العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

المرأة القائدة.. الخنساء أنموذجًا

بقلم: د. زكريا الخنجي

الثلاثاء ١٢ مارس ٢٠٢٤ - 02:00

هي‭ ‬تماضر‭ ‬بنت‭ ‬عمرو‭ ‬السلمية،‭ ‬وعُرفت‭ ‬بالخنساء،‮ ‬صحابية وشاعرة،‭ ‬أدركت الجاهلية والإسلام‭ ‬وأسلمت،‭ ‬واشتهرت برثائها لأخويها‭ ‬صخر‭ ‬ومعاوية‭ ‬اللذين قتلا في‮ ‬الجاهلية،‭ ‬ولقد‭ ‬أجمعت‭ ‬المصادر‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬صنفها‭ ‬أهل‭ ‬العلم‭ ‬بالشعر‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬امرأة‭ ‬قط‭ ‬قبلها‭ ‬ولا‭ ‬بعدها‭ ‬أشعر‭ ‬منها‭.‬

وهي‭ ‬من‭ ‬قبيلة‭ ‬سُليم،‭ ‬وليس‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬إخوة‭ ‬غير‭ ‬معاوية‭ ‬شقيقها‭ ‬وصخر‭ ‬أخيها‭ ‬لأبيها،‭ ‬وصخر‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬ملأت‭ ‬بذكره‭ ‬شعرها‭ ‬عويلاً،‭ ‬وأكثرت‭ ‬فيه‭ ‬الرثاء،‭ ‬ولم‭ ‬يُعرف‭ ‬لها‭ ‬أخوات،‭ ‬لا‭ ‬من‭ ‬أمها‭ ‬ولا‭ ‬من‭ ‬أبيها،‭ ‬فكانت‭ ‬الابنة‭ ‬الوحيدة‭ ‬لأبويها‭. ‬

شبّت‭ (‬تُماضر‭) ‬في‭ ‬بيئة‭ ‬جاهلية‭ ‬ذات‭ ‬شأن،‭ ‬واسمها‭ (‬تُماضر‭) ‬يعني‭ ‬البياض،‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬المصادر‭ ‬التي‭ ‬أرّخت‭ ‬لها‭. ‬أما‭ ‬لماذا‭ ‬سميت‭ ‬بالخنساء؟‭ ‬فالمصادر‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬‮«‬تماضر‭ ‬من‭ ‬ذوات‭ ‬الجمال؛‭ ‬يدل‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬تلقبها‭ ‬بالخنساء‭. ‬قالت‭ ‬صاحبة‭ (‬الدرر‭ ‬المنثور‭ ‬في‭ ‬طبقات‭ ‬رباتِ‭ ‬الخدور‭): ‬‮«‬وتكنى‭ ‬أم‭ ‬عمرو؛‭ ‬وإنما‭ ‬الخنساء‭ ‬لقب‭ ‬غلب‭ ‬عليها،‭ ‬وهي‭ ‬الظبية»؛‭ ‬وتشبيهها‭ ‬بالظبية‭ ‬يوحي‭ ‬بما‭ ‬لها‭ ‬من‭ ‬جمال‭ ‬وفتنة‭. ‬وقال‭ ‬صاحب‭ (‬تاج‭ ‬العروس‭): ‬‮«‬وأصل‭ ‬الخَنَس‭ ‬في‭ ‬الظباء،‭ ‬وأنف‭ ‬البقر‭ ‬أخنس‭ ‬لا‭ ‬يكون‭ ‬إلا‭ ‬هكذا‮»‬‭.‬

وسط‭ ‬هذه‭ ‬البيئة،‭ ‬وهذه‭ ‬الأسرة‭ ‬العريقة‭ ‬بمفهوم‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬عاشت‭ ‬الخنساء‭. ‬وربما‭ ‬يُشاع‭ ‬أن‭ ‬بيئات‭ ‬العصر‭ ‬الجاهلي،‭ ‬الذي‭ ‬عاشت‭ ‬فيها‭ ‬الخنساء،‭ ‬وسط‭ ‬هذه‭ ‬البيئة‭ ‬الصحراوية،‭ ‬كان‭ ‬يخلو‭ ‬من‭ ‬استقرار‭ ‬يشي‭ ‬بشيء‭ ‬من‭ ‬التحضر‭ ‬كما‭ ‬يظن‭ ‬بعضهم؛‭ ‬حيث‭ ‬البدو‭ ‬الرُّحل‭ ‬يهيمون‭ ‬على‭ ‬وجوههم،‭ ‬بحثًا‭ ‬عن‭ ‬الكلأ‭ ‬والمرعى؛‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬زعم‭ ‬خاطئ‭.‬

ترى‭ ‬د‭. ‬بنت‭ ‬الشاطئ،‭ ‬أن‭ ‬الخنساء‭ ‬‮«‬لم‭ ‬تكن‭ ‬إذن،‭ ‬تعيش‭ ‬هائمة‭ ‬على‭ ‬وجهها،‭ ‬ضاربةً‭ ‬مع‭ ‬قومها‭ ‬في‭ ‬مجاهل‭ ‬البادية؛‭ ‬ولا‭ ‬جهلت‭ ‬الموطن‭ ‬الغالي،‭ ‬والدار،‭ ‬والمنزل،‭ ‬والحمى‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يجوز‭ ‬أن‭ ‬يستباح‭. ‬وإنما‭ ‬كانت‭ ‬تقيم‭ ‬مع‭ ‬العشيرة‭ ‬في‭ ‬ديارها‭ ‬أرض‭ ‬بني‭ ‬سُليم‭. ‬وحياة‭ ‬البدو‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬فهم‭ ‬كثير‭ ‬منا‭ ‬‭ ‬حياة‭ ‬رعي‭ ‬فحسب؛‭ ‬وإنما‭ ‬كان‭ ‬منهم‭ ‬التجار،‭ ‬وأصحاب‭ ‬الإبل،‭ ‬وكان‭ ‬منهم‭ ‬حرّاس‭ ‬القوافل‭ ‬وحماتها‭ ‬الذين‭ ‬يؤجرون‭ ‬لحراستها‮»‬‭.‬

يقول‭ ‬ابن‭ ‬خلدون‭: ‬‮«‬إن‭ ‬شاعرتنا‭ ‬الخنساء‭ ‬نشأت‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬كان‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬من‭ ‬الرُقي؛‭ ‬فهي‭ ‬بنت‭ ‬البيئة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الفطرة‭ ‬والتربية‭ ‬والحرية‭ ‬والأخلاق‭. ‬فمن‭ ‬يتأمل‭ ‬حياتها‭ ‬الأولى؛‭ ‬لا‭ ‬يجد‭ ‬غير‭ ‬النفس‭ ‬الطبيعية‭ ‬الهادئة‭ ‬والسلوك‭ ‬القويم‮»‬‭.‬

 

الصفات‭ ‬القيادية‭ ‬في‭ ‬شخصية‭ ‬الخنساء‭ ‬

نستطيع‭ ‬أن‭ ‬نلمح‭ ‬صورة‭ ‬الخنساء‭ ‬وشخصيتها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬البيئة‭ ‬والوسط‭ ‬الذي‭ ‬عاشته،‭ ‬ليس‭ ‬ذلك‭ ‬فحسب‭ ‬وإنما‭ ‬تقلبت‭ ‬ونمت‭ ‬وتعايشت‭ ‬مع‭ ‬كثير‭ ‬من‭ ‬الظروف‭ ‬والأحداث‭ ‬التي‭ ‬جرت‭ ‬في‭ ‬حياتها،‭ ‬سواء‭ ‬زواجها،‭ ‬أو‭ ‬موت‭ ‬أشقائها،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬إسلامها‭ ‬واستشهاد‭ ‬أبنائها،‭ ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬الحوادث‭ ‬التي‭ ‬تعيد‭ ‬ترتيب‭ ‬حياة‭ ‬الإنسان‭. ‬ونحن‭ ‬نعلم‭ ‬اليوم‭ ‬أن‭ ‬كل‭ ‬تلك‭ ‬الأمور‭ ‬أثرت‭ ‬فيها‭ ‬بطريقة‭ ‬أو‭ ‬بأخرى‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬تنمية‭ ‬شخصيتها‭ ‬وحياتها‭.‬

وما‭ ‬سنحاول‭ ‬أن‭ ‬نسرده‭ ‬هنا‭ ‬هي‭ ‬بعض‭ ‬الصفات‭ ‬والسمات‭ ‬التي‭ ‬تميزت‭ ‬بها،‭ ‬مثل‭:‬

حرية‭ ‬الرأي‭ ‬والقدرة‭ ‬على‭ ‬اتخاذ‭ ‬القرار‭: ‬تروي‭ ‬كتب‭ ‬السير‭ ‬أن‭ ‬سيد‭ ‬بني‭ ‬جشم،‭ ‬وفارسها‭ ‬المظفر‭ (‬دريد‭ ‬بن‭ ‬الصمة‭) ‬انطلق‭ ‬ذات‭ ‬يوم‭ ‬على‭ ‬فرسه‭ ‬في‭ ‬رياضة‭ ‬قصيرة،‭ ‬وما‭ ‬كان‭ ‬يخاف‭ ‬شيئًا،‭ ‬فقد‭ ‬شارك‭ ‬في‭ ‬نحو‭ ‬مئة‭ ‬معركة،‭ ‬ما‭ ‬أخفق‭ ‬في‭ ‬واحدة‭ ‬منها،‭ ‬وأصبح‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬سمعته‭ ‬ما‭ ‬يكفل‭ ‬له‭ ‬الأمن‭ ‬والإكرام‭. ‬وبينما‭ ‬دريد‭ ‬في‭ ‬رحلته‭ ‬تلك‭ ‬القصيرة،‭ ‬لفت‭ ‬نظره‭ ‬مشهد‭ ‬فتاة‭ ‬تهنأ‭ ‬بعيرًا‭ ‬لها‭. ‬ويتساءل‭ ‬فيعرف‭ ‬أنها‭ (‬تماضر‭ ‬بنت‭ ‬عمرو‭)‬،‭ ‬شقيقة‭ ‬صديقه‭ ‬الحميم‭ ‬معاوية،‭ ‬فوقف‭ ‬سعيدًا‭ ‬إذ‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬تلك‭ ‬النتيجة‭ ‬فأنشد‭ ‬شعرًا‭ ‬يمدحها‭.‬

وفي‭ ‬الصباح‭ ‬أخذ‭ ‬طريقه‭ ‬إلى‭ ‬منزل‭ ‬صديقه‭ ‬معاوية‭ ‬بن‭ ‬عمرو،‭ ‬تلقاه‭ ‬عمرو‭ ‬بالترحاب،‭ ‬وجلس‭ ‬دريد‭ ‬في‭ ‬مجلسه‭ ‬وقال‭: ‬‮«‬جئت‭ ‬أخطب‭ ‬ابنتك‭ ‬تماضر‭ ‬الخنساء‮»‬‭ ‬قال‭ ‬له‭ ‬عمرو‭: ‬‮«‬مرحبًا‭ ‬بك‭ ‬يا‭ ‬أبا‭ ‬قرة،‭ ‬إنك‭ ‬لكريم‭ ‬لا‭ ‬يطعن‭ ‬في‭ ‬حسبه،‭ ‬والسيد‭ ‬لا‭ ‬يرد‭ ‬عن‭ ‬حاجته‭ ‬والفحل‭ ‬لا‭ ‬يقرع‭ ‬أنفه،‭ ‬ولكن‭ ‬لهذه‭ ‬المرأة‭ ‬في‭ ‬نفسها‭ ‬ما‭ ‬ليس‭ ‬لغيرها،‭ ‬وأنا‭ ‬ذاكر‭ ‬لها‭ ‬وهي‭ ‬فاعلة‮»‬‭. ‬ثم‭ ‬دخل‭ ‬على‭ ‬ابنته،‭ ‬وقال‭ ‬لها‭: ‬‮«‬يا‭ ‬خنساء،‭ ‬أتاك‭ ‬فارس‭ ‬هوازن‭ ‬وسيد‭ ‬بني‭ ‬جشم،‭ ‬دريد‭ ‬بن‭ ‬الصمة‭ ‬يخطبك‭ ‬وهو‭ ‬من‭ ‬تعلمين‭...‬‮»‬،‭ ‬قالت‭ ‬وكان‭ ‬دريد‭ ‬يسمع‭ ‬حديثهما‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أبت‭: ‬أتراني‭ ‬تاركة‭ ‬بني‭ ‬عمي‭ ‬مثل‭ ‬عود‭ ‬الرماح،‭ ‬وناكحة‭ ‬شيخ‭ ‬بني‭ ‬جشم؟‮»‬‭ ‬فخرج‭ ‬إليه‭ ‬أبوها‭ ‬فقال‭: ‬‮«‬يا‭ ‬أبا‭ ‬قرة،‭ ‬قد‭ ‬امتنعت،‭ ‬ولعلها‭ ‬تجيب‭ ‬فيما‭ ‬بعد‮»‬‭. ‬فقال‭ ‬دريد‭: ‬‮«‬قد‭ ‬سمعت‭ ‬قولكما‮»‬،‭ ‬قالها‭ ‬وهو‭ ‬منصرف،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يزيد‭ ‬عليها‭. ‬وتشير‭ ‬الروايات‭ ‬أن‭ ‬أخاها‭ ‬معاوية‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يجاور‭ ‬صديقه‭ ‬دريد‭ ‬فحاول‭ ‬معها،‭ ‬ولكنها‭ ‬أصرت‭ ‬على‭ ‬موقفها‭ ‬من‭ ‬الرفض‭. ‬

لنراجع‭ ‬الموقف،‭ ‬نحن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬بيئة‭ ‬عربية‭ ‬جاهلية‭ ‬قبل‭ ‬الإسلام،‭ ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬للمرأة‭ ‬قيمة‭ ‬ليس‭ ‬لإبداء‭ ‬الرأي‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬الأحوال،‭ ‬ولكننا‭ ‬نشاهد‭ ‬هنا‭ ‬أن‭ ‬الأمر‭ ‬مختلف،‭ ‬إذ‭ ‬يلاحظ‭ ‬أن‭ ‬أباها‭ ‬وجد‭ ‬فيها‭ ‬رجاحة‭ ‬العقل،‭ ‬واتزان‭ ‬الفكر،‭ ‬فأبى‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬زواجها‭ ‬بعد‭ ‬موافقتها،‭ ‬فرفضت‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬تردد،‭ ‬فتزوجت‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬تريد‭.‬

بلاغتها‭ ‬وحسن‭ ‬منطوقها‭: ‬يقول‭ ‬ابن‭ ‬قتيبة‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬الشعر‭ ‬والشعراء‭: ‬‮«‬أما‭ ‬ما‭ ‬أدخلت‭ ‬الخنساء‭ ‬من‭ ‬صفات‭ ‬جديدة‭ ‬في‭ ‬المرثية،‭ ‬فمن‭ ‬الصعب‭ ‬أن‭ ‬نحدده،‭ ‬لأنه‭ ‬لم‭ ‬يصل‭ ‬إلينا‭ ‬شيء‭ ‬تام‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬قبل‭ ‬قصائدها،‭ ‬إلا‭ ‬ما‭ ‬ورد‭ ‬عن‭ ‬المهلهل،‭ ‬وهو‭ ‬في‭ ‬مجمله‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬طريقة‭ ‬الخنساء،‭ ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬لا‭ ‬شك‭ ‬فيه‭ ‬هو‭ ‬أن‭ ‬من‭ ‬تبعها‭ ‬من‭ ‬شعراء‭ ‬الرثاء،‭ ‬وشواعره‭ ‬اغترفوا‭ ‬جميعهم‭ ‬من‭ ‬بحرها‭ ‬الفياض‭ ‬بفيض‭ ‬العاطفة‭ ‬البشرية‮»‬‭.‬

قوة‭ ‬الشخصية‭: ‬وبعدما‭ ‬أسلمت‭ ‬كان‭ ‬لها‭ ‬موقف‭ ‬مع‭ ‬أم‭ ‬المؤمنين‭ ‬عائشة‭ ‬بنت‭ ‬الصديق‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنهما‭ ‬إذ‭ ‬تقول‭ ‬الروايات‭ ‬أن‭ ‬أم‭ ‬المؤمنين‭ ‬عائشة‭ ‬رضي‭ ‬الله‭ ‬عنها‭ ‬استقبلتها‭ ‬فقالت‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬رفق،‭ ‬وقد‭ ‬أحزنها‭ ‬أن‭ ‬تراها‭ ‬حليقة‭ ‬الرأس،‭ ‬مرتدية‭ ‬صدارًا‭ ‬من‭ ‬شعر‭ ‬تدبّ‭ ‬من‭ ‬الكبر‭ ‬على‭ ‬عصا‭: ‬أخناسُ‭!. ‬أجابت‭ ‬الشيخة‭ ‬الحزينة،‭ ‬وقد‭ ‬هزّها‭ ‬الدعاء‭: ‬لبيَّك‭ ‬يا‭ ‬أماه‭. ‬قالت‭ ‬‮«‬تستثير‭ ‬فيها‭ ‬إرادة‭ ‬التصبّر‭ ‬والتجمّل‭ ‬بالعزاء‮»‬‭: ‬أتلبسين‭ ‬الصّدار‭ ‬وقد‭ ‬نهى‭ ‬الإسلام‭ ‬عنه؟‭ ‬قُبض‭ ‬رسول‭ ‬الله‭ ‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلّم‭ ‬فما‭ ‬لبست‭ ‬هذا‭. ‬فخفضت‭ ‬رأسها،‭ ‬وهي‭ ‬تجيب‭ ‬في‭ ‬أسى‭ ‬وضعف‭: ‬لم‭ ‬أعلم‭ ‬بنهيه‭. ‬فكفَّت‭ ‬السيدة‭ ‬عن‭ ‬ملامتها،‭ ‬وأقبلت‭ ‬عليها‭ ‬تسألها‭ ‬مترفقة‭: ‬ما‭ ‬الذي‭ ‬بلغ‭ ‬بك‭ ‬ما‭ ‬أرى؟،‭ ‬أجابت‭ ‬وهي‭ ‬تشهق‭ ‬بدمعها‭: ‬موت‭ ‬أخي‭ ‬صخر‭. ‬ولمست‭ ‬الحزينة‭ ‬صدارها،‭ ‬ثم‭ ‬رفعت‭ ‬رأسها‭ ‬إلى‭ ‬أمّ‭ ‬المؤمنين‭ ‬قائلة‭: ‬واللهِ‭ ‬لا‭ ‬أخلف‭ ‬ظنّه،‭ ‬ولا‭ ‬أكذب‭ ‬قوله‭ ‬ما‭ ‬حييت‭. ‬فإن‭ ‬يكن‭ ‬الإسلام‭ ‬قد‭ ‬نهى‭ ‬عن‭ ‬مثل‭ ‬هذا؛‭ ‬فرحمة‭ ‬الله‭ ‬واسعة‭.‬

وتستمر‭ ‬كتب‭ ‬التاريخ‭ ‬تروي‭ ‬حكايتها‭ ‬حول‭ ‬عودتها‭ ‬لشيء‭ ‬غير‭ ‬قليل‭ ‬من‭ ‬الصواب،‭ ‬مجافاة‭ ‬وكفًا‭ ‬عن‭ ‬الحزن،‭ ‬استنبطها‭ ‬من‭ ‬قراءاته‭ ‬إسماعيل‭ ‬القاضي،‭ ‬يذكر‭ ‬ذلك‭ ‬قائلاً‭: ‬أمّا‭ ‬كيف‭ ‬قد‭ ‬اصطدمت‭ ‬بالحقيقة،‭ ‬فعرفتها،‭ ‬ثم‭ ‬رجعت‭ ‬إلى‭ ‬الصواب؛‭ ‬فكان‭ ‬ذلك‭ ‬نتيجة‭ ‬حادثة‭ ‬بسيطة،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬سببًا‭ ‬لاتضاح‭ ‬الأمر‭ ‬وانكشاف‭ ‬الضلال‭. ‬وتتلخص‭ ‬في‭ ‬أنها‭ ‬خرجت‭ ‬يومًا‭ ‬فإذا‭ ‬امرأة‭ ‬تنوح،‭ ‬فظنت‭ ‬أن‭ ‬بها‭ ‬مثل‭ ‬ما‭ ‬بها،‭ ‬فمضت‭ ‬تساعدها‭ ‬على‭ ‬البكاء‭ ‬حتى‭ ‬انتهى‭. ‬فسألتها‭ ‬على‭ ‬أي‭ ‬شيء‭ ‬تنوحين؟‭ ‬فقالت‭: ‬على‭ ‬جرو‭ ‬كلب‭ ‬لي‭ ‬هلك‭. ‬فكان‭ ‬هذا‭ ‬الجواب‭ ‬مفتاح‭ ‬الفرج‭ ‬وسبب‭ ‬ذلك‭ ‬الانتباه؛‭ ‬إذ‭ ‬رجعت‭ ‬به‭ ‬الخنساء‭ ‬إلى‭ ‬نفسها،‭ ‬وجمعت‭ ‬تفكيرها‭ ‬ثم‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬لا‭ ‬بكيتُ‭ ‬بعد‭ ‬بكائي‭ ‬على‭ ‬جروها‭ ‬أبدًا‮»‬‭. ‬وهكذا‭ ‬فإنها‭ ‬تركت‭ ‬البكاء،‭ ‬حين‭ ‬وجدت‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬قيمة‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الواقع‭.‬

فقد‭ ‬ثبتت‭ ‬إلى‭ ‬رشدها‭ ‬أخيرًا،‭ ‬كيف‭ ‬لا،‭ ‬وقد‭ ‬وجدت‭ ‬أنها‭ ‬إنْ‭ ‬بكت‭ ‬صخرها‭ ‬لحبها‭ ‬إياه‭ ‬وتقديرها‭ ‬له؛‭ ‬فإن‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬قد‭ ‬بكت‭ ‬جرو‭ ‬كلب‭ ‬أحبته،‭ ‬وقد‭ ‬هلك،‭ ‬وإذن،‭ ‬فأي‭ ‬قيمة‭ ‬للبكاء،‭ ‬وما‭ ‬لها‭ ‬تبكي‭ ‬وتؤذي‭ ‬نفسها،‭ ‬إن‭ ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬قدر‭ ‬البكاء؟

شجاعتها‭ ‬وتضحيتها‭: ‬حينما‭ ‬لاحت‭ ‬رايات‭ ‬القادسية،‭ ‬وبدأ‭ ‬جيوش‭ ‬المسلمين‭ ‬تتحرك‭ ‬نحو‭ ‬فارس‭ ‬لتدمير‭ ‬المجوسية‭ ‬والكفر،‭ ‬جمعت‭ ‬أولادها‭ ‬الأربع‭ ‬وقالت‭ ‬لهم‭: ‬‮«‬يا‭ ‬بني،‭ ‬إنكم‭ ‬أسلمتم‭ ‬وهاجرتم‭ ‬مختارين،‭ ‬والله‭ ‬الذي‭ ‬لا‭ ‬إله‭ ‬غيره‭ ‬إنكم‭ ‬لبنو‭ ‬رجل‭ ‬واحد،‭ ‬كما‭ ‬أنكم‭ ‬بنو‭ ‬امرأة‭ ‬واحدة،‭ ‬ما‭ ‬خنت‭ ‬أباكم‭ ‬ولا‭ ‬فضحت‭ ‬خالكم،‭ ‬ولا‭ ‬هجنت‭ ‬حسبكم‭ ‬ولا‭ ‬غيرت‭ ‬نسبكم‭. ‬وقد‭ ‬تعلمون‭ ‬ما‭ ‬أعد‭ ‬الله‭ ‬للمسلمين‭ ‬من‭ ‬الثواب‭ ‬الجزيل‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬الكافرين‭. ‬واعلموا‭ ‬أن‭ ‬الدار‭ ‬الباقية‭ ‬خير‭ ‬من‭ ‬الدار‭ ‬الفانية‭ ‬يقول‭ ‬الله‭ ‬عزَّ‭ ‬وجل‭: (‬يَا‭ ‬أيُّهَا‭ ‬الَّذِينَ‭ ‬آمَنُوا‭ ‬اصْبِرُوا‭ ‬وَصَابِرُوا‭ ‬وَرَابِطُوا‭ ‬وَاتَّقُوا‭ ‬اللَّهَ‭ ‬لَعَلَّكُمْ‭ ‬تُفْلِحُونَ‭). ‬فإذا‭ ‬أصبحتم‭ ‬غدًا‭ ‬إن‭ ‬شاء‭ ‬الله‭ ‬سالمين،‭ ‬فاغدوا‭ ‬إلى‭ ‬قتال‭ ‬عدوكم‭ ‬مستبصرين،‭ ‬وبالله‭ ‬على‭ ‬أعدائه‭ ‬مستنصرين‭. ‬وإذا‭ ‬رأيتم‭ ‬الحرب‭ ‬قد‭ ‬شمرت‭ ‬عن‭ ‬ساقها‭ ‬واضطرمت‭ ‬لظى‭ ‬على‭ ‬سياقها‭ ‬وجللت‭ ‬نارًا‭ ‬على‭ ‬أوراقه،‭ ‬فتيمموا‭ ‬وطيسه،‭ ‬وجالدوا‭ ‬رئيسها‭ ‬عند‭ ‬احتدام‭ ‬خميسها‭ ‬تظفروا‭ ‬بالغنم‭ ‬والكرامة‭ ‬في‭ ‬دار‭ ‬الخلد‭ ‬والمقامة‭.‬

فلما‭ ‬وصل‭ ‬إلى‭ ‬مسامعها‭ ‬نبأ‭ ‬استشهادهم‭ ‬جميعًا‭ ‬قالت‭: ‬‮«‬الحمد‭ ‬لله‭ ‬الذي‭ ‬شرفني‭ ‬بقتلهم‭ ‬وأرجو‭ ‬من‭ ‬ربي‭ ‬أن‭ ‬يجمعني‭ ‬بهم‭ ‬في‭ ‬مستقر‭ ‬رحمته‮»‬‭.‬

صورة‭ ‬من‭ ‬صور‭ ‬النساء‭ ‬القائدات‭ ‬اللاتي‭ ‬كانت‭ ‬ذات‭ ‬أثر‭ ‬مهم‭ ‬في‭ ‬تاريخ‭ ‬القيادات‭ ‬النسائية‭ ‬الإسلامية،‭ ‬ونحن‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬أمس‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الاستشهاد‭ ‬بمواقفها‭ ‬وحياتها،‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬ملأت‭ ‬صفحات‭ ‬الشعر‭ ‬بكاءً‭ ‬ورثاءً‭ ‬على‭ ‬أخويها‭ ‬بعد‭ ‬ما‭ ‬ماتا،‭ ‬ولكنها‭ ‬اكتفت‭ ‬ببضع‭ ‬كلمات‭ ‬عندما‭ ‬استشهد‭ ‬أولادها،‭ ‬والسبب‭ ‬أن‭ ‬نظرتها‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬وفلسفة‭ ‬الموت‭ ‬اختلفت‭ ‬في‭ ‬عقلها‭ ‬بعدما‭ ‬أسلمت،‭ ‬فالإسلام‭ ‬ينظر‭ ‬إلى‭ ‬الموت‭ ‬بطريقة‭ ‬تختلف‭ ‬تمامًا‭ ‬عن‭ ‬بقية‭ ‬الشرائع‭ ‬والنظريات‭ ‬والأفكار‭ ‬المادية،‭ ‬إنها‭ ‬شريعة‭ ‬ودين‭ ‬وفكر‭ ‬جديد‭. ‬

Zkhunji@hotmail‭.‬com

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا