يوميات سياسية
السيـــــــد زهـــــــره
فـي البدء كانت رؤية جلالة الملك
هذه هي الأركان الخمسة لرؤية وفلسفة جلالة الملك والمشروع الإصلاحي
اليوبيل الفضي مناسبة لوقفة تقييم ومراجعة شـاملة للعمل الوطني
تحتفل البحرين هذه الأيام باليوبيل الفضي لتولي جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة مقاليد الكم في البلاد. هذه مناسبة وطنية جليلة. هي مناسبة للاحتفاء بالإنجازات التاريخية التي تحققت في عهد جلالته عبر 25 عاما. هي أيضا مناسبة لتأمل مسيرة الوطن والعمل الوطني منذ تولي جلالته مقاليد الحكم حتى اليوم.
وهي مناسبة للتوقف عند قضايا كبرى، في مقدمتها: ما هي الرؤية والفلسفة التي حكمت مسيرة العمل الوطني عبر الـ25 عاما الماضية؟.. كيف تم تنفيذ هذه الرؤية والفلسفة في الواقع العملي في مختلف المجالات؟ ما هو المطلوب اليوم لمراجعة مسيرة العمل الوطني وصولا إلى مستقبل أفضل؟
{ { {
الرؤية والفلسفة
في البدء كانت رؤية جلالة الملك.
يجب ألا تغيب هذه الحقيقة عن الذاكرة الوطنية.
نعني انه حين تولى جلالة الملك مقاليد الحكم كانت لدى جلالته رؤية استراتيجية كبرى. هذه الرؤية والفلسفة التي استندت اليها هي التي حكمت مسيرة العمل الوطني منذ البداية، وهي التي تقف وراء ما شهدته البحرين من إنجازات في شتى الميادين خلال الـ25 عاما.
ما هي هذه الرؤية والفلسفة؟
من واقع خطابات جلالة الملك وما طرحه جلالته من أفكار ورؤى وتصورات للعمل الوطني، نستطيع ان نلخص هذه الرؤية في أركان خمسة كبرى هي على النحو التالي:
أولا: بناء دولة قوية عصرية تواكب العصر ومستجداته وتحدياته، وتلبي آمال وطموحات أجيال البحرين الصاعدة وأجيال المستقبل.
منذ البداية أكد جلالة الملك ان البحرين تستحق أن تكون في طليعة الدول العصرية المتقدمة في كل المجالات بكل ما تعنيه العصرية والتقدم من معان وأبعاد، سواء في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، أو في مجال السياسة والعمل الديمقراطي، أو على مستوى العلاقة بين القيادة والشعب.
ومنذ البداية، كانت رؤية جلالة الملك واضحة أنه حين تبني البحرين تجربتها الجديدة، فإن الحسابات يجب أن تقوم ليس فقط على الظروف الحالية فقط ومتطلبات الجيل الحالي فقط، وإنما يجب أن تبنى على تلبية تطلعات المستقبل والأجيال القادمة.
في أحد خطاباته قال جلالة الملك إن هدفنا الأكبر هو «بناء وطن المستقبل لأجيال البحرين الصاعدة».
ثانيا: ان تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي الكبير، أي بناء الدولة العصرية المدنية الحديثة المتقدمة في الحاضر والمستقبل، يتطلب مشروعا شاملا للإصلاح والتغيير والبناء العصري الحديث.
هذا المشروع يجب أن يتضمن بداهة أهدافا وغايات استراتيجية، ومبادئ وطنية حاكمة، وآليات ووسائل لتحقيق هذه الأهداف والمبادئ.
وعلى هذه الأسس طرح جلالة الملك مشروع الإصلاحي التاريخي.
ثالثا: ان عملية الإصلاح والتغيير وبناء الدولة العصرية الحديثة لا يجب أن تتوقف عند حد معين، بل يجب أن تكون بمثابة عملية مستمرة متواصلة.
ومن هذا المنطلق أكد جلالة الملك مرات كثيرة أن مشروع الإصلاح والتغيير مفتوح على كل احتمالات التغيير والتطوير والتحديث.
وراء هذا التأكيد من جلالة الملك إدراك بالطبع بأن عملية الإصلاح والتغيير يجب ان تواكب التطورات الجديدة والأحداث المستجدة، كما يجب أن تلبي تطلعات الأجيال الجديدة.
رابعا: ان أي خطوة على طريق تطوير وإصلاح العمل الوطني لا يجب أن تتم من دون الإرادة الشعبية. بمعنى أن أي تطور جديد يجب أن يكون محل رضا الشعب.
ومن هذا المنطق بالذات طرح جلالة الملك واحدا من أهم أركان رؤية وفلسفة جلالته ومشروعه الإصلاحي، وهي فلسفة التوافق الوطني التي تقوم على أن أي خطوة جديدة وأي تحديث جديد يجب أن يكون محصلة للتوافق الوطني العام.
ووراء فلسفة التوافق حكمة بليغة هي أنه من دون هذا التوافق لا يمكن ضمان تطبيق أي اصلاح أو تطوير أو تحديث بحماس وبكفاءة وفعالية.
تقوم فلسفة التوافق الوطني في جوهرها على أن الغاية الكبرى التي يسعى الكل إلى تحقيقها، سواء الحكومة ومؤسسات الدولة، أو قوى المجتمع المختلفة، هي المصلحة الوطنية العامة. والمصلحة الوطنية العامة تعني بداهة مصلحة الوطن ومصلحة المواطن.
وتقوم هذه الفلسفة على ان المصلحة الوطنية العامة تتحقق أفضل ما تتحقق عن طريق التوافق حول القضايا والقرارات الوطنية الكبرى، أي بناء على ما يتم التوافق حوله بين الكل ودون انفراد أي جهة وحدها بالقرار، وبالتالي تحظى بالرضا العام.
هذا هو جوهر فلسفة التوافق الوطني باختصار شديد.
خامسا: ان الكل بلا استثناء يجب أن يكون على ثقة تامة بالقدرة على الإنجاز وعلى مواجهة التحديات، وأن الأمل في المستقبل الأفضل يجب أن يكون كبيرا.
جلالة الملك في خطاباته قدم أسبابا كثيرة لهذه الثقة والأمل الذي يجب أن يتحلى به الكل.
في مقدمة هذه الأسباب حضارة البحرين وتاريخها الطويل الثري، والجهود التاريخية التي بذلها القادة والرواد الأوائل وحقيقة أن ما يتحقق اليوم من إنجازات هو مواصلة لهذه الجهود وبناء عليها.. يصرّ جلالة الملك على التذكير بهذا الجانب باستمرار. وفي أحد الخطابات قال جلالته إننا «نواصل العمل بصبر وثبات لتجديد النهضة التاريخية والبناء على ريادتها» ومواصلة «إثراء درب التحديث والتطور بالبناء على إنجازات مؤسسي دولتنا العريقة».
أيضا يحرص جلالة الملك باستمرار على الحديث عن قدرات الجيل الجديد من القادة في البحرين وقدرتهم على تحقيق الإنجازات المنشودة، وقدرات شباب البحرين بشكل عام.
بهذا الجانب من رؤية جلالة الملك يريد جلالته أن يزرع الثقة والأمل لدى الكل وينبه الجميع الى الايمان بالقدرة على مواجهة أي تحدّ وتحقيق أي إنجاز.
كما نرى، فإن جلالة الملك منذ تولي مقاليد الحكم امتلك هذه الرؤية الواضحة وهذه الفلسفة للعمل الوطني لحاضر البحرين ومستقبلها.
هذه الرؤية والفلسفة هي التي حكمت مشروع الإصلاح والتغيير، وهي التي تحكم وتوجه العمل الوطني الآن ومستقبلا.
{ { {
المشروع الكبير
من منطلق هذه الأركان الخمسة لرؤية لجلالة الملك طرح جلالته مشروعه الإصلاحي التاريخي الكبير الذي لا سابقة له في المنطقة كلها.
وبناء على هذه الأركان تحددت الأهداف الاستراتيجية الكبرى للمشروع الإصلاحي في جوانب ثلاثة أساسية:
1 - بناء الدولة المدنية العصرية الحديثة.
2 - المشاركة الشعبية في صنع السياسات واتخاذ القرار وفق فلسفة التوافق الوطني.
3 - بناء الآليات والمؤسسات الكفيلة بتحقيق هذين الهدفين الاستراتيجيين الكبيرين.
وجاء ميثاق العمل الوطني ليكون الوثيقة الأساسية التي تجسد المشروع الإصلاحي بأهدافه الاستراتيجية ويرسي أسس الدولة والمجتمع حاضرا ومستقبلا.
جلالة الملك قال عن الميثاق: «نريده ميثاقا للوطن، ووثيقة للعهد، وركيزة لعقد اجتماعي جديد في مسيرتنا الوطنية يرسخ ويوثق أصالة البحرين وتميزها وتراثها الحضاري، ويؤكد وحدة الوطن أرضا وشعبا، كما يمثل في الوقت ذاته دليل عمل لمستقبل يحدد معالم الطريق ويستكمل مؤسسات الدولة ونظمها، ويرسم آفاق الغد الأفضل للبحرين الجديدة التي نريدها أبهى وأجمل، لنا وللأجيال المقبلة».
كما نرى، أراد جلالة الملك أن يكون الميثاق جوهر المشروع الإصلاحي قلبا وروحا.
أما عن الدولة المدنية العصرية والمقومات والأسس التي تحكمها فهي كما نعلم دولة السيادة فيها للقانون. هي دولة المؤسسات المستقلة. هي دولة المواطنة حيث لا فرق ولا تمييز بين مواطن وآخر على أساس الطائفة أو الدين او الانتماء القبلي أو أي انتماء فرعي آخر، ولا مكان إلا للوطن والوطنية والانتماء الوطني الجامع. هي دولة المشاركة الشعبية في صنع السياسات العامة.
على هذا الأساس جاء ميثاق العمل الوطني وثيقة وطنية شاملة، حددت هوية البحرين الحضارية العربية الإسلامية، ومقومات وأسس الدولة والمجتمع، طبيعة نظام الحكم في البلاد، وعلاقات البحرين الخليجية والعربية والدولية.
جاء الميثاق ليؤكد احترام كرامة الإنسان، وصون حقوقه، وجعله يشعر أنه يعيش حرا آمنا في وطنه، وله صوت مسموع، وليؤسس لتجربة ديمقراطية عصرية متقدمة، تضمن المشاركة الشعبية العامة في تقرير شؤون الوطن وصنع السياسات العامة. ومنح الميثاق حريات واسعة للأفراد وصانها، وللقوى السياسية، وقوى المجتمع المدني، بما يتيح لكل قوى الشعب التعبير عن آرائها ومواقفها والمشاركة العامة في قضايا الوطن.
إذن، جوهر ما طرحه الميثاق باعتباره المرجع الأساسي للعمل الوطني، هو باختصار وضع الأسس والمبادئ والمقومات لإقامة الدولة المدنية العصرية الحديثة بكل ما يعنيه ذلك.
{ { {
في الواقع العملي
من الصعب جدا بطبيعة الحال أن نرصد تفصيلا كيف تم تنفيذ المشروع الاصلاحي لجلالة الملك في الواقع العملي في مختلف المجالات والإنجازات التي تحققت، لكن من المهم أن نتوقف سريعا عند المحطات الأساسية.
بداية، منذ أن تولى جلالة الملك مقاليد الحكم، تم إعطاء كل القوى والتيارات السياسية بلا استثناء حق إنشاء الجمعيات السياسية ونشأت الجمعيات المعروفة.
وهذه الجمعيات السياسية تمتعت بكل الحريات السياسية والإعلامية، ولم يتم وضع أي قيود على حركتها وأنشطتها السياسية.
أيضا تم إطلاق حق إنشاء جمعيات ومنظمات المجتمع المدني المختلفة.
وتم إطلاق الحريات الإعلامية إلى حد بعيد.
وتم كما ذكرنا صياغة ميثاق العمل الوطني ليكون الوثيقة الأساسية الحاكمة.
وتم إطلاق التجربة البرلمانية التي تطورت على النحو الذي نعرفه.
وبالطبع تطور العمل الحكومي وفق برامج ورؤى وآليات جديدة تحت قيادة سمو الأمير سلمان بن حمد آل خلفية ولي العهد رئيس الوزراء.
ويجب أن نتوقف كثيرا عند تطبيق فلسفة التوافق الوطني في الواقع العملي باعتبارها تجسيدا لحق المشاركة السياسية.
نعلم أنه حين فكرت القيادة في إعداد ميثاق للعمل الوطني، لم تنفرد بإعداده وصياغته وطلب الاستفتاء عليه، وانما تم تشكيل لجنة وطنية عليا لإعداد الميثاق ضمت كل أطياف وقوى المجتمع المختلفة من جميع الاتجاهات والانتماءات.
أي أن الميثاق في إعداده جاء معبرا بداية عن إرادة ورؤى المجتمع كله. وتجسيدا لفلسفة التوافق.
هذا بالضبط هو الذي قاد الى التلاقي بين إرادة الشعب وإرادة القيادة، وجسدته نسبة التأييد المذهلة للميثاق التي أسفر عنها الاستفتاء.
وبتصويت شعب البحرين بأغلبيته الكاسحة للميثاق، منح ثقته المطلقة للقيادة، واعتبر انها أمينة على آمال وتطلعات الشعب، وهي قيادة أمينة على الوطن حاضرا ومستقبلا.
وكان أكبر تجسيد لفلسفة التوافق الوطني ما حدث في البحرين في أعقاب الأحداث الطائفية في 2011. على الرغم من الحداث المؤلمة والتآمر على البلاد في تلك الأحداث، أصر جلالة الملك على إطلاق حوار التوافق الوطني الذي مثل حدثا تاريخيا فارقا في مسيرة العمل الوطني في البلاد، وقد انتهى هذا الحوار كما نعلم إلى نتائج وخطوات إصلاحية كبيرة تم تنفيذها بالفعل.
ويصرّ جلالة الملك في كل مناسبة على تأكيد الأهمية الكبرى لهذا التوافق في أي خطوة او تطور جديد.
{ { {
أوان المراجعة والتقييم
اليوم والبحرين تحتفل باليوبيل الفضي لتولي جلالة الملك مقاليد الحكم، من المفروض أن تكون هذه مناسبة للمراجعة والتقييم.
أعني أن مسيرة 25 عاما في ظل حكم جلالة الملك هي مناسبة للتأمل في هذه المسيرة بكل جوانبها وبكل إنجازاتها.
هذه المراجعة تحتمها عوامل كثيرة، في مقدمتها أن البحرين كما كل دول المنطقة تشهد تحولات إقليمية وعالمية كثيرة ومتسارعة تفرض تحديات جديدة تلقي بظلالها حتما على الحاضر والمستقبل.
كما ينبغي أن نلاحظ أن جيلا جديدا نشأ في الـ25 عاما الماضية وأصبح اليوم في مرحلة الشباب وهو بلا شك لديه رؤى وآمال وطموحات جديدة.
ثم يجب ألا ننسى أن هذه المراجعة هي ترجمة لأحد المبادئ الكبرى في رؤية وفلسفة جلالة الملك ان المشروع الإصلاحي مفتوح على كل احتمالات التغيير والتطوير بشرط أن يكون هذا محصلة لتوافق وطني.
لكل هذا، فإن هناك أسئلة كثيرة يجب ان تشملها عملية المراجعة والتقييم، ويجب أن نطرحها ونناقشها في هذا السياق، لعلّ في مقدمتها ما يلي:
1 - هل تحققت في الواقع العملي كل أبعاد وأركان رؤية وفلسفة جلالة الملك؟ أم إن هناك جوانب لم تتحقق؟
2 - كما ذكرنا في القلب من رؤية جلالة الملك والمشروع الإصلاحي بناء الدولة المدنية العصرية الحديثة.
هل بالفعل نجحت البحرين في إقامة الدولة المدنية بكل مقوماتها وفي مقدمتها القضاء على الطائفية؟
3 - بشكل عام، ماهي الانجازات التي تحققت، وما الذي لم يتحقق، وما هي الأسباب التي حالت دون ذلك؟
4 - هل نحن بحاجة إلى إصلاحات جديدة على ضوء المراجعة والتقييم في مختلف المجالات؟ وأي نوع من الإصلاحات بالضبط؟
مثل هذه التساؤلات يجب أن تناقش بوضوح وحرية وفقا للمبدأ الذي أرساه جلالة الملك، مبدأ التوافق الوطني.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك