ما إن تدخُلُ هذا المعرض حتى تجد نفسكَ أمام مجموعةٍ من المرايا التي تفضح انعكاس حقائق النفوس البشريَّة، ونوافذ تُطل على عوالم خفيَّة لا تراها إلا روح تمتاز بعينٍ مجهريَّة، وكأن الغِطاء أُزيجً عن قُمقم سِحري ضخمٍ كان يحبس في أعماقه آلاف المخلوقات التي تتلذذ بأكل بعضها بعضًا، وترتدي أقنعة تُخفي حقيقتها، وتستعير أعضاءً من أجساد ومن أرواحٍ أُخرى لعلَّها تعوّض ما تُعانيه من نقصٍ حقيقي وآخر وهمي، لتنطلق تلكَ المخلوقات مُستكملةً حكاياتها على جُدران معرض «مركز المدينة» للفنان العراقي «سِنان حسين» في فضاء «فولك» للفنون، ليكون مسرحًا نابضًا بصراعاتها الدراميَّة المرسومة من 20 فبراير إلى 30 مارس 2024م.
بمزيجٍ من الثقافة الشموليَّة المُتراكمة، ورهافة المشاعر تِجاه الأحداث المُعاشَة، والحِس الفني العميق، والموهبة الاستثنائيَّة التي تجلَّت مُنذ مرحلةٍ مُبكّرة، والخِبرة الإنسانيَّة الناجِمة عن مُعايشة فيضٍ من أحداث الواقِع في بلدٍ مرَّ بظروف لا بُد أن تطبع بصماتها وشمًا على الروح، والاغتراف من تجربة الترحال بين بضع دولٍ حول العالم بكل ما تضمَّنتهُ من محطَّات خوفٍ وظفرٍ وبهجةٍ ويأسٍ وأمل وترقُّبٍ للمُستقبَل، بنى الفنان التشكيلي سِنان حسين مدينته المُلوَّنة ونسَج عوالِمها الغرائبيَّة وأثثها بالدَّهشة القادرة على خطف أنفاس المُتلقي واختطاف بصره ومن ثم مشاعره وعقله لتتكشَّف أمام بصيرتِه حُجُب ما تستميت النفس البشريَّة لإخفائه في الواقع المُعاصِر، وتتجلَّى مساحاتٍ شاسعةٍ من حجم الخراب الذي يتسبب به الإنسان بحق ذاته، وبحق المخلوقات الأُخرى التي تُشاركه العيش على هذا الكوكب، وبحق مُختلَف تفاصيل الطبيعة البريئة.
في العوالم العميقة المُتداخِلة للوحات معرض «مركز المدينة» يسمعُ المُتلقي ببصره استغاثات الأرواح المُعذبة، ويتعرَّف إلى شخصيَّاتٍ عجائبيَّة ابتكرها الفنَّان، بعضُها يكبر ويشيخ على مرّ سنين التجربة الفنيَّة فيستبدله الفنان بشخصيَّة أُخرى تولد من رحم المُخيّلة لتحتل دور البطولة على مسرح الأحداث الدائرة في اللوحات، مثلما وُلِدت شخصيَّة «كاكي» نتيجة تأثره بمرأى حيوانات إحدى الغابات الأستراليَّة عبرَ مشاهِد أخبار الحرائق المُفترِسة فيها، وكان حيوان الكوالا يُجاهد مع رفاقه الأبرياء للهرب على أمل إنقاذ حياته.
«كاكي» الذي صار مخلوقًا يجمع بين شكل وصفات الكوالا والباندا بما يتعرضان له من تهديدات لوجودهما على كوكب الأرض؛ تقمَّصَ جانبًا من أحزان الإنسان المُعاصِر ومُعاناته أيضًا، فهو مُضطرٌ إلى ارتداء قناعٍ يبدو فيه أقرب إلى المُهرّج كي يتمكّن من العيش والتنفُّس، يُحاول رسم ابتسامةٍ على وجهه لكن عينيه تفضح أحزانهما الدموع، وتتدفق السوائل من بين شفتيه مؤكدة أنه غير قادر على التحكم حتى بابتسامته التي قد لا تكون ناجمة عن حُرية قراره الشخصي، في لوحةٍ يُحذّر البشر من آلة التصوير المغروسة في عُنُقه إشارة إلى حياة الإنسان المكشوفة وخصوصيته المُنتهكة في هذا الزمن تحت وطأة انتشار آلات التصوير في كُل مكان بدءًا من عدسة هاتفه المحمول الذي يتتبع مكان وجوده أينما ذهب وصولاً إلى آلات التصوير المُنتشرة في الشوارع.
لـ«كاكي» طفلٌ يُدعى «بوكي»، ورث عن والده مُعاناته فوق ضعف طفولته الذي لا يُمكنه من حُرية الدفاع عن نفسه تجاه مُختلف قوى الاستلاب التي تُحاول تدجينه واستغلاله وانتهاك حُرمة جسده بإدخال مواد ضارَّة إلى هذا الجسد الصغير الذي مازال في طور النمو عبر الغذاء، وهو ما يحدث فعليًا في كثيرٍ من الأغذية المُصنَّعة للصغار والكِبار، لا سيما بعد توقيع بعض الدول الأجنبيَّة على اتفاقيَّة تسمح بأكل كل ما يمشي على الأرض باعتباره مصدرًا للبروتين!
السؤال الذي يطرحهُ زائر المعرض على نفسهِ هُنا: «هل استطاعَ كاكي إيجاد شريكة حياة ليُنجب منها بوكي الصغير رُغم ما يلف حياته من وِحشةٍ واغترابٍ وانتهاكٍ حتى لحُرية قُدرته على التنفُّس؟ أم أن بوكي جاء نتيجة إحدى تلك التجارب الاستنساخيَّة المُريعة في عُلبةٍ مخبريَّة مُثلَّجة؟».. عندها يأتي جواب الفنَّان فاتحًا نافذةً ضوءٍ من الأمل، لقد التقى «كاكي» خلال رحلة كِفاحه في غابة العجائب شخصيَّة أنثويَّة تُشبهه تُدعى «روكي» فأصبحت شريكة حياته ووالدة طفله.. «روكي» شخصيَّة باسِلة رُغم أنها رقيقة، ورغم اضطرارها لارتداء القناع الذي يرتدي مثله زوجها وطفلها وبقية أفراد مُجتمعها لتعيش؛ إلا أنها تختلس وقتًا بمُفردها في الطبيعة دون قِناع.. تحرص على نسج ملابسها الخاصَّة مُستعينة بمواد الغابة الطبيعيَّة وألوانها الزاهية، لها عينان جميلتان مازال الأمل يسكنهما، ومن بين بقيَّة شخصيَّات اللوحات ذوات الأقدام المُتورمة أو المبتورة في رحلة ضياعها بسبب ضغوطات ظروف المُجتمع المُعاصِر؛ تمتاز «روكي» – رغم قسوة حياتها- بقدمين مُكتملتين تحرص دائمًا على حمايتهما بأحذية جميلة صنعتها بنفسها، من هُنا يُمكننا أن نرى انعكاسًا لدور المرأة الإيجابي في المُجتمع رغم قسوة الظروف وبشاعة الواقع.
ما أكثر الذين يُشبهون شخصيَّات «كاكي» و«بوكي» و«روكي» في مُجتمعنا المُعاصِر! ولقد استطاع الفنان سِنان حسين بما يملكه من موهبة ومهارة فنيَّة وفلسفة فريدة من نوعها في نظرته لأحداث واقع العصر الحديث بما يمتاز به من تفكك وتناقُضات إنسانيَّة ومُجتمعيَّة وكوارث بيئيَّة أن يتَّخِذَ من القوَّة الناعِمة المُتمثّلة بالفن وسيلةً مِثاليَّة لوصول رسائله الساميَة إلى العالم عبر معارضه الفنية التي جالت بقاع الأرض، لعلَّها تنجح في دق ناقوس خطَرٍ قادرٍ على تذكير الإنسان وتوعيته وردّه إلى جادة الصواب قبل أن يخسر كوكبه وإنسانيَّته وما تبقَّى من حقيقة ذاته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك