إن كلمة: «مأساة» لا تستطيع أن تعبر عما يحدث الآن على أرض غزة في فلسطين، لكنني ربما لا أجد كلمة هي أشد أسى منها! فهل أقول: «كارثة»؟ أأقول: «طامة»؟ أأقول: «فاجعة»؟... فإن الأمر من جميع هذه الكلمات أفظع وأشنع وأخطر، ووالله لو اجتمعت كل هذه الألفاظ ومعها أضعاف أضعافها من الجمل والتعبيرات لما استطاعت أن تصف ما يحدث هناك في غزة؛ وكيف تصف الكلمات حقدًا أسودًا وكراهية حمقاء وبُغضًا مقيتًا يتقاطر من الطائرات ويُقذَف من الدبابات ويُرمى من المدافع؟!
وكيف تصف الكلمات رعبًا يستولي على قلب طفل صغير كلما صك سمعه صوت قذيفة أو سمع دبيب مجنزرة أو خطف بصره انفجار قريب منه؟! أي كلمات تستطيع أن تصف فجيعة أم نامت وقد التقم رضيعها صدرها فقُذِف بيتها بصاروخ فاسودت الدنيا أمام عينيها وما استيقظت إلا وأنفاس وليدها خامدة، وهي تحت الأنقاض قد دُفنت حية، لا تسمع ولا ترى؟!
إن كل كلمات الدنيا وجميع لغاتها ومجموع ألسنتها يعجز أن ينقل إليك شعور أب ترك أولاده يتضورون من الجوع وخرج من بيته يجلب الطعام فلا يجد، يبحث عن الماء فلا يجد، يسأل عن الدواء فلا يجد، فلما حنَّ له قلب أحدهم فاقتسم معه القليل الذي يملكه من الطعام، وعاد الأب ليطعم أولاده، إذا به لا يجد من بيته إلا هدمًا وأحجارًا؛ لا يجد إلا حطامًا وأنقاضًا! فيُلقي ما بيده وينبش الحطام بأظافره علَّه يجد أحد بناته أو أبنائه حيًا؟!
إن الذهول والأسى والحزن هناك هو الشيء المشترك بين من بقي حيًا من أهل غزة! إن من مات هناك فقد نجا، ومن نجا فقد مات! إن من خرج اليوم من ركام دار قد هُدمت يدرك تمامًا أنه قد يقتل في قذف آخر غدًا أو بعد غد! لسان حالهم:
إني أهان وأُستباح *** لا أمتلك إلا الصياح
أنا ميت عند المساء *** وميت عند الصباح
إنك لن تستطيع أن تتخيل حجم ما حل بأهل غزة إلا أن تكون معهم وسط التجويع والترويع والغشم، السماء هناك تُمطر موتًا، والمدافع تقذف حرقًا، والبحار تُخرج نارًا من حاملات الطائرات، والدبابات تأتي على ما بقي على الأرض من آثار الحياة! فإن لم يأتك الموت من الأرض أتاك من البحر، وإن أخطأك البحر جاءك من السماء، وإن أخطأك رشق السماء مُتَّ من الحصا والجوع والعطش ونقص الدواء!!
والعجيب العجيب أن ترى اخوتنا في غزة صامدين صابرين ثابتين محتسبين غير متزلزلين ولا ناكصين، راضين غير جازعين، مُسَلِّمين غير معترضين! إن المرء - والله -ليشعر بالحياء أمام رجل يُخرجوه من تحت الركام وقد مات جميع أهله وهو يهتف: «لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بمقدار، وإني صابر محتسب»!
الذهول يجتاحك أمام أم مات ولدها أمام عينها وهي تهتف: «فداء المسجد الأقصى ترخص دماء أولادنا»! أمام طفل وسط الدمار شريدًا وحيدًا لكنه شامخ كالطود يتمنى لو يكبر فيجاهد الصهاينة المعتدين!
لكنهم قوم تربوا على قول الله -عز وجل-: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» (البقرة: 214)، أنهم قوم عاشوا بقلوبهم ووجدانهم مع الصحابة يوم الأحزاب: «إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا» (الأحزاب: 10-11)، ثم رأوا لمن كان النصر والغلبة والظفر.
لكن هناك سؤال يقول: لماذا كل هذه الوحشية والهمجية من الصهاينة الغزاة المحتلين تجاه المسلمين في غزة؟! وإنني لا أجد محلًا لهذا السؤال بعد أن كشف لنا الله - عز وجل - طبعهم قائلًا: «لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ» (التوبة: 10)، وقائلًا: «إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ» (الممتحنة: 2).
ثم يعود السائل يسأل: وما هدفهم من وحشيتهم وهمجيتهم وتقتيلهم هذا؟! والإجابة تقول: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا» (البقرة: 217)، هدفهم: أن يستأصلوا الإسلام والمسلمين من على وجه الأرض، ويخلوا منهم فلسطين كلها، لتكون نواة ومنطلقًا لتكوين دولتهم العظمى؛ من النيل إلى الفرات!
هدفهم: أن يروا الأرض يبابًا خرابًا قد اشتعلت حروبًا: «كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (المائدة: 64)...
لكن هل نتركهم وما يريدون؟ ما هي واجبات الأمة الإسلامية تجاه ما يحدث في غزة العزة؟
وأقول: واجبات كل مسلم حسب طاقته ووسعه ومكانه وقدرته، لكننا جميعًا نستطيع الدعاء لهم أن يثبت الله أقدامهم وأن يربط على قلوبهم وأن يسدد رميهم وأن ينصرهم على عدونا وعدوهم... «وأعجز الناس من عجز عن الدعاء» (رواه ابن حبان، وصححه الألباني).
وثاني الواجبات: ألا نُقَدِّم لعدونا ثمن الرصاصات التي يقتل بها إخواننا في غزة؛ بل لنقاطع جميع بضائعهم وجميع بضائع من عاونهم.
وثالثها: أن نُعَرِّف الناس بالقضية؛ فنعينهم أن يُفرِّقوا بين الظالم والمظلوم، وبين الجلاد والضحية، وبين الغاصب الذي اغتصب الأرض وانتهك العرض وبين المقاوم الذي يدافع عن أرضه وعرضه...
ورابعها: أن نتبرع بما استطعنا من مال فنضعه في أيدٍ أمينة توصله إليهم، وكذا أن يتطوع الأطباء ليداووا الجرحى، والمهندسين ليعمروا الخراب الذي حل بها، ثم يتطوع كلٌ بما يتقنه...
ثم لا تنقطع واجباتنا نحو إخواننا؛ فكل منا يعلم ما يستطيع تقديمهم إليهم، وما هذه إلا مجرد أمثلة، وستجد - إن شاء الله - نمتلك الإرادة للقيام بواجبات الأمة نحو إخواننا الصامدين الصابرين المثابرين في غزة، ولاشك اننا بحاجة الى مزيد من التفصيل والتأصيل للقضية والتأريخ لها وخصوصا لأجيالنا الصاعدة من الشباب التي لم تعرف تاريخ الصراع العربي الصهيوني جيدا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك