أوضح جون كالابريس، من معهد الشرق الأوسط، أن الثروة السيادية أثبتت أنها أداة واعدة للحفاظ على مستقبل الأجيال، والحد من آثار الصدمات الاقتصادية، واستغلال أوجه استثماراتها للإنفاق على رأس المال البشري، وفي هذا الصدد، أشار إلى أن دول الخليج لديها حوالي 20 صندوقًا للثروة السيادية تبلغ قيمتها مجتمعة 3.7 تريليونات دولار، مع وجود صندوق واحد نشط على الأقل في كل دولة خليجية.
وبحسب معهد صناديق الثروة السيادية؛ فإن هذه المؤسسات تختلف من حيث النطاق، والحجم، والتركيز الاستثماري، حيث تضم الهيئة العامة للاستثمار الكويتية، أصولا تبلغ 800 مليار دولار، وصندوق الاستثمارات العامة السعودي، ما يزيد قيمته على770 مليار دولار، وجهاز قطر للاستثمار، تتجاوز استثماراته 500 مليار دولار.
وخليجيا، يعد جهاز أبوظبي للاستثمار، أكبر صندوق ثروة سيادي في دول مجلس التعاون، حيث يمتلك أصولاً تزيد قيمتها على 990 مليار دولار، فيما يفوقه بكثير صندوق التقاعد الحكومي النرويجي، الذي يمتلك استثمارات يبلغ مجموعها أكثر من 1.5 تريليون دولار. وعلى الرغم من أن الأخير تأسس في أواخر التسعينيات، إلا أنه حقق نجاحًا هائلًا، في تحقيق ثروات إضافية. وأوضح كريستيان ألكسندر، من مركز تريندز، أن نهج النرويج الفريد في الإدارة الاقتصادية، والاستدامة البيئية، يمكن الاعتداد به كمصدر إلهام لدول الخليج، التي أشار كالابريس، إلى أنها تعيش موجة جديدة من إبرام الصفقات لتنويع مصالحها الاقتصادية عبر قطاعات وصناعات متعددة.
وفي العلاقات الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية مع بقية العالم، أشار ألكسندر، إلى أنه لطالما يُنظر إلى سنغافورة، كنموذج يجب أن تقتدي به دول الخليج؛ لتعزيز نموها الاقتصادي، والأمني، وخاصة في ظل إشارة البنك الدولي، إلى تطورها السريع من دولة منخفضة الدخل إلى مرتفعة الدخل، حيث بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي لها 7.7% منذ استقلالها عام 1965. وعلى الرغم من أن ثروة دول الخليج الأساسية مستمدة من عائدات النفط؛ فإن النمو الاقتصادي في سنغافورة، نتج عن الصناعات التحويلية، والمعلومات، والمالية، والاتصالات، والتكنولوجيا، والخدمات. وأوضح ألكسندر، أنها لا تزال تقدم إرثًا مهمًا لدول الخليج، فيما يتعلق بقضايا التخطيط العمراني، والتعليم، وكفاءة الإدارة؛ نظرًا إلى التنمية المستمرة، والجهود المبذولة لتنويع اقتصاداتها، بعيدًا عن الاعتماد على الهيدروكربونات.
علاوة على ذلك، أشار ألكسندر، أيضا إلى أن دراسة الحالة الخاصة بالنرويج، تقدم الآن نموذجًا أكثر أهمية وتكاملاً، وأنه بصرف النظر عن الاختلافات الجغرافية والثقافية الواضحة بين دول الخليج، والنرويج، فإنه يجب النظر إلى القواسم المشتركة بينهما، كدول صغيرة منتجة للنفط، حيث نجحت الأخيرة في الاستفادة من مواردها النفطية لدعم نموها الاقتصادي.
ومثلما تم اكتشاف موارد كبيرة من النفط لأول مرة في شبه الجزيرة العربية عام 1938، وبالتالي وجهت نظر العالم إلى الأهمية الاقتصادية للمنطقة؛ كان لاكتشاف أحد أكبر حقول النفط البحرية عالميًا في إيكو فيسك، بمياه بحر الشمال عام 1969، تداعيات كبيرة على مستقبل النرويج. ومع اكتشاف العديد من حقول النفط بها لاحقا -والتي تمتلك فيها البلاد حصة مهمة– باتت تنتج بحلول عام 2004، ما يبلغ حوالي 4.6 ملايين برميل يوميًا. وأوضح صندوق النقد الدولي، أنها استخرجت منذ ستينيات القرن العشرين أكثر من 29 مليار برميل نفط من بحر الشمال، وقامت بإدارة عائداتها النفطية لصالح شعبها البالغ عدده 5.4 ملايين نسمة، والذين تعتبرهم الملاك الحقيقيين للموارد، وقد ضَمِنَ التنفيذ المبكر للتشريعات المحفزة، إعادة توجيه الأرباح من صادراتها الهائلة من النفط والغاز إلى ما فيه نفع المجتمع.
وساعد استخدام أوسلو، المُدار بعناية لعائداتها النفطية في زيادة الناتج المحلي الإجمالي الوطني بأكثر من أربعة أضعاف، من 100 مليار دولار عام 1969، إلى ما يقرب من 435 مليارا في 2022. وفي ضوء ما جلبه ذلك من استقرار، أشار ألكسندر، إلى أنها تحتل مرتبة عالية باستمرار في مؤشرات التنافسية العالمية، باعتبارها انعكاسا لـاقتصادها القوي وحكومتها الفعالة. ووفقًا لمؤشر أفضل دول العالم عام 2023، الصادر عن مجلة يو اس نيوز اند ورلد ريبورت، احتلت المرتبة 11 على مستوى العالم، فيما جاءت في المرتبة الثانية، عالميا من حيث جودة الحياة، والعلاقات الاجتماعية، خلف السويد فقط، وأرجع المؤشر شهرتها عالميًا، بفضل نظامي التعليم، والرعاية الصحية، فضلاً عن استقرارها الاقتصادي والسياسي على المدى الطويل.
علاوة على ذلك، تم تسجيل النرويج أيضًا -إلى جانب جيرانها- كدولة آمنة جدًا، حيث تبوأت المرتبة 24 في مؤشر السلام العالمي لعام 2023، في حين جاءت في مرتبة قريبة جدًا من ذيل مؤشر الجريمة المنظمة العالمية لنفس العام. وفي مؤشر الحرية الاقتصادية، الصادر عن مؤسسة هيريتيج فاونديشن لعام 2023، احتلت المرتبة 12 بدرجة 76.9/100، مقارنة بالإمارات، الأعلى تصنيفًا خليجيا، والتي تحتل المرتبة 24 بدرجة 70.9/100. ونتيجة لكل هذه المقاييس، فإنه من الطبيعي -وفقًا لتقرير السعادة العالمي لعام 2023- أن تصبح هي أيضًا سابع أسعد دولة في العالم.
وفي ظل إشارة كالابريس، إلى أنه يوجد الآن أكثر من 176 صندوق ثروة سيادية بالعالم، تقدر قيمة أصولها بأكثر من 11 تريليون دولار، فإن صندوق الثروة السيادية، للنرويج، الذي يديره بنك نورجيس لإدارة الاستثمارات، يتفوق على كل الصناديق الأخرى. وفي شرحه لكيفية إدارته لهذا الوضع، وثق سام ميريديث، من شبكة سي ان بي سي، كيف استثمر الصندوق، الإيرادات الفائضة لقطاع النفط والغاز في البلاد في أكثر من 8.500 شركة عبر 70 دولة، مما سمح بتنمية أصوله من 23 مليار دولار عام 1998، إلى 529 مليار دولار بحلول عام 2010، ثم إلى أكثر من 1.4 تريليون دولار بحلول عام 2023.
ومن خلال الاستثمار الذكي، يستمر صندوق الثروة النرويجي، في النمو وتوفير دخل للحكومة، بجانب صادراتها من النفط والغاز. وفي عام 2023 سجل ربحًا قياسيًا، قدره 213 مليار دولار. وأشار نيكولاي تانجن، من بنك نورجيس، إلى أن الأداء القوي لأسهم التكنولوجيا التابعة للصندوق ساهم في تحقيق نتائج قوية للغاية؛ على الرغم من ارتفاع التضخم، والاضطرابات الجيوسياسية. وذكرت وكالة رويترز، أن أسهم الصندوق بشركات التكنولوجيا، شكلت أعلى سبعة أسهم قيّمة في العام الماضي، مع حيازته حصصا في شركات التكنولوجيا العملاقة؛ مايكروسوفت، وأبل، وإنفيديا، والتي كانت مُربحة بشكل خاص له. ومع وصول حصته البالغة 1.26% في شركة مايكروسوفت، وحدها إلى 35 مليار دولار في نهاية العام؛ أشار ستيفن تريلوار، من وكالة بلومبرج، إلى أن أوسلو، في الآونة الأخيرة، حصدت ثمار التقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، وازدياد الطلب على مكونات أشباه الموصلات، التي توفرها هذه الشركات.
وبالنسبة إلى دول الخليج، فإن أهمية صندوق الثروة السيادية النرويجي، لا تكمن فقط في كيفية تحقيقه لنمو اقتصادي ملحوظ، ومساعدته في توفير مستوى عالٍ من المعيشة والاستقرار المالي لمواطنيه فحسب -رغم كونه ينتمي إلى دولة أوروبية صغيرة- لكن في كيفية تحقيق ذلك عبر تطوير قدراته لمواجهة التحديات الجديدة للاستدامة، وخاصة في المجال البيئي.
ومع أن النرويج، تواصل إنتاج النفط والغاز الطبيعي من بحر الشمال، إلا أن إميل ساندوي، من شركة ريستاد إنيرجي، يشير إلى أنه من المتوقع أن تصل استثماراتها في صناعة النفط والغاز إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق قريبًا، وبحلول عام 2025، قد ترتفع مستويات الإنتاج مرة أخرى نتيجة للتركيز على إنتاج الغاز، وتنفيذ المزيد من المشروعات الجديدة؛ لمواجهة اعتماد أوروبا على صادرات الطاقة الروسية.
بالإضافة إلى ذلك، أشار ألكسندر، أيضًا إلى مدى وعي صناع السياسات في أوسلو -كما هو الحال في دول الخليج- بضرورة عدم الاعتماد المفرط على صناعة الوقود الأحفوري الذي يشكل خطرًا على اقتصاداتها وبيئاتها، موضحا أنها أصبحت بالفعل رائدة عالميًا في تعزيز الاعتماد على الطاقة المتجددة، بعد أن استثمرت بكثافة في الطاقة الكهرومائية، وطاقة الرياح.
وفي الوقت الحالي، يتم توليد 96% من الكهرباء في النرويج عن طريق الطاقة الكهرومائية المتجددة. وأوضح هان ليرش رادال، من المعهد النرويجي لأبحاث الاستدامة، أن محطات الطاقة الكهرومائية تقع على ارتفاعات عالية في ظل المناخ البارد، وبعدها عن الحياة النباتية، وعليه، يتم الاحتفاظ بانبعاثات غاز الميثان منخفضة، ويتم أيضًا تقليل الأضرار البيئية. ورأى أتلي هاربي، من مؤسسة تروندهايم للأبحاث الصناعية والتقنية، أن الطاقة الكهرومائية ستكون أكبر وأهم مصدر للطاقة المتجددة في البلاد لسنوات قادمة.
وفي حين أن دول الخليج، تفتقر إلى الأنهار، والبحيرات الشاسعة الموجودة في الدول الاسكندنافية لاستخدامها في إنتاج الطاقة المتجددة؛ فإنها تمتلك أشكالًا بديلة، من الطاقة التي تفتقر إليها النرويج، وأبرزها الطاقة الشمسية، وقد أكد الخبراء ضرورة تعزيز ذلك. وأشارت كارين يونغ، من جامعة كولومبيا، إلى مساهمة صندوق الاستثمارات العامة السعودي، في محطات الطاقة الشمسية في المملكة وخارجها، وبالتحديد في العراق، وإثيوبيا، وأذربيجان، وأوزبكستان.
وبدلاً من مواجهة النرويج، ودول الخليج، العديد من التحديات نفسها في إدارة صناديق ثرواتها السيادية –في ضوء إشارة تانجن، إلى كيف أثر التوتر بين واشنطن، وبكين، سلبيًا على النمو الاقتصادي، لدى أوسلو، من حيث ارتفاع معدلات التضخم، وكيف أدى التوتر الجيوسياسي في الشرق الأوسط، إلى ارتفاع تكاليف الشحن- عزز ألكسندر، قضية التعاون الوثيق بين الاثنين، لاسيما أن حيازة النرويج الوفيرة للمعادن الحيوية لتوليد الطاقة النظيفة، مثل الكوبالت، والنيكل، والليثيوم، يعني أن التعاون في استكشاف واستخراج هذه المعادن من القطب الشمالي، يمثل فرصة فريدة لتسريع التحول إلى اقتصاد منخفض الكربون في كلا الجانبين.
على العموم، من الواضح أن حالة صندوق الثروة السيادية النرويجي، مكنته من القيام باستثمارات قوية، عبر الاعتماد على أصول رأسمالية كبرى، وتخفيف تأثير أسعار النفط المتقلبة على الاقتصاد. وعليه يجب على دول الخليج، أن تقتدي بهذا الأمر لمواصلة تقدمها الاقتصادي. وأشار ألكسندر، إلى أن الإمارات، درست بالفعل ونفذت أفضل الممارسات لدى الصندوق النرويجي، متفهمين أهمية التركيز على التنويع الاقتصادي، والرؤية الاستراتيجية، والاستدامة المالية طويلة الأجل، وتحديدا من قبل جهاز الإمارات للاستثمار، وشركة مبادلة للتنمية.
والأهم من ذلك، الإشارة إلى الطريقة التي نجح بها صندوق النرويج في تعظيم الثروة، مع تأكيد صندوق النقد الدولي، على قدرة عائدات النفط والغاز النرويجية في التمهيد للتحول الأخضر، عبر تشجيع استخدام مصادر الطاقة المتجددة؛ مثل طاقة الرياح، والطاقة الكهرومائية، وهو الأمر ذاته التي تسعى إليه دول الخليج.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك