الفن جسرٌ يصلُ بين الهام السماء والموهبةُ التوَّاقة للتعبير عن ذاتها على الأرض، والمواهب التي تروي جذور شَغَفها الإبداعي بالاستزادة من منابع الثقافة يستمر توهجها ويتصاعد عامًا بعد عام، فترتفع قيمتها مع كل يومٍ تُصقَل فيه المهارات بفعل تراكم الخِبرات، وتُفتَح أمامها نوافذ نحو آفاقٍ جديدة من الإبداع، ولعل من أبرز الفنانين التشكيليين البحرينيين الذين نجحوا في نحت أسمائهم على جُدران حاضِر الفن البحريني بجهود عِصاميَّة واجتهادٍ يقودهُ الحُب الصادق لاستمرارية الغوص في بحر التشكيل واستكشاف ما يُخبئ من كنوز لا تنضِب الفنان المُبدع في رسم الحروفيَّات عبدالشهيد خَمدَن.
لكُل فنَّان حكاية، وغالبًا ما تكون شخصيَّة بطل تلك الحكاية هي السر الأساسي فيما يُشرقُ أمام الناس من نجاح، وفي مُحاولة منَّا لقراءة بعض سطور نجاح الفنَّان خمدن زُرناه في «أبعاد غاليري»، حيث عالمِه الذي تتحول فيه أفكاره إلى لوحاتٍ ومنحوتات، وهُناكَ سمحَ لنا بمُرافقته في رحلة التساؤلات، وكان سخيًا بما قدَّمه من معلومات.
من المُلاحظ أن للصداقة بين الإنسان والكائنات الحيَّة الأخرى على الأرض – كالطيور والقطط- حضورٌ لافت في كثير من أعمالك الفنيَّة، ما يجعلنا نتساءل عمَّا إذا كان هذا الحضور انعكاسًا لجانب من فلسفتكم تجاه الحياة؟
صحيح.. نحن وبقية الكائنات الحيَّة الأخرى شُركاء في الحياة على هذا الكوكب، والصداقة مع تلك المخلوقات توسع من زوايا رؤية الإنسان لمعاني الحياة من حوله وترتقي بمشاعره.. أذكُر أنني عندما كُنتُ في العاشرة من عُمري تقريبًا حظيتُ بصداقة بُلبُلٍ صغير يُرافقني أينما ذهبتُ طائرًا بملء حُريَّته، تلك الصداقة البريئة ملأت روحي بمشاعر بهجة عميقة دائمة انهارَت على أعتاب وفاتِه المُفاجئة.. كانت صدمة هائلة لطفولتي في تلك المرحلة، فانخرطتُ في بُكاءٍ عميقٍ مُتصلٍ وكأنني فقدتُ انسانًا عزيزًا.. كان لتلك التجربة أثرًا لا يُمحى في نفسي، وباعتبار أعمال الفنان انعكاس لمشاعره العميقة تتجلى على بعض لوحاتي محبتي لتلك المخلوقات وإيماني بدورها في مُشاركة الإنسان أفراحه وأتراحه.
نلحظُ أيضًا حضورًا واضحًا للمرأة وقضاياها في أعمالك التشكيلية، وكثيرًا ما تكون عُنصُرًا شاعريًا حتى في بعض لوحات الحروفيَّات!
أجل؛ فالفنان جزء لا يتجزأ من قضايا المُجتمع بوجهٍ عام، وأنا كفنَّان مُتعاطف مع قضية كُل انسان يعيش مُعاناة لا يُمكنه الإفصاح عنها في هذا المُجتمع، ورغم كل ما يبدو من مظاهر تقدم العصر الحديث مازالت سيّدات كثيرات يرزحن تحت وطأة صور من المُعاناة التي لا يمكنهن الإشارة إليها أو التحدث عنها، لذا تُحاول بعض لوحاتي أن تكون اللسان الناطق عن قضاياهُن بصورة غير مُباشِرة.
كيفَ ومتى بدأ افتتانك بالفن التشكيلي؟
خلال سبعينيات القرن العشرين، كنتُ وقتها فتًى مُفعمًا بالحماسة، تواقًا لإيجاد مكانٍ يحتويني وتبرز فيه قُدرتي على فعل شيء استثنائي يُسلط الضوء على وجودي، واكبَ ذلك تجوالي للاستمتاع بوقتي في أسواق مدينة المنامة حيثُ أرى الخطاطين في تلك المرحلة الزمنيَّة يرسمون خطوط اللافِتات بأيديهم، استحوَذ السحر الكامن في تلك الخطوط على كِياني واستولى على مشاعري فأحببتُ أن أكون جُزءًا من هذا العالم المُدهِش وبدأتُ بالتجربة ثم التدرُّب وتطوير مهاراتي.. استهواني من بين الخطوط العربيَّة بوجهٍ خاص خط «الثُلُث» الذي أعتبره ملِك الخطوط والخط «الديواني»، كُنتُ أخط على الأوراق والجُدران وسبُّورةٍ كبيرة أستمتعُ بالتدرُّب عليها، كما كُنتُ أتبادل مع صديقي وجاري في الحي ذاته وشريكي في عشق الخط العربي الفنان الرَّاحِل عبدالإله العرب نماذج الخط المُتميزة، وفي سن الرابعة عشرة تقريبًا طوَّعتُ فن الخط في خدمة بعض النصوص الدينيَّة، حين نعود للتاريخ نكتشف أن الفنان البحريني كان حريصًا على نقش بعض النصوص الدينيَّة المُقدسة على جُدران المعابد مُنذ عهد حضارة «دلمون» العريقة، وليسَ عجيبًا أن تورث تلك العلاقة بين الفن والدين والمُجتمع إلى يومنا هذا.
ثم.. كيف سارت خطواتك القادمة على هذا الدرب؟
عام 1975م تقريبًا بدأتُ العمل كخطَّاط بدوامٍ جُزئي في تلفزيون البحرين، في تلك المرحلة كانت الخطوط التي تظهر على الشاشة تُكتب يدويًا قبل أن يحل عصر الكتابة بالحواسِب الآليَّة، ثم عملتُ بعدها في وزارة التربية والتعليم، وحرصتُ على المشاركة في المعارض الفنية التشكيلية داخل وخارج البحرين، منها معارض في دول مجلس التعاون الخليجي والمغرب وبنغلادش ومصر وتونس ولبنان وفرنسا والنرويج؛ ما ساهَمَ في ذيوع صيت أعمالي الفنيَّة ولله الحمد، ومازلتُ أتعلَّم جديدًا وأُثقف نفسي ذاتيًا كُل يوم لاستكشاف جديد المدارس الإبداعية في هذا المجال مع الحرص على الالتزام بقواعد وأصول الخط بحيث لا تتعرَّض صورة الحرف المرسوم للتشويه غير المُستساغ للبصَر ويُجرّده من سِماته الجماليَّة.
زحف التدخُّل الآلي «التكنولوجي» مُستمرٌ بمُنافسة الإبداع الفني، ألا يستثير ذلك بعض المخاوف في نفسك كفنَّان؟
إنني مؤمنٌ بأن الفن التشكيلي – ولا سيما فن الخط العربي- هو «هندسة روحانيَّة» تنبع من المشاعر والأحاسيس، ومهما توغَّل توحُّش الآلة وتغوَّل لا يمكنه طمس ما ينبثق عن الجمال الكامن في الروح البشريَّة بصورةٍ كامِلة.. ستظل الآلة مُجرد عُنصُر مُساند يُسهل من حياة الإنسان ولا يُلغي وجوده إلا إذا استسلم هو لذلك.
من المُلاحظ أن لـ«أبعاد غاليري» الذي تم تأسيسه على يديكم نشاطًا مُتميزًا في إقامة الدورات التدريبية الفنية والمعارض المُشتركة للفنانين البحرينيين.. من أين انبثقت فكرة تأسيسه؟
تأسس هذا المكان كمرسمٍ صغير من حُجرة واحدة في البداية عام 2014م ثم اتسع، ومع تأسيسه وضعتُ هدف تشجيع الفنانين نُصب عيني، وسعيت لتحقيق هذا الهدف بخُطة مرِنة وبرنامج واضِح.. من مُحاولات دعم الفنانين إقامة المعارض المُشتركة والسماح لهم بعرض لوحاتهم دون مُقابل، لا سيما وأن مُعظم صالات العرض تفرض رسومًا عالية على الراغبين في إقامة معرض، وفوقها نسبة لا يُستهان بها من أرباح اللوحات إن تم بيعها، وهو ما يُحبط الفنان غير المُقتدِر ماديًا ويقف حجر عثرة في طريق تحقيق طموحاته.. إنني من أشد المؤمنين بدور الفنَّان في خدمة المُجتمع بكُل ما هو مُمكن معنويًا وماديًا، ولقد صلتُ إلى مرحلة شعرتُ فيها أن الوقت قد حان لمزيدٍ من العطاء بما أملك، وأنا سعيدٌ بتحقيق هذا الهدف قدر المُستطاع.
يطول الحديث مع شخصيَّة فنيَّة عملاقة مثل الفنان عبدالشهيد خمدن، ومنهُ تكتشف أنَّك أمام شخصيَّة انسانيَّة صادقة مع ذاتها، مؤمنة بخياراتِها، تعتنق مبادئ راسخة وتسمح لشخصيتها بالتطوُّر المرِن لمواكبة تقدم العصر على الصعيدين: الإنساني الشخصي والفني، فتُدرك أن أسباب تألُّق سُمعتها في الأوساط الفنية والثقافيَّة ما كان إلا بذاك الجوهر المصقول بحكمة الأيَّام ومحبَّة الآخرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك