العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٨ - الاثنين ٢٥ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٣ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

اليسر.. إرادة إلهية!

بقلم: عبدالرحمن علي البنفلاح

الأحد ١٧ مارس ٢٠٢٤ - 02:00

المكلفون‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬على‭ ‬مرتبتين،‭ ‬الأولى‭: ‬مرتبة‭ ‬العزائم،‭ ‬وهي‭ ‬حين‭ ‬يكون‭ ‬المكلف‭ ‬صحيح‭ ‬البدن،‭ ‬حاضرا‭ ‬غير‭ ‬مسافر،‭ ‬قادرا‭ ‬غير‭ ‬عاجز،‭ ‬وفي‭ ‬هذه‭ ‬الحالة‭ ‬عليه‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬العبادة‭ ‬بتمام‭ ‬شروطها،‭ ‬وكامل‭ ‬هيئتها،‭ ‬وأما‭ ‬المرتبة‭ ‬الثانية‭: ‬فهي‭ ‬حين‭ ‬تتغير‭ ‬أحوال‭ ‬المسلم،‭ ‬فيكون‭ ‬عاجزًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬قادرًا،‭ ‬ومريضًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬صحيحًا،‭ ‬وواجدًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬معدمًا،‭ ‬أو‭ ‬مسافرًا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كان‭ ‬مقيمًا‭.‬

إذًا،‭ ‬فالتكاليف‭ ‬في‭ ‬عزائمها‭ ‬ورخصها‭ ‬مرتبطة‭ ‬بأحوال‭ ‬العباد،‭ ‬وحيثما‭ ‬تكون‭ ‬هناك‭ ‬مشقة‭ ‬يكون‭ ‬التخفيف،‭ ‬وتكون‭ ‬الرخصة،‭ ‬ونجد‭ ‬ذلك‭ ‬واضحًا‭ ‬في‭ ‬قوله‭ ‬تعالى‭: (‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬الذي‭ ‬أنزل‭ ‬فيه‭ ‬القرآن‭ ‬هدى‭ ‬للناس‭ ‬وبينات‭ ‬من‭ ‬الهدى‭ ‬والفرقان‭ ‬فمن‭ ‬شهد‭ ‬منكم‭ ‬الشهر‭ ‬فليصمه‭ ‬ومن‭ ‬كان‭ ‬مريضًا‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬سفر‭ ‬فعدة‭ ‬من‭ ‬أيام‭ ‬أخر‭ ‬يريد‭ ‬الله‭ ‬بكم‭ ‬اليسر‭ ‬ولا‭ ‬يريد‭ ‬بكم‭ ‬العسر‭ ‬ولتكملوا‭ ‬العدة‭ ‬ولتكبروا‭ ‬الله‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هداكم‭ ‬ولعلكم‭ ‬تشكرون‭) ‬سورة‭ ‬البقرة‭ / ‬185‭.‬

اليسر‭ ‬إذًا‭ ‬إرادة‭ ‬إلهية‭ ‬على‭ ‬المسلم‭ ‬ألا‭ ‬يدعها‭ ‬أو‭ ‬يعطلها،‭ ‬أو‭ ‬يردها‭ ‬على‭ ‬واهبها‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى،‭ ‬فمتى‭ ‬كانت‭ ‬هناك‭ ‬ضرورة‭ ‬لأخذها،‭ ‬أخذها‭ ‬المسلم،‭ ‬وشكر‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عليها،‭ ‬وعند‭ ‬انتفاء‭ ‬الضرورة،‭ ‬فعلى‭ ‬المسلم‭ ‬أن‭ ‬يؤدي‭ ‬العبادات‭ ‬بشروطها‭ ‬كاملة‭. ‬

ولقد‭ ‬أكد‭ ‬ذلك‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬في‭ ‬آيات‭ ‬أخرى‭ ‬ترفع‭ ‬الحرج‭ ‬عن‭ ‬المسلم،‭ ‬وتحضه‭ ‬على‭ ‬الأخذ‭ ‬بالرخص‭ ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬يحب‭ ‬من‭ ‬عباده‭ ‬أن‭ ‬يأخذوا‭ ‬بالرخص‭ ‬من‭ ‬مثل‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭: (‬ليس‭ ‬على‭ ‬الأعمى‭ ‬حرج‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬الأعرج‭ ‬حرج‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬المريض‭ ‬حرج‭..) (‬سورة‭ ‬النور‭ / ‬61‭) ‬وأيضًا‭ ‬مثل‭ ‬قوله‭ ‬سبحانه‭: (‬ليس‭ ‬على‭ ‬الأعرج‭ ‬حرج‭ ‬ولا‭ ‬على‭ ‬المريض‭ ‬حرج‭ ‬ومن‭ ‬يطع‭ ‬الله‭ ‬ورسوله‭ ‬يدخله‭ ‬جنات‭ ‬تجري‭ ‬من‭ ‬تحتها‭ ‬الأنهار‭ ‬ومن‭ ‬يتول‭ ‬يعذبه‭ ‬عذابًا‭ ‬أليمًا‭) ‬سورة‭ ‬الفتح‭ / ‬17‭. ‬إنه‭ ‬عطاء‭ ‬عظيم‭ ‬من‭ ‬رب‭ ‬كريم‭ ‬حين‭ ‬يرتب‭ ‬سبحانه‭ ‬على‭ ‬الآخذ‭ ‬بالرخص‭ ‬جزاءً‭ ‬عظيمًا‭ ‬جنات‭ ‬تجري‭ ‬من‭ ‬تحتها‭ ‬الأنهار،‭ ‬ليس‭ ‬هذا‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬يحذر‭ ‬من‭ ‬يعطل‭ ‬هذه‭ ‬الرخص‭ ‬ولا‭ ‬يأخذ‭ ‬بها‭ ‬بالعذاب‭ ‬العظيم،‭ ‬فهل‭ ‬رأيتم‭ ‬إلهًا‭ ‬رحيمًا،‭ ‬إلهًا‭ ‬كريمًا‭ ‬كهذا‭ ‬الإله‭ ‬سبحانه،‭ ‬إنه‭ ‬سبحانه‭ ‬يتلمس‭ ‬الأعذار‭ ‬لعباده‭ ‬ليخفف‭ ‬عنهم‭ ‬التكاليف،‭ ‬وييسر‭ ‬لهم‭ ‬أمور‭ ‬دينهم،‭ ‬فهو‭ ‬جل‭ ‬جلاله،‭ ‬وتقدست‭ ‬أسماؤه‭ ‬وصفاته‭ ‬لا‭ ‬يعامل‭ ‬المريض‭ ‬مثل‭ ‬الصحيح،‭ ‬ولا‭ ‬العاجز‭ ‬مثل‭ ‬القادر،‭ ‬ولا‭ ‬الواجد‭ ‬مثل‭ ‬المعدم‭.. ‬إنه‭ ‬يعامل‭ ‬عباده‭ ‬بحسب‭ ‬أحوالهم‭ ‬المتغيرة،‭ ‬ولقد‭ ‬مَنَّ‭ ‬سبحانه‭ ‬على‭ ‬رسوله‭ (‬صلى‭ ‬الله‭ ‬عليه‭ ‬وسلم‭)‬،‭ ‬فقال‭ ‬سبحانه‭: (‬ألم‭ ‬نشرح‭ ‬لك‭ ‬صدرك‭ (‬1‭) ‬ووضعنا‭ ‬عنك‭ ‬وزرك‭ (‬2‭) ‬الذي‭ ‬أنقض‭ ‬ظهرك‭ (‬3‭) ‬ورفعنا‭ ‬لك‭ ‬ذكرك‭ (‬4‭) ‬فإن‭ ‬مع‭ ‬العسر‭ ‬يسرا‭ (‬5‭) ‬إن‭ ‬مع‭ ‬العسر‭ ‬يسرا‭ (‬6‭) ‬فإذا‭ ‬فرغت‭ ‬فانصب‭ (‬7‭) ‬وإلى‭ ‬ربك‭ ‬فارغب‭ (‬8‭)) ‬سورة‭ ‬الشرح‭. ‬

وقال‭ ‬الًعلماء‭: ‬إن‭ ‬العسر‭ ‬في‭ ‬المرتين،‭ ‬عسر‭ ‬واحد،‭ ‬وأما‭ ‬اليسر،‭ ‬فهو‭ ‬يسران‭ ‬لأن‭ ‬الكلمة‭ ‬حين‭ ‬تنكر‭ ‬تفيد‭ ‬التكثير،‭ ‬وعلى‭ ‬هذا‭ ‬قال‭ ‬العلماء‭: ‬لن‭ ‬يَغلِبَ‭ ‬عسرٌ‭ ‬يسرين‭.!. ‬

إن‭ ‬اليسر‭ ‬كما‭ ‬ذكرته‭ ‬الآية‭ (‬185‭) ‬من‭ ‬سورة‭ ‬البقرة‭ ‬إرادة‭ ‬إلهية،‭ ‬وأنه‭ ‬سبحانه‭ ‬وتعالى‭ ‬نفى‭ ‬عن‭ ‬ذاته‭ ‬سبحانه‭ ‬إرادة‭ ‬العسر‭.‬

إذًا،‭ ‬فاليسر‭ ‬يلقى‭ ‬تأييدًا،‭ ‬ودعمًا‭ ‬لوجستيًا‭ ‬‭ ‬إذًا‭ ‬صح‭ ‬التعبير‭ ‬‭ ‬من‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬بينما‭ ‬العسر‭ ‬لا‭ ‬يلقى‭ ‬ذلك‭ ‬الدعم‭ ‬أو‭ ‬التأييد‭.. ‬لماذا‭ ‬لأن‭ ‬اليسر‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬إرادة‭ ‬إلهية،‭ ‬وليس‭ ‬كذلك‭ ‬العسر‭!.‬

والآية‭ ‬التي‭ ‬استشهدنا‭ ‬بها‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬اليسر‭ ‬إرادة‭ ‬إلهية‭ ‬من‭ ‬سورة‭ ‬البقرة‭ ‬إنما‭ ‬جاءت‭ ‬فًي‭ ‬معرض‭ ‬تغير‭ ‬أحوال‭ ‬المسلم،‭ ‬ورغم‭ ‬أن‭ ‬صيام‭ ‬شهر‭ ‬رمضان‭ ‬عزيمة،‭ ‬وأن‭ ‬من‭ ‬أفطر‭ ‬فيه‭ ‬يومًا‭ ‬بغير‭ ‬عذر‭ ‬شرعي‭ ‬لا‭ ‬يكفيه‭ ‬صيام‭ ‬الدهر‭ ‬كله‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬رحمة‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬بعباده،‭ ‬ورفقه‭ ‬بهم‭ ‬سبحانه‭ ‬جعلت‭ ‬من‭ ‬التيسير‭ ‬عليهم‭ ‬في‭ ‬رمضان‭ ‬إرادة‭ ‬إلهية‭ ‬يحب‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬من‭ ‬يأتيها‭ ‬ولا‭ ‬يردها‭ ‬على‭ ‬المعطي‭ ‬الأعظم‭ ‬سبحانه،‭ ‬وتصبح‭ ‬كما‭ ‬أن‭ ‬الأخذ‭ ‬بالعزائم‭ ‬طاعة‭ ‬يثاب‭ ‬فاعلها‭ ‬ويأثم‭ ‬تاركها،‭ ‬فكذلك‭ ‬من‭ ‬يأتي‭ ‬بالرخصة‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬الثواب‭ ‬فوق‭ ‬تيسير‭ ‬التكاليف‭ ‬عليه،‭ ‬ورحم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أمير‭ ‬الشعراء‭ ‬أحمد‭ ‬شوقي‭ ‬حين‭ ‬أجمل‭ ‬سمات‭ ‬الدول‭ ‬الإسلامية‭ ‬في‭ ‬بيت‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬الشعر‭ ‬في‭ ‬قوله‭:‬

الدين‭ ‬يسر‭ ‬والخلافة‭ ‬بيعة‭ ‬والأمر‭ ‬شورى‭ ‬والحقوق‭ ‬قضاء

وانظروا‭ ‬كيف‭ ‬جعل‭ ‬شوقي‭ ‬رحمه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬أس‭ ‬الدولة‭ ‬في‭ ‬الإسلام‭ ‬اليسر‭ ‬حين‭ ‬قال‭: ‬الدين‭ ‬يسر‭ ‬والخلافة‭ ‬بيعة،‭ ‬انظروا‭ ‬إليه‭ ‬بثاقب‭ ‬فكره،‭ ‬وعبقريته‭ ‬كيف‭ ‬ربط‭ ‬بين‭ ‬الدين‭ ‬والخلافة‭ ‬لينفي‭ ‬عن‭ ‬الإسلام‭ ‬ما‭ ‬يزعمه‭ ‬الزاعمون،‭ ‬ويروج‭ ‬له‭ ‬العَلْمانيون‭ ‬بأن‭ ‬الإسلام‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالسياسة،‭ ‬والإسلام‭ ‬إنما‭ ‬جاء‭ ‬منهاجًا‭ ‬للحياة،‭ ‬ودعوة‭ ‬واضحة‭ ‬المعالم‭ ‬إلى‭ ‬صراط‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬المستقيم،‭ ‬ففي‭ ‬الإسلام‭ ‬عند‭ ‬الضرورات‭ ‬تباح‭ ‬المحظورات،‭ ‬والمشقة‭ ‬توجب‭ ‬التيسير،‭ ‬وكلما‭ ‬ضاق‭ ‬الأمر‭ ‬اتسع‭.. ‬قواعد‭ ‬فقهية‭ ‬ذهبية‭ ‬يستعين‭ ‬بها‭ ‬المسلم‭ ‬على‭ ‬الوفاء‭ ‬بما‭ ‬أوجبه‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عليه‭ ‬من‭ ‬تكاليف‭ ‬شرعية‭ ‬قد‭ ‬يواجه‭ ‬المسلم‭ ‬في‭ ‬أدائها‭ ‬عندما‭ ‬تتغير‭ ‬أحواله،‭ ‬وأحوال‭ ‬الإنسان‭ ‬عرضة‭ ‬للتبدل‭ ‬والتغير‭. ‬

إذًا،‭ ‬فمن‭ ‬اليسر‭ ‬ألا‭ ‬يدع‭ ‬المسلم‭ ‬نعمة‭ ‬أنعم‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عليه‭ ‬بها،‭ ‬وأن‭ ‬يتقبلها‭ ‬ويثني‭ ‬على‭ ‬الله‭ ‬تعالى‭ ‬عليها‭ ‬عملًا‭ ‬بقوله‭ ‬تعالى‭: (‬ولعلكم‭ ‬تشكرون‭) ‬التي‭ ‬ختمت‭ ‬بها‭ ‬آية‭ ‬اليسر‭ ‬في‭ ‬الآية‭ ‬الكريمة‭ (‬185‭) ‬من‭ ‬سورة‭ ‬البقرة‭ ‬التي‭ ‬ختمت‭ ‬بالشكر‭ ‬لله‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭. ‬

هذا‭ ‬والحمد‭ ‬لله‭ ‬رب‭ ‬العالمين‭ ‬على‭ ‬نعمه‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تعد‭ ‬ولا‭ ‬تحصى‭.‬

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا