مع كل عدوان صهيوني غادر وحرب إجرامية يجد المرء نفسه مضطرًّا إلى الحديث عن بدهيات ينبغي استحضارها عند كل معركة، ومع استمرار الحرب الصهيونيّة قد يحدث الاعتياد؛ فحتى لا يقع الاعتياد على المشهد نذكِّر بالبدهيات الأولى، وصحيح أن البدهيات لا تحتاج إلى حديث عنها، لكننا نعيش عصر تأكيد المؤكّدات وتوضيح الواضحات.
البدهيّة الأولى: في طبيعة العدوان
العدوان على غزّة المكلومة؛ عدوان على كل مسلم وعلى عقيدته في الأرض، فمن يبذل جهده وكلماته ووقته لمواجهة العدوان الصهيونيّ فهو يدافع عن العقيدة، وعن الأخوّة الإيمانية، وعن الأمة الإسلامية جمعاء، ولا يدافع عن فلسطين وأهلها فحسب.
وينبغي أن نستحضر دومًا أن فلسطين ليست للفلسطينيين وحدهم، بل هي لكل مسلم، وقضيّتها قضية كل مسلم وكل حرّ في هذه الأرض، والأقصى المبارك هو ثالث مقدسات المسلمين ولا يجوز أن نتعامل معه على أنه محض مَعْلمٍ فلسطينيّ.
البدهيّة الثّانية: في اجتماع الألم والإيلام
في الحرب على غزة يجتمع الألم والإيلام، والقهر والعزة، والمطلوب في هذه الحالة عدم اختزال المشهد في جانب واحد من الجانبين؛ المعاناة الإنسانية أو النكاية بالعدوّ بل لا بد من تقديم صورة متوازنة عن المشهدين معًا؛ ووجود الإيلام مع الألم يقتضي عدم التهاون في المواجهة، بل لا بدّ أن يكون حافزًا لبذل مزيد من الطاقة فيها، قال تعالى في سورة النساء: «ولا تهِنوا في ابتغاء القوم إِن تكونوا تألمون فإنَّهم يألمون كما تألمون وترجون من اللَّه ما لا يرجون وكان اللَّه عليمًا حكيمًا» (سورة النساء: 104).
البدهية الثالثة: في ضرورة توسيع المفاهيم
في الحرب الصهيونيّة الإجرامية يغدو من الضروري استحضار مفهوم النصرة بمعناه الواسع، الذي يجعل كل مسلم منخرطًا فيه بما يستطيعه، وبأقصى ما يقدر عليه من إمكانات وقدرات مادية ومعنوية، واستحضار مفهوم الخذلان والنصر بوصفهما يشملان كل مسلم أمرٌ مهمّ لصناعة الطاقة الإيجابية الفاعلة في هكذا مواقف خطيرة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من امرئ يخذل امرئ مسلمًا في موطن يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته، إلا خذله الله تعالى في موطن يحبّ فيه نصرته، وما من أحدٍ ينصر مسلمًا في موطنٍ يُنتقص فيه من عرضه، ويُنتهك فيه من حرمته؛ إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصرته».
وكذلك من الضرورة بمكان في الحرب على غزّة؛ إحياء المفهوم الواسع لمعنى النفير، النفير بالكلمة والموقف والجهد والبذل المادي والمعنوي، قال تعالى في سورة التوبة: «انفروا خِفافًا وثِقالًا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل اللَّه ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون» (سورة التوبة: 41). فمن لم يستطع الجهاد بنفسه فلا يُعذر في ترك الجهاد بما يستطيعه من الجهاد بالمال أو الجهاد بالكلمة أو الجهاد بالموقف أو الجهاد بصرخةٍ في مظاهرة أو اعتصام، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «جاهِدوا المشركين بِأَموالكم وأنفسكم وأَلسنتكم»؛ رواه أَبو داود بإسناد صحيح.
وهنا لا بدّ من التأكيد أنه لا يجوز الاستهانة بالفعاليات الشعبية الاحتجاجية من مظاهرات ومسيرات واعتصامات بحجة أنه لا جدوى منها، بل فيها الجدوى الكبيرة من شد أزر المسلمين تحت العدوان، وتعرية الباطل الصهيوني وإساءة وجه اليهود الصهاينة، فالمعركة اليوم هي معركة إساءة الوجه كما بيّن ربّنا تبارك وتعالى في سورة الإسراء إذ يقول جلّ وعلا: «إِن أَحْسَنتُم أَحْسَنتُمْ لأنفسكم وإِن أسأْتُم فَلَهَا فإذا جاء وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُوا وجوهكم وَلِيَدخلوا المسجد كما دخلوه أوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتبِّروا ما عَلَوْا تتبيرًا» (سورة الإسراء: 7).
البدهية الرابعة: في أهمية اللجوء إلى الله تعالى
من الواجب عند احتدام المعركة، والتقاء الصفوف، وحصول عدوان ومواجهة له؛ الفزع إلى الله تعالى بالدعاء والضراعة في الأسحار، فالدعاء عنوان العبودية والخضوع لله الناصر، وعند اتخاذ الأسباب لا بد من إظهار الافتقار إلى مسبّب الأسباب، ومن الواجبات عند التقاء الصفوف أيضًا الإكثار من ذكر الله تعالى، القائل في سورة الأنفال: «يا أيُّها الَّذين آمنوا إذا لقيتم فئةً فاثبتوا واذكروا اللَّه كثيرًا لعلَّكم تفلحون» (سورة الأنفال: 45).
البدهيّة الخامسة: في بعث
الطمأنينة في نفوس المجاهدين
إن شعور المجاهدين أن من ورائهم أمّةً تعيش معهم المواجهة بكل مسؤولية، ويقينهم أن هذه الأمّة ستكفل أبناءهم حال استشهادهم، وسترعى أسرهم في غيابهم في الجبهات، وستبني منازلهم التي يهدمها الاحتلال؛ له أثر كبير في تعزيز ثباتهم وصمودهم، وفي إقدامهم هم وفي تحفيز غيرهم للإقدام في أيّة جولة قادمة، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «مَنْ جهَّز غازيًا في سبيل اللَّه فقد غزا، ومنْ خَلَفَ غازيًا في أهله بخير فقد غزا» متفق عليه.
وكذلك روى مسلم في صحيحه عنْ أنس أنَّ فَتىً مِن أسْلَمَ قال: «يا رسول اللَّه، إنِّي أُريد الغَزْو وليس معي ما أتجهَّز به، قال: ائتِ فلانًا، فإنَّه قد كان تجهَّز فَمَرِض، فأتاه فقال: إن رسول اللَّه يُقْرئك السلامَ ويقول: أعطِني الذي تجهَّزتَ به، قال: يا فلانة، أعْطيه، الذي كنتُ تجهَّزْتُ به، ولا تَحْبِسي عنه شيئًا، فوَاللَّه لا تحْبِسي منه شيئًا فيُبارَك لَكِ فيه».
هي خمس بدهيات موجزة تصلح أن تكون بين أعيننا لتجديد الطاقة والانطلاق في التعامل مع الحرب المستمرّة؛ فالقضيّة جامعة، والعمل -كل عملٍ- يجب أن يبقى عنوان المرحلة.
* داعية وباحث إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك