يعد الروائيّ التركي أورهان باموق (1952) واحدًا من أبرز كتاب الرواية التاريخيّة على مستوى العالم. وقد حاز على جائزة نوبل في الآداب سنة 2006. ألف باموق أول رواية له عام 1982 وهي رواية «جودت بيه وأولاده «التي أتبعها برواية «البيت الصامت» عام 1983 ثم «القلعة البيضاء «عام 1985. ومن أشهر رواياته كذلك «اسمي أحمر» و«ثلج» إلى جانب كتب أخرى مثل «إسطنبول، الذكريات والمدينة»، وهو بورتريه شخصي مزدوج لفضاء المكان «إسطنبول» متعالقًا مع سيرته الذاتية.
ويمثل كتاب «ألوان أخرى، قصة جديدة ومقالات» شذرات من السرد السير ذاتي عند باموق؛ وهي شذرات ذاتية لم يضمنها في رواياته؛ إذ يقول «جمعتُ هذه القطع لتشكل كتابًا جديدًا تمامًا يتمركز حول السيرة الذاتية. وقد تخلصتُ من جزئيات كثيرة، واختصرتُ جزئيات أخرى، وأخذتُ مجرد مقتطفات من المقالات والمذكرات». ويمثلُ هذا الكتاب سيرة الكتابة عند باموق الروائي بدءًا من سيرة القلم الأولى وتشكلاتها المبكرة.
لقد كان حديث باموق عن نفسه أشبه بالشذرات المتناثرة التي يجب التقاطها كي يحصل المتلقي على سرد ذاتي متصل، بمعنى أنَّ التسلسل الزمني والمكاني مفقود في هذه الشذرات الأمر الذي يجعل المتلقي في حاجة إلى إعادة قراءة هذا الكتاب أكثر من مرة لملء الفجوات الكثيرة في الكتابة رغم احتشاد الكتاب بتفاصيل عدة. ولذلك فإننا نجد هذه الشذرات تأتي معنونة بعناوين أشياء أو أماكن كما يفعل عادة باموق في رواياته. فمن عناوينه على سبيل المثال وهو يتحدثُ عن ذاكرة السرد الأولى «ساعات يدي». لقد جعل باموق ساعة اليد جزءًا من جسده؛ أي أنها ملازمة له وهذا يؤشرُ على علاقته الخصوصية بالزمن؛ زمن الكتابة والإبداع. ويشير كذلك إلى أنه بوصفه مبدعًا تكون ساعة اليد لديه ضابطًا رقميًا لإبداعه اليومي الذي حصره بين الحادية عشرة والرابعة صباحًا من كل يوم. يقول باموق عن ساعة اليد «بدأتُ أضع أول ساعة يد عام 1965، وأنا في الثانية عشرة من عمري، ثم، في عام 1970 تخلصتُ منها؛ لأنها في ذلك الوقت كانت قديمة جدًا. لم تكن ماركة فاخرة، مجرد ساعة عادية. وفي عام 1970 اشتريتُ ساعة أوميجا، وظللتُ أستخدمها حتى عام 1983، وهذه ساعتي الثالثة، أوميجا أيضًا. وهي ليست قديمة جدًا؛ زوجتي اشترتها لي في نهاية عام 1983، بعد شهور قليلة من نشر البيت الصامت (...) سأنظر إلى وجه الساعة، وسيبدو عقربا الساعات والدقائق قد وصلا إلى المكان الذي كانا يقصدانه. ولكني لا أفكر في هذا كفكرة أو حتى كجزء من الوقت. ولهذا فلن أشتري أبدًا ساعة رقمية، فالساعات الرقمية تظهر تلك الجزيئات من الوقت كأرقام، بينما وجه ساعتي أيقونة غامضة مكتنفة بالأسرار، أعشق النظر إليها. وجه الوقت، بشكل ما، يستحضر في الذهن ذلك التصور الغيبي أو شيئًا يقاربه».
شكّلت سيرة باموق الذاتية قرابة نصف كتابه «إسطنبول، الذكريات والمدينة». ويجمعُ هذا الكتابُ بين التفكير في الصور والمناظر وكيمياء مدينة، وإدراك طفل لتلك المدينة وهو يروي سيرته الذاتية وخاصة العبارة الأخيرة من الكتاب التي تقول على لسان ذلك الطفل «قلتُ: لا أريد أن أصبح فنانًا، سوف أكون كاتبًا» وهو ما فعله باموق فعلاً ففي بدايات حياته ظهر حبه للفنون البصرية، ولكن بعد أن التحق بالجامعة لدراسة الهندسة المعمارية قرر أن يكتب كما أن عشقه للرسم والألوان ظهر جليًا في رواياته.
يذكر باموق أنَّه في روايته «اسمي أحمر» كان يريد كتابة طموحه لأن يصبح رسامًا؛ فبدأ بداية خادعة: بدأ يكتب كتابًا تصويريًا يركز على رسام واحد.. ثم حوّل الرسام إلى عدد من الرسامين يعملون معًا في أحد الأتيليهات. يقول باموق: «في البداية كنت أفكرُ في الكتابة حول فنان معاصر، ثم فكرتُ أنَّ هذا الفنان التركي قد يكون مشتقًا بكثافة، شديد التأثر بالغرب، ومن ثم عدتُ في الزمن لأكتب حول رسامي المنمنمات».
لقد كانت ذاكرة القراءة جزءًا كبيرًا من السيرة الذاتية لباموق؛ فقد أورد في أكثر من موضع من كتابه «ألوان أخرى» طائفة من الروائيين الذين شكّلوا ذاكرته الكتابية مثل فيكتور هوجو ودستوفسكي وومارسيل بروست وكالفينو وناباكوف وغيرهم. كما مثّلت ًبعض الروايات. مثل رواية Charterhouse of Parma’ لستاندال مصدرًا رئيسًا في تشكيله الكتابي، وبلغ إعجابه بالرواية حد أنه كتب بخط يده ملاحظات دوَّنها على هوامش الكتاب. ويعلق باموق على أغلفة الكتب بقوله: «إذا استطاع روائي أن ينهي كتابًا دون أن يحلم بغلافه مصقول جيدًا، وناضج مكتمل التكوين، فهو حكيم، لكنه أيضًا قد فقد البراءة التي جعلت منه روائيًا في المقام الأول».
يعترف باموق بأنَّ كتبه هي حياته؛ أي أنها تشكل معادلاً موضوعًيا وإبداعيًا له.. إنها رحلة البحث عن التفصيلات الدقيقة؛ ولذلك فقد استعان في كتابة روايات التاريخية وخاصة روايته المشهورة «القلعة البيضاء» بكتابات المؤرخين الأتراك ويومياتهم عن العصر العثماني بما في ذلك التاريخ الاجتماعي للمجانين. وقد كانت كتابات أوليا تشلبي وكتب اليوميات مثل كتاب أحمد آغا «يوميات حصار فيينا» حاضرة في «رواية القلعة البيضاء».
أمّا رواية «الكتاب الأسود» فإنَّ هذه الرواية تجري في أماكن قضاها باموق في طفولته «الفكرة الأصلية لرواية «الكتاب الأسود»، كما يقول باموق «كانت شيئًا يقع في أواخر السبعينيات، يستدعي ما في الشوارع من شعر في فترة طفولتي، ويحتفل بفوضوية إسطنبول، في الماضي والحاضر. في مذكرات بدأتُ في كتابتها في 1979، كتبتُ عن مثقف في الخامسة والثلاثين من عمره يهرب من منزله، ومن تجاربه، في رحلة آخر أسبوع طويلة، ومن مباراة كرة قدم أثناء نفس تلك العطلة والتي تتحوّل إلى كارثة قومية، كتبتُ عن انقطاع الكهرباء وشوارع إسطنبول، عن طقس لوحات بروجل (الثلج) وكذلك لوحات هرمنيوس بوش(الشياطين)، وعن مثنوي، وعن الشاهنامة، وعن ألف ليلة وليلة».
إن َّكتاب «ألوان أخرى» لأورهان باموق يقدم سيرته الذاتية ليس بالطريقة التي اعتدنا بها قراءة السير الذاتية بتسلسل زمني ومكاني. إنه في هذا الكتاب يقدمُ لنا طرحًا مغايرًا لسيرة ذاتية تأتي على صورة شذرات متناثرة هنا وهناك، ويستطيع كل متلقٍّ أن يجمعها ليحصل على صورة ما من الصور المتعددة القابلة للتأويل عند روائي مغاير مثل باموق. أثارت كتاباته ولا تزال تثير آفاقًا خصبة للنقاش والجدل والاختلاف.
{ أستاذ النقد الأدبي الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك