تتوالى الأيام والأحداث على أرض فلسطين، عامًا بعد عام. ويستدعي هذا التطور الدائم مزيدًا من النقاش بيننا، ومزيدًا من توضيح الحقائق. من خلال تأمل بعض النقاط التي يكثر الحديث عنها في مثل هذه الأوقات. وسأدوِّن هذا بأسهل ما يمكنني من عبارة، وأبسط ما أصل إليه من تصور كي أشارك أوسع مدى ممكن من القراء الأفاضل. ولا أخفي أحدًا سرًّا؛ فإن ما نتداوله اليوم سويًّا قد يكون تفريجًا عن نفس صاحب السطور وهو يشاهد مع عشرات الملايين ما يحدث في عملية «طوفان الأقصى»، وما تبعه من أحداث بدأت في السابع من أكتوبر 2023م.
فهذه بعض إجابات لبعض أسئلة شاعت أو ظواهر طفحت على سطح الأحداث، في مجال الفكر العربي. وأول ما يستحق التوضيح، هو شرعية النقاش واستمرار التداول والتدارُس في ظل الأحداث؛ فكلما جدَّ جديد واحتدمتْ الأحداث في فلسطين، وجدنا سائلًا يسأل: أما سئِمتُم من النقاش؟ أما آن لنا أن نعمل ونحرك الأحداث على الأرض؟.. وهذه نقطة تستحق التوضيح حتى يكون الرد عليها مبسوطًا في أذهان الجميع.
بدايةً أوضح للسائل هذه النقاط بالترتيب: لا تعارض بين العمل والنقاش، كي نتعجب من أن نناقش ولا نعمل. فهذا النوع من التساؤل عن جدوى النقاش الدائم والقعود عن العمل؛ يُطرح على مَن في مقدوره العمل الآنيّ الحاليّ الفوريّ، لكنه يعزف عنه إلى نقاش في غير محلٍ.
سؤال جدوى النقاش يُطرح ويُثمَّن، ويزداد رسوخًا متى تصوَّرنا مشهد الوعي العربي والإسلامي تجاه القضية الفلسطينية ثابتًا؛ أقصد بذلك أن وعينا (صورة المسألة الفلسطينية في الذهن العربي) مُوحَّد - إجمالً - مُتَّفَقٌ عليه، بلا خوفٍ من تبدُّل أو تزييف. وأسأل: هل هذه هي الحال الآن؟ الإجابة واضحة: لا. فالساحة العربية تشهد الكثير من محاولات التزييف وتبديل الموقف كليَّةً تجاه القضية، وبثِّ رُوح اللامُبالاة في نفوس العرب تجاه فلسطين، بل بدأ تجريف الوعي يدخل حيوزًا غايةً في البشاعة؛ من خلال بثِّ رُوح الكراهية لفلسطين، والمناضلين عليها داخلها وخارجها. وهذه المؤشرات - التي كانت موجودةً دومًا، لكنها زادتْ بعنفوان ضاغط على الواقع العربي - أضافتْ معركة وعي، جوارَ معركة الأرض وقد بُذلتْ في سبيل إقحام هذه الدعاوى جهود سامة، تستدعي نقاشًا موسَّعًا، وتداولًا حقيقيًّا، وإبرازًا لوسائل الإقناع الناجحة في معركة الوعي فيما بيننا.
وأخيرًا، أنوِّه إلى ضرورة التداول المستمر لكافة قضايانا الفكرية المصيرية بيننا؛ لأن أية أمة؛ ما هي إلا مجموع من «أجيال مُتداخلة»، كلُّ جيل يُعاشر ويحيا مع ما سبقه من أجيال؛ إلى أنْ يبقى هو نفسه الجيل الأكبر، ويعيش مع أجيال لاحقة به. وكلُّ جيل يحتاج إلى توضيح هذه القضايا له؛ ليتصورها صورةً صحيحةً سويَّةً، وعليه يتصرف التصرف الصحيح. فمتى كانت القضية مُتضِحةً لك؛ فهي أقل وضوحًا عند الجيل الأصغر. ولنفهمْ هذا ونستحضرْه دومًا. ولا يعتبرنَّ بعضُ المُتحمسين أن النقاش إماتة للقضية وللتصرف، بل هو إحياء لها في الحقيقة.
- ماذا يحدث؟ وهل صحَّ تصرف الهجوم؟
وفي تناول ما حدث، منذ السابع من أكتوبر؛ وقع الكثيرون في عيب فكريّ؛ هو «الجزئية في تناول المشهد»، فقد فصلوه عن السياق العام للأحداث، بلا مبرر واضح للفصل. وتداولوا الاشتباك المبدوء من جانب أهلنا، وكأنه ابتداء لحدث جديد! وأخذوا يتباحثون -تحت ضغط الجهود السامة التي أشرنا إليها - عن مدى شرعية ما حدث. والحق أن ما حدث في «طوفان الأقصى» هو ما حدث قبل «طوفان الأقصى»؛ وهو ما يحدث منذ قرابة قرن من الزمان؛ فنحن في «حالة حرب» - إذا لمْ تكن تعلم.
و«الحرب» ليست مُقاتَلَةً بين جانبين - أو أكثر - في وقت واحد، حتى يفنى أحدهما أو ينصاع لرغبة الغالب فحسب؛ بل الحرب -في حالات كثيرة - تكون حلقات وتسلسلات، بعضها بعد بعض؛ تشهد الكثير من حلقات الهزيمة، وحلقات النصر؛ وأيام العزة، وأيام العار؛ والأبطال المُقدَّمين والمُتخاذلين. فليست الحرب بهذا التصوُّر موقفًا واحدًا متى انتهى توقفتْ الحرب، ومَن قاتل بعدها فقد بدأ حدثًا بعد أنْ لم يكن. وفي هذه الحالات من الحروب بين الأقوام المُتنازعة، ومع اختلاف ميزان القوى بين جانب يملك كل القوى وجانب لا يملك إلا ما يتوكل على الله به؛ تُسمَّى الحال الحربية أو التحارُبيَّة «نضالًا»؛ يُنافح فيه الجانبُ الأضعفُ الجانبَ الأقوى.
ومتى تمادينا وفكَّرنا جزئيًّا مع مَن يفكرون في مدى «شرعية ما حدث» -وأنا هنا أنظر للقضية كلها - فلا أدري داعيًا يُخرجنا للقتال أقوى من يأتي من يسلبنا أرضنا، ومصادر ثروتنا عليها، ويضمُّ إليه أراضينا الزراعية، ثم يمُنُّ علينا أن نعمل فيها أُجراء؛ لتُنتج له قوتًا وثمراتٍ يتقوَّى بها على إكمال احتلالنا، أو يُصدِّرها ليكتسب ثروةً فوق ثروة رغم أنها أرضنا، وأقوامنا يقطنون عليها، ويمتلكونها حقًّا.
ثم متى ظهرنا -نحن أصحاب هذه الأرض - التي ادعيتم أنها بلا شعب، وطالبنا بحقنا في أرضنا؛ تحوَّل اليهود المحتلين إلى عصابات صهيونية، ترتكب مجزرةً بعد مجزرة لتقهرنا، وتُوسِّع من نطاق اغتصاب الأرض، ثم تُنشئ كيانًا سياسيًّا لها، وتُسمِّيه دولةً.
وتتوالى الأعوام، ويتقدَّم الاحتلال في غرضه، ويُضيِّق رقعة الوجود علينا - نحن أصحاب الأرض-؛ حتى ما بقي في فلسطين إلا بضع كيلومترات هنا أو هناك. والبقية محتلة، يعمل أهلها عند الاحتلال بأجر! ويتداولون هذا الأجر بالعُملة الصهيونية التي أصدرها الاحتلال، الذي ينظر لبقية الفلسطينيين على أنهم خدم له، أو مرحلة مع الزمن سيعبرها. هذا، ويُضيِّق الصهاينة على غزة جدًّا في الطعام والشراب والوظائف والمعايش.
وما يحدث اليومَ من مجريات فاحشة في العدوان والتقتيل؛ مجرد استكمال تنفيذ الخطة. والتي يتضح منها أن الهدف الرئيس هو محاولة دفع البقية إلى أرض عربية أخرى «سيناء»، بأي ثمن، أو على الأقل التمهيد لهذا في الحلقة القادمة من الصراع. وهذا واضح من سيادة التفكير الحربي على التفكير السياسي طوال الأيام السابقة؛ فإنهم مُصرُّون على تحقيق أقصى إفادة على الأرض، بدفع أكبر عدد للرحيل؛ بغض النظر عن صورة الدولة الصهيونية في العالم.
المنافقون ودرس الامتحان والثبات
كنتُ في صغري أحب وأستلطف الآيات التي تتناول الكافرين صراحةً، أو المؤمنين صراحةً؛ لكنني كنت غافلًا عن آيات كثيرة في القرآن الكريم تتناول فئة المنافقين، كنت أعجب لِمَ بسط القرآن القول في المنافقين وفي صفة النفاق خاصةً، في أمة الإسلام وأمم سابقة. لكنني حينما كبرت عرفت السبب واضحًا في دنياي. وفي هذه المحنة نشهد الحكمة من آيات النفاق العديدة في القرآن؛ فلا صوت يعلو فوق صوت النفاق الخبيث في هذا الاختبار.
كنت وأنا صغير أعجب؛ لِمَ يدعو القرآنُ لإخراج هذه الفئة من القتال في أوقات اشتداد المحنة وأُزُوف القتال «لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ».
يا الله! يا لها من كاشفة فاضحة تلك الاختبارات التي يُؤذن الله بابتلائنا بها - كما فهمنا سويًّا أعلاه -!.. وسبحان مُمحِّص القلوب بأيدي المواقف! فما بين «صاحب راي» أمانتُهُ مَعقودة بالتحرُّك؛ فإذا به يتثابط في القيام بدوره، ليظهر وكأنَّ الموقف هو الذي ألجمه (وَاللَّهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنافِقِينَ لكاذِبُونَ) وبين «وصاحب موقف» أمانته في توعية الناس؛ فإذا به قد أضلَّ الناس، وسعى فيهم سعي السوء، يشوه المناضلين المنافحين القائمين بحق الله، وهُم في أقسى الظروف وأشظف الأحوال. ولنذكر تحذير القرآن منهم «وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُواْ تَسمَع لِقَولِهِم كَأَنَّهُم خُشُب مُّسَنَّدَة يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ عَلَيهِم هُمُ العَدُوُّ فَاحذَرهُم قاتَلَهُمُ اللَّه أَنَّى يُؤفَكُونَ».
إن الهدى هدى الله، والحق أبلج واضح.. وادعُ بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُميتك الله على الإيمان؛ فقد كان يدعو «يا مُقلِّبَ القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك». وجاء في القرآن تنبيه على هذا «رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ».
من المفارقات العجيبة في هذا الدين، أنه ينتصر في كل حال، ويتأكد في كل موقف. كما قال الله: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» ومن أعجب دلائل صحة الإسلام؛ هو حديث تداعي الأمم الشهير. «يُوشِكُ الأممُ أن تداعَى عليكم كما تداعَى الأكَلةُ إلى قصعتِها. فقال قائلٌ: ومن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيلِ. ولينزِعنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ. فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ! وما الوهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ».
ولعلي هنا أستحضر مثالًا على ذلك؛ معركةً المقاطعة الاقتصادية. التي قامت بها الشعوب العربية؛ بعدما رأت مظاهر التقاعُس عن دعم أهل النضال؛ فما كان منهم إلا أنْ قدَّمُوا أقل ما بأيديهم، بالعزوف التام عن كل منتجات الأعداء (بالقطع وجود هذه المنتجات وسماحنا بأولويتها، وتقاعسنا عن الإنتاج ذنب يقع علينا). وقد أحدث هذا الخلاصُ الفرديُّ الذي رآه الأفراد واستحسنوه بالغَ الأثر.
وفي النهاية، أربط على قلبي وقلوب كل المؤمنين بالتذكير أن الله هو المُبدئ والمُعيد، وأنه وارث الأرض ومَن عليها، وأن التفاؤل واجب من استقراء النصوص الشرعية. ومنه حديث «عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ؛ إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له».
ووصلًا بالكلام أعلاه ومن نظرة معينة- أظهر منا وفينا التفافًا حول شئون هذه الأمة، واستعدادًا خالصًا عند الكثيرين للتضحية بالمال - كاملًا في مواقف-، أو الدم، أو بما يحتاج له أخوه، وأنه عدَّلَ من سلوكنا وقوَّم من أحوالنا - ولو جزئيًّا -، وأن العلي القدير أرانا الابتلاء في درجة قاسية ليُشهدنا أن مشكلاتنا الشخصية محض هراء، وأنه أرانا المنافقين منا لنميزهم عن الصالحين الصادقين، ولنستعيذ بالله أن نكون منهم، وأنه كان فرصةً للكشف عن ازدواجية الحاكمية الغربية في معاييرها، وفرصةً لانتشار الوعي بين شعوب العالم الغربي عن حقيقة الصهيونية، وأنه دفع ملايين الغربيين للتظاهر من أجل القضية الفلسطينية، وأنه كسر صورةً ظل الصهاينة المحتلين محتفظين بها، مُحافظين عليها أمام العالم.
فهذا كون الله أمامنا، يُصرِّفه الله أنَّى شاء، ويرينا من آياته العجب، ويعلمنا أننا قاصرون عن إدراك الحكمة في كل ما نرى من تصاريف الدنيا. فسبحان الحكيم المُتعالي المُدبِّر!
* باحث في الفلسفة الإسلامية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك