬في‭ ‬أوج‭ ‬صدمته،‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتم‭ ‬إخفاؤه‭ ‬عمداً‭ ‬عنه‭ ‬طيلة‭ ‬عقود‭ ‬فغالب‭ ‬وسائل‭ ‬إعلامه‭ ‬الكبرى‭ ‬تغض‭ ‬الطرف‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬الفظاعات‭ ‬والمجازر‭ ‬بحق‭ ‬المدنيين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وتقدم‭ ‬روايات‭ ‬تبرر‭ ‬لإسرائيل‭ ‬ارتكاب‭ ‬هذه‭ ‬المجازر‭. ‬فعلى‭ ‬سبيل‭ ‬المثال،‭ ‬وبعد‭ ‬مجزرة‭ ‬المستشفى‭ ‬المعمداني‭ ‬كررت‭ ‬شبكة‭ ‬‮«‬سي‭. ‬ان‭. ‬ان‮»‬‭ ‬الأمريكية‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬الجيش‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬أنذر‭ ‬طاقم‭ ‬المستشفى‭ ‬بإخلائه‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭. ‬لكن‭ ‬محاولة‭ ‬التبرير‭ ‬هذه‭ ‬ليست‭ ‬سوى‭ ‬زلة‭ ‬تؤكد‭ ‬‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يدري‭ ‬قائلها‭ ‬أن‭ ‬الإسرائيليين‭ ‬هم‭ ‬من‭ ‬قصفوا‭ ‬المستشفى‭.‬

لقد‭ ‬أظهرت‭ ‬مؤسسات‭ ‬الإعلام‭ ‬الغربي‭ ‬وجهاً‭ ‬وجوهراً‭ ‬فاشياً‭ ‬خفياً‭ ‬عندما‭ ‬لجأت‭ ‬إلى‭ ‬تراث‭ ‬المكارثية‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬الانتقادات‭ ‬المتزايدة‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬الأمريكيين‭ ‬والأوروبيين‭ ‬الذين‭ ‬اكتشفوا‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬أنهم‭ ‬كانوا‭ ‬ضحايا‭ ‬غسيل‭ ‬دماغ‭ ‬مارسته‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬فيما‭ ‬يخص‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬مستمرة‭ ‬منذ‭ ‬75‭ ‬عاماً‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬فراحوا‭ ‬يجاهرون‭ ‬على‭ ‬نطاق‭ ‬متزايد‭ ‬باتهامها‭ ‬بالانحياز‭ ‬الأعمى‭ ‬للرواية‭ ‬الصهيونية‭ ‬وحجب‭ ‬الحقائق‭ ‬وتزييفها‭ ‬بل‭ ‬والإسهام‭ ‬في‭ ‬بث‭ ‬الأكاذيب‭ ‬واختلاق‭ ‬الحوادث‭ ‬بشكل‭ ‬فاضح‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬تبريره‭ ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬ودفع‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬لهذا‭ ‬السقوط‭ ‬المهني‭ ‬المدوي‭ ‬والفاضح؟‭!‬

عدا‭ ‬إفلاس‭ ‬منطق‭ ‬الاحتلال،‭ ‬فإن‭ ‬التقدم‭ ‬العلمي‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬تقنيات‭ ‬الإعلام‭ ‬والاتصال‭ ‬وانتشار‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬وجيل‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬مجتمعات‭ ‬الغرب‭ ‬والعالم‭ ‬بأسره‭ (‬الجيل‭ ‬Z‭)‬،‭ ‬مكن‭ ‬الملايين‭ ‬عبر‭ ‬العالم‭ ‬من‭ ‬نبش‭ ‬الركام‭ ‬عن‭ ‬تاريخ‭ ‬الصراع‭ ‬العربي‭ ‬‭ ‬الصهيوني‭ ‬ليعيد‭ ‬صياغة‭ ‬روايته‭ ‬الخاصة‭ ‬بعيداً‭ ‬عن‭ ‬الرواية‭ ‬الصهيونية‭ ‬وأكاذيبها‭ ‬التي‭ ‬ظلت‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬ترددها‭ ‬طيلة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬75‭ ‬عاماً‭. ‬لقد‭ ‬أصبح‭ ‬الكثيرون‭ ‬يتحدون‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬متزايد‭ ‬رواية‭ ‬الصحف‭ ‬وشبكات‭ ‬التلفزة‭ ‬المنحازة‭ ‬لإسرائيل‭ ‬وتعتميها‭ ‬المتعمد‭ ‬على‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬يشاهدها‭ ‬ويتابعها‭ ‬العالم‭ ‬عبر‭ ‬إعلام‭ ‬بديل‭ ‬تجاوز‭ ‬انحياز‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬الصحفية‭ ‬والتلفزية‭ ‬ومنطقها‭ ‬المفلس‭ ‬في‭ ‬الدفاع‭ ‬عن‭ ‬احتلال‭ ‬بغيض‭ ‬يقف‭ ‬على‭ ‬الضد‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القيم‭ ‬الإنسانية‭.‬

يذكرنا‭ ‬هذا‭ ‬الإعلام‭ ‬البديل‭ ‬بالساحر‭ ‬الذي‭ ‬أطلق‭ ‬تعاويذه‭ ‬وفقد‭ ‬السيطرة‭ ‬عليها‭. ‬فكذبة‭ ‬‮«‬رؤوس‭ ‬الأطفال‭ ‬المقطوعة‮»‬‭. ‬كشفها‭ ‬تحقيق‭ ‬أجراه‭ ‬موقع‭ ‬‮«‬ذا‭ ‬غراي‭ ‬زون‭ - ‬The‭ ‬Gray‭ ‬Zone‮»‬‭ ‬الأمريكي‭ ‬المستقل،‭ ‬أما‭ ‬كذبة‭ ‬بنيامين‭ ‬نتنياهو‭ ‬حول‭ ‬الصور‭ ‬التي‭ ‬نشرها‭ ‬على‭ ‬حسابه‭ ‬في‭ ‬‮«‬منصة‭ ‬‮«‬X‭ ‬التي‭ ‬ادعى‭ ‬أنها‭ ‬‮«‬لأطفال‭ ‬قتلوا‭ ‬وأحرقوا‮»‬،‭ ‬فقد‭ ‬فضحها‭ ‬الصحفي‭ ‬الأمريكي‭ ‬المستقل‭ ‬جاكسون‭ ‬هنيكل‭ ‬باستخدام‭ ‬الذكاء‭ ‬الاصطناعي‭ ‬حيث‭ ‬كشف‭ ‬أنها‭ ‬صور‭ ‬تم‭ ‬تزييفها‭ ‬لكلب‭ ‬في‭ ‬عيادة‭ ‬بيطرية‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬دفع‭ ‬المتحدثين‭ ‬باسم‭ ‬الرئيس‭ ‬الأمريكي‭ ‬إلى‭ ‬التراجع‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬الأكاذيب‭.‬

لم‭ ‬يتوقف‭ ‬الأمر‭ ‬على‭ ‬تبني‭ ‬الأكاذيب‭ ‬وترويجها‭ ‬بما‭ ‬ينعش‭ ‬الذاكرة‭ ‬بمجتمع‭ ‬رواية‭ (‬1984‭)‬،‭ ‬بل‭ ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬الصحفية‭ ‬والإعلامية‭ ‬راحت‭ ‬تمارس‭ ‬المكارثية‭ ‬بشكل‭ ‬فج‭ ‬ضد‭ ‬أي‭ ‬صوت‭ ‬يخالف‭ ‬الأكاذيب‭ ‬التي‭ ‬تنتجها‭ ‬ماكينة‭ ‬دعاية‭ ‬نتنياهو‭ ‬والصهاينة‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬فيه‭ ‬التبرير‭ ‬ممكناً،‭ ‬فلم‭ ‬يبق‭ ‬أمام‭ ‬أصحاب‭ ‬الضمائر‭ ‬الحية‭ ‬من‭ ‬صحفييها‭ ‬والعاملين‭ ‬فيها‭ ‬سوى‭ ‬تقديم‭ ‬الاستقالات‭ ‬احتجاجًا‭ ‬على‭ ‬الانحياز‭ ‬السافر‭ ‬وغير‭ ‬المبرر‭ ‬مهنيًا‭ ‬وأخلاقيًا‭ ‬لمؤسسات‭ ‬ظل‭ ‬ينظر‭ ‬إليها‭ ‬طويلا‭ ‬على‭ ‬أنها‭ ‬مثال‭ ‬للمهنية‭ ‬العالية‭ ‬والموضوعية‭.‬

وقوف‭ ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬الغربية‭ ‬الأعمى‭ ‬مع‭ ‬إسرائيل‭ ‬والسردية‭ ‬الصهيونية‭ ‬وحجبها‭ ‬الحقائق‭ ‬وتزييفها‭ ‬واختلاق‭ ‬الأكاذيب،‭ ‬هو‭ ‬سقوط‭ ‬مخزٍ‭ ‬في‭ ‬أوحال‭ ‬المكارثية‭ ‬حولها‭ ‬لمجرد‭ ‬ماكينات‭ ‬دعائية‭ ‬لا‭ ‬قيم‭ ‬لها‭ ‬ولا‭ ‬مهنية‭ ‬ولا‭ ‬مبادئ‭.‬

أسوأ‭ ‬ما‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السقوط‭ ‬هو‭ ‬أنه‭ ‬يكشف‭ ‬عن‭ ‬ضحالة‭ ‬فكرية‭ ‬لا‭ ‬متناهية‭ ‬لدى‭ ‬هذه‭ ‬المؤسسات‭ ‬المنحازة‭ ‬التي‭ ‬أشتهر‭ ‬بعضها‭ ‬بالبحث‭ ‬الدقيق‭ ‬والتوثيق‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬نبش‭ ‬التاريخ‭ ‬مثل‭ ‬‮«‬بي‭ ‬بي‭ ‬سي‮»‬‭ ‬البريطانية،‭ ‬عندما‭ ‬تتحول‭ ‬إلى‭ ‬مجرد‭ ‬مكبرات‭ ‬صوت‭ ‬بترديد‭ ‬تهمة‭ ‬‮«‬العداء‭ ‬للسامية‮»‬‭ ‬على‭ ‬ألسن‭ ‬المذيعين‭ ‬ومقدمي‭ ‬البرامج‭ ‬الحوارية‭ ‬والصحفيين‭ ‬فيها‭ ‬وهم‭ ‬يرمونها‭ ‬بحق‭ ‬مناصري‭ ‬فلسطين‭ ‬أنه‭ ‬الاستعراض‭ ‬المبتذل‭ ‬لأكبر‭ ‬أنوع‭ ‬الجهل‭ ‬الذي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يقع‭ ‬فيه‭ ‬مثقف‭ ‬أوروبي‭ ‬وأمريكي،‭ ‬لا‭ ‬يرى‭ ‬أن‭ ‬قطاعاً‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬الغالبية‭ ‬من‭ ‬اليهود‭ ‬يقف‭ ‬ضد‭ ‬إسرائيل‭ ‬نفسها‭ ‬وضد‭ ‬الصهيونية،‭ ‬وأن‭ ‬العمى‭ ‬الأخلاقي‭ ‬لا‭ ‬يجعلهم‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬الفارق‭ ‬الجلي‭ ‬بين‭ ‬الصهيونية‭ ‬باعتبارها‭ ‬تيارًا‭ ‬سياسيًا‭ ‬استعماريًا‭ ‬وعنصريًا‭ ‬وبين‭ ‬اليهودية‭ ‬باعتبارها‭ ‬ديانة‭.‬

إن‭ ‬الأسوأ‭ ‬من‭ ‬الاحتلال‭ ‬والقتل‭ ‬والإبادة‭ ‬هو‭ ‬من‭ ‬يغطي‭ ‬على‭ ‬الاحتلال‭ ‬والقتل‭ ‬والإبادة‭ ‬بل‭ ‬ويحاول‭ ‬تبريرها‭ ‬مثلما‭ ‬أظهرته‭ ‬حرب‭ ‬إبادة‭ ‬غزة‭. ‬لقد‭ ‬سقطت‭ ‬غالب‭ ‬المؤسسات‭ ‬الإعلامية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬وأوروبا‭ ‬سقوطًا‭ ‬مدويًا‭ ‬مهنيًا‭ ‬وأخلاقيًا‭ ‬لن‭ ‬تستعيد‭ ‬معه‭ ‬أية‭ ‬مصداقية‭ ‬لسنوات‭ ‬طويلة‭ ‬قادمة‭.‬

 

{ ‭ ‬كاتب‭ ‬وصحفي‭ ‬بحريني،‭ ‬محرر‭ ‬مدونة‭: ‬themfadhel‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا