في المعادلات والمعاملات البشرية يمكن أن يقال بأن من بذل جهداً استحق الأجرة.. ومن قام بواجبه استحق حقه.. وإلا فمن الظلم لك ألا تأخذ حقك كاملاً إذا أديت واجبك كاملاً.. ومن الظلم لغيرك أن تأخذ حقك كاملاً وأنت لم تؤد واجبك كاملاً وعلينا تدارس أوضاع الأمة في ضوء ما كشفته معركة «طوفان الأقصى» في غزة وفلسطين من دروس وعبر لكل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
ذلك ان المعادلة بين البشر فيما بينهم لا يمكن أن نجريها بين الخالق العظيم ومخلوقه الضعيف، وذلك لأسباب عديدة منها:
1- أن لله تعالى حكمة قد نفهمها وقد نجهلها في تقدير تنزيل نصره وشفائه ورزقه أو منع ذلك عمن يشاء.
2- أن المخلوق مهما صنع فإنه لا يمكنه أن يؤدي حق الله تعالى عليه.
3- أنه لا يوجد حق لمخلوق على خالقه، ولا يجب على الخالق شيء فهو المنعم المتفضل.
4- أن عموم النصوص التي بينت حقوق العباد على الله تعالى لا تعني حرفية وجود حق لمخلوق على خالقه بقدر ما هو فضل الله وكرمه وسعة عطائه لعباده، ومن تلك النصوص؛ ما روى البخاري عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلوات الله وسلامه عليه قال: «يا معاذ! هل تدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يُشركوا به شيئا، ثم سار ساعة، ثمّ قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبّيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حقّ العباد على الله إذا هم فعلوا ذلك؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك أن يدخلهم الجنة» وفي رواية أخرى: «فإن حق الله على العباد إذا فعلوا ذلك ألا يعذبهم».
يستطول البعض نصر الله تعالى وفرَجه وتيسيره وشفاءه ورزقه.. وكأنه يقول في نفسه؛ أين قدرتك يا رب.. وهذا من ضيق النفس الذي لا يليق في حق الخالق الرازق القوي النصير.. لأن لله تعالى حكمة ترتب إجراء وإظهار قدرته في موضعها.. وصدق الله عز وجل: «وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» (الطلاق: 3).
لقد وعد الله سبحانه وتوعد.. وعد أولياءه وأحبابه والطيبين من عباده بالنصر والتمكين.. وتوعد المجرمين المعتدين المفسدين بالدمار والهلاك.. ولكنه ربط تحقق وعده ووعيده بأمور منها:
1- القيام بأمره ولزوم طاعته، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (محمد: 7).
2- الإخلاص واليقين التام عند دعائه، قال تعالى: «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر: 60).
3- استيفاء الكافرين والمعتدين والمفسدين في الأرض الفرص التي منحها الله تعالى لهم لكي يتوبوا ويستدركوا على أنفسهم قبل فوات الأوان.. قال تعالى: «وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» (الحج: 48).
لقد بين لنا رب العزة حال أقوام منحهم النجاة وصرف عنهم أسباب الهلاك لا لأنهم يستحقون ذلك.. بل لأنهم وعدوه بأن يصلحوا من شأنهم ويتوبوا إليه.. لكنهم بمجرد أن أنجاهم الله تعالى عادوا كما كانوا، بل صاروا إلى أسوأ حال، قال تعالى: «وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا» (الإسراء: 67).. فما أسوأ حال المعرضين.
نحن لا نستحق النصر ورفع البلاء استحقاقاً.. بل نطمع في كرم الله تعالى ورزقه ونصره وفرَجه وتيسيره ورحمته لأنه بيده الخير وهو على كل شيء قدير.
نحن لا نستحق النصر ورفع البلاء لأسباب كثيرة نذكر بعضها من باب التأكيد على كونها منكرات أدت إلى نزول البلاء.. ومن تلك المنكرات الشائعة:
1- الفساد السياسي الذي جعل من المستبدين يتمكنون من مقدرات الأمة.
2- الفساد الاقتصادي الذي جعل الربا والرشوة والغش والاحتيال عنواناً لمعاش الناس.
3- الفساد الاجتماعي الذي هتك ستر الأسرة وامتهن المرأة تحت عناوين تحرير المرأة وانفتاح الأسرة.
3- الفساد الفكري والثقافي الذي مسخ منابرنا ومناهجنا، وجعل المهرجانات فناً وثقافة وإبداعاً.
5- الفساد النفسي الذي جعلنا متبلدين إلى درجة نسمح فيها بذلك كله دون أن نتحرق أو أن نتحرك.. بل ونسمح للمحتل أن يدنس مقدساتنا ويستبيح بلادنا وأعراضنا.
نحن لا نستحق النصر ورفع البلاء لأننا لا نحسن التعامل مع النعمة الموجودة؛ فلا اعتراف بوجودها ولا شكر لموجدها.. بل جحود ونكران يصل إلى الإلحاد لدى بعض أبناء جلدتنا.. فهل يستحق هؤلاء النصر على الأعداء ورفع البلاء؟!
إن عقولنا تحار في حكمة العزيز الجبار.. فهو لا يقايض نعمته النازلة على عباده بشكرهم وعبادتهم له.. ولو كانت الدنيا عنده تساوي جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء.. ولكنه سبحانه يحب الشاكرين، ويبارك للطائعين.
إن أمة لا تشكر.. ولا تطيع بل تعصي.. ولا تتوب ولا تتراجع ولا تستدرك.. أمة حكمت على نفسها بالدمار مع وقف التنفيذ المرتبط بأمره سبحانه.. «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ» (إبراهيم: 28).
إن لاستنزال النصر ورفع البلاء وتسلط الأعداء أسباب وسنن كريمة لعل منها ما يأتي:
1- التوحيد الخالص، والاستجابة التامة، واليقين المطلق بوجود الله وقدرته وحكمته.
2- الوحدة واجتماع الكلمة ونبذ أسباب الفرقة.
3- البحث عن أسباب القوة وتكثيفها والأخذ بالمستطاع المتاح منها.
4- طلب العلم والسؤال والمعرفة.
5- التراحم فيما بيننا، فالراحمون لبعضهم يرحمهم الرحمن ويجبر كسرهم.
لقد نزل البلاء وتسلط الأعداء حتى في الأزمنة الأولى.. وما من نبي إلا وابتلاه رب العزة بالملأ من قومه (حيتان السياسة والاقتصاد) ولكن الصبر والمصابرة، والثبات، واليقين، وعدم التوقف عن فتح آفاق جديدة للدعوة.. والزهد في الدنيا ومتاعها؛ كل ذلك جعلهم يقتربون هم ومَن معهم مِن الطيبين مِن بوابات الفرج والفرح أكثر فأكثر، وصدق الله تعالى: «وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ» (القصص: 6).
وختاماً: لا تتوقف المعاصي ولا المنكرات طالما أن للشيطان فاعلية وسلطان.. ويبقى واجب الدعوة والنصيحة والصدع بالحق تصريحاً أو تلميحاً والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الواجب الأهم على سبيل التدافع بين الخير والشر والحق والباطل.. وإلا فإن الشعوب الساكتة.. والمنابر الخرساء.. والعلماء الصامتون؛ مسؤولون مسؤولية كبرى عن رفع البلاء وإجابة الدعاء.. وفي هذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «والَّذي نَفسي بيدِهِ لتأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عنِ المنكرِ أو ليوشِكَنَّ اللَّهُ أن يبعثَ عليكُم عقابًا منهُ ثمَّ تَدعونَهُ فلا يَستجيبُ لَكُم» رواه الترمذي وهو حسن.
* داعية وباحث إسلامي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك