كتب: د. عقيل الموسوي
في أول معرض شخصي لها في فضاء مشق، بقرية أرجان، يوم الأربعاء 28 فبراير 2024م، وتحت عنوان دهاليز هوية، رمت الفنانة أماني الطواش بكثير مما في جعبتها الفنية في مشروع انغمست فيه سنين، منذ صدور روايتها بنات جلنار، عن دار سؤال، لبنان، 2023م، وهي سيرة جلنار التي وفدت مع زوجها قبل قرن من الزمان، من فارس إلى البحرين، هربًا من القحط والجوع. تحكي الرواية سير بنات جلنار في أربعة أجيال، شهدوا ما شهدوا من تغيرات في البلاد، وكان الانتماء الأصلي إلى فارس يضمحل في أنفسهن، يذوب في بوتقة المنامة التي تصهر في أحيائها الشعبية ومدارسها الحكومية كثير من الهويات المختلفة.
أماني الطواش فنانة اشتهرت بتصميمها أغلفة كتب لافتة لكتّاب مهمين، وإخراج أفلام وثائقية، منها «لا أحد ينام في المنامة»، الفلم الذي نال 170 ألف مشاهدة على اليوتيوب، إلى جانب مشاركتها في معارض الفن التشكيلي. أستاذها الفنان حسين ميلاد حضر افتتاح المعرض، وقال فخورًا بها: درستها في الجامعة الأهلية قبل 14 عام، كانت تملك حسًا فنيًا خاصًا، وشاركت معنا في معارض نادي راس رمان، والآن هي روائية، روايتها أبكتني، وهي كذلك فنانة معروفة لجمهور الناس الصحفي محمد فاضل قال: «أنها فنانة واعدة»، ثم ابتسم، «وسوف تخلف الأسماء الكبرى في البحرين». صديق الفنانة مجيد فلاح قال: «أشعر أن في نفس أماني أمور عميقة تتطور، إبداع جميل يتسرب منها بعذوبة».
استخدمت الفنانة أماني الخيش كمادة أساسية في معرضها، وهو القماش الخشن للأكياس التي يخزن فيها الرز أو البصل. كتبت الفنانة في ديباجة المعرض أن الخيش كان إحدى الطرق التي ابتكرها فقراء لا يمتلكون تأشيرات أو جنسيات في هجراتهم من بلد إلى آخر لتغيير مصير الفقر والبؤس. استخدمت الفنانة كذلك الرمّانة كثيمة فنية، أحيانًا تكتفي بالرمز إليها في اللوحات باللون الأحمر الفاقع، وتمثل الرمانة في الرواية، حنين جلنار إلى فارس، وبساتين الرمان وأبيها الذي سماها جلنار، أي زهرة الرمان.
يقول الفنان علي البزاز، مدير فضاء مشق للفنون، «استضفت هذا المعرض لأن موضوع الهويات شائك ومتعدد الوجوه، ومازال هاجسًا يتحرك بيننا». في الدهليز الأول من دهاليز المعرض الخمسة، يدخل الزائر في ممر ضيق، أحد جدرانه من الخيش، والآخر يعرض صور فوتوغرافية بالأسود والأبيض لفتاة تتخفى داخل كيس من خيش على ساحل انحسر عنه البحر، وهو المشهد الذي افتتحت به الفنانة روايتها. صور وصفها الصحفي محمد فاضل، «فيها حساسية فنية عالية». في الدهليز الثاني، وبين جدارين من الخيش تتدلى من السقف صورا قديمة تعرض وثائق وجوازات سفر لمقيمين في البحرين. الصور متدلية بلا ترتيب، ولا يمكن تجنبها، ولعلها ترمز إلى متاهة الهوية بالنسبة للمقيمين في البلاد، لما كان عليهم أن يحددوا انتماءهم، ويتقدموا بطلب الحصول على الجنسية. في الدهليز الثالث، لوحات تشكيلية، أكريليك على خيش، معلقة على جدار من الخيش. في واحدة منها وجه امرأة بلا ملامح، وفي أخرى ملامح امرأة معجونة بالخوف، وهناك مجموعة لوحات تعرض قوارب طافية على البحر مع بحارة يجدفون بالعصي، وهو مشهد وصفته الفنانة بدقة عالية في روايتها، لما يكون التهريب مسؤولية أصحاب القوارب الصغيرة. الفرنسية Marie-Laure Charrier ماري – لور شيرييه قالت: «أحببت الأعمال، إنها تعرض الكثير من المشاعر والأفكار، ولأن الفنانة امرأة أشعر أن الرمانة ترمز إلى الخصوبة. في الفلم استطعت أن أتخيل معاناة البشر الذين تعرضهم الفنانة، وفي اللوحات تخيلت نفسي واحدة من أولئك النساء، والتي توحي ملامحهن بازدواج في الهوية».
في الدهليز الرابع، أبدعت الفنانة في خلق مساحة صغيرة من أربعة جدران من الخيش تتدلى من السقف، أسمتها قفص الهوية، وفي الداخل يرى الزائر المصطلحات التي يمكن لها أن تحبس الانسان داخل هويته، كلمات مثل: نحن، هم، القبيلة، الجماعة، المذهب، الطائفة، الدين. إذا ما اتفقنا أن الفن هو العمل الذي يملك القدرة على التأثير في المتلقي، فيمكننا عندها أن نفهم كيف تأثر الفنان محمد الصفار من فكرة قفص الهوية، كان للعمل وقع بالغ في نفسه، طلب ألوانًا، ليس لكتابة كلمات كالمخطوطة على الخيش، إنما ليطبع بصمات أصابعه، بصفتها ما يحبس الإنسان داخل هويته، ربما. وأخذ الفنان يلطخ باللون الأبيض قماش الخيش ووجهه، وبعدها لطخ وجه كاتب المقال في عرض مسرحي احترافي لفت انتباه الزوّار.
في الدهليز الخامس والأخير، وفي غرفة مظلمة، عرضت الفنانة اسكتشات في فيلم قصير من إعدادها، وهو فيلم عرضته في تدشين الرواية في 7 أكتوبر 2023م، في مساحة الرواق للفنون. يختصر الفيلم الهجرة من فارس إلى البحرين، كما تعيشها بطلة الرواية جلنار التي ترقص على موسيقى فارسية تعذبها. «الفيلم هو أكثر الدهاليز تأثيرًا في المعرض»، قال الفنان حسين ميلاد، وأضاف فيما يشبه النصيحة: «آن وقد صارت الفنانة أماني معروفة لدى الجمهور، ينبغي أن تكون أكثر وعيًا، وتحتاج إلى التأني”، السيدة بيان كانو الخبيرة في الفن، وصاحبة مساحة الرواق للفنون، قالت الشيء نفسه، بلهجتها العراقية المحببة، «يراد لأماني أن تهدأ». لم تتأثر الفنانة عندما واجهتها بنقد الأصدقاء، وقالت في ثقة، «الفن يلزمه بعض الجنون، لأني لم أنتج شيئًا عندما كنت هادئة».
أشاد الفنان علي البزاز بنجاح الفنانة أماني في تقديم معرض من عناصر فنية مختلفة، يقوم بها في العادة مجموعة من الفنانين، لكنها انجزت كل شيء بنفسها، وشمل ذلك التصوير الفوتوغرافي، وجمع الوثائق القديمة، ورسم اللوحات، وفن التركيب، انستاليشن، وإخراج الفلم. حضر المعرض جمهور غفير من المهتمين بالرواية والفن، وسألنا بعضهم عن رأيهم في الخيش كثيمة فنية، قالت الشاعرة فضيلة الموسوي: «استثمرت الفنانة خامة الخيش بجعلها المادة الرئيسة لتعبّر عن تعاطفها الإنساني غير المسبوق مع العجم، تماما كما عبّرت عنهم بحروفها في الرواية». الاقتصادية هناء الجشي قالت: «رأيت في الخيش ما ورد في رواية بنات جلنار من شقاء الهجرة من فارس، ومعضلة الانتماء، وهو إشادة بهم وليس إساءة». الفنان علي البزاز قال: «في استخدام الخيش جرأة تحسب للفنانة، وذكاء لما يحمله الخيش من دلالات في المعرض ككل». الكاتب محمد الأحمدي أكد الشيء نفسه: «نبغي أن نفخر بالخيش كرمز لقصص بشر كافحوا ونجحوا، وأصبحوا جزءًا من نسيج البلاد. الصحفي محمد الغسرة قال: «إنه تاريخ جماعة، وهو لا يعيب أبدًا». روان صادق أخذتها الحماسة وهي تجيب: «هل تسألني عن العجم؟ إنهم أهلنا، قلما تخلو عائلة بحرينية من مصاهرة مع العجم». الدكتورة شهلاء عبدالغفار ضحكت عندما سألناها، وقالت: «أرجعني المعرض إلى عالم طفولتي القديم، وذكرني بقصص أهل لي من العجم»، وتأثرت وهي تحكي بعضًا من تلك القصص بينما نحتسي شاي أسام المنعش الذي أعدته لطيفة المعشر أنفال فكري، صاحبة مقهى Tips of Tea . الأستاذ علي كانو المعروف بهدوئه الرزين وكلامه القليل، كان يهم ليخرج من دار مشق لما استوقفته ما رأيك في المعرض؟ أفرج عن ابتسامة عريضة، وأرسل قبلة في الهواء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك