الكاتب المسرحي البصري (عبدالحليم مهودر) أحد أهم كتاب المسرح في البصرة والعراق والمهتمين بهذه الثقافة المهمة التي تختلف بعض الشيء عن أجناس الأدب الأخرى، فالكتابة هنا مقترنة بفعل عياني يتحول إلى مرئي وعرض متمظهر، فالكاتب حينما يشرع ببناء نصه فهو يفكر أحياناً بعقلية المخرج الذي يمكن أن يحول المسطور المكتوب إلى عرض عياني على الخشبة أو فضاءات الحياة المختلفة، عبدالحليم مهودر كاتب مسرحي تتمرأى لك في كتاباته فلسفة (الصمت) وتكرار هذه الثيمة هي محدد مهم لكشف طبيعة مسرحه ونتاجه المسرحي على مستوى الكتابة والرصد، في مجموعته المسرحية (لون آخر من الصمت: عتبة مسرحية) يضعنا أمام خليط تعبيري من الأنواع المسرحية سواء أكانت التي تتصل بالمسرح الشعري الإذاعي وهو النوع المتفرد الذي يواجه الشحة والانقراض في كتابات أدبنا المسرحي أو حتى على مستوى (مسرح الدمى) أو فن المونودراما الجدلي والشائك في الكتابة المسرحية، أو مسرح الطفل بما فيه من قيم تربوية بناءة، فللصمت فلسفة في فكر مهودر تتصل بالمعنى الحياتي أحياناً وأحايين كثيرة بالمعنى التعبيري الجمالي، إن لغة الصمت ترتبط بطبيعة التجربة الوجودية للكاتب، التي تدفعها أحيانا إلى استنطاق هذا الصمت من رؤى مختلفة ومتنوعة في خضم توظيف التصورات الفكرية للكاتب للتفتيش عن قيمة الحياة في هذا العالم، سواء أكان الصمت نابعاً من المعتقد الجمالي أو المعتقد الوظيفي، يحيلنا هذا الأمر إلى ما قاله البرت انشتاين: (الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، ولكنك تفزع عندما يكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة.. تحدثها ظروف غامضة.. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير كثافة التشيؤات.. ولكن الأمور تبدو طبيعية عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة، فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها.. إن اختراقات الصمت قد تأتي في حالة تصور الصمت من عدمه، لا غير، فالأصوات تكسر الصمت، ولكن التنوير يعبر عنه.. الكون كله حالة كبرى ولكن الأرض هي حالة معينة من نوع آخر!) عتبة الصمت في الفلسفة التعبيرية (الكتابة) لدى مهودر تعد بديلاً للحياة وصلاة روحية لكسر النمطية التي تشوب المشهد الواقعي المتناقض وهي رياضة روحية تختلط بقيمة الكتابة والتعبير بخاصة على مستوى العتبات، أو على مستوى اتصال معنى الصمت بالمتون، الصمت لديه إشارات وإيحاءات دالة تتصل بالمشهد، كما أن الصمت لدى أفلاطون قد مثل عبر مقولة الجدل الصاعد بوصف الصمت جدل صاعد يبحث عن رسالة يحققها عبر خطاب النص، وهذا ما يبتغيه عبدالحليم مهودر وإن كان متأملا لقيم الحياة في بناء نصوصه المسرحية منطلقاً من أساس الصوت (الخطاب) عبر (اس/الصمت) وثمة رابط جمالي وفكري بين الصمت وبين المسرح الصامت أو البانتومايم الذي يكتبه مهودر للمسرح هذه قيمة الاتصال تتمثل بأن معاني الكلمات وقيمها الحقيقية الكبرى والدالة هي غالبا غير كلامية لا تتسم بالإثراء اللفظي المطول وإنما هي معان جسدية لأن التمثيل أصمت فعل سيمائي دال يقوم على الإيحاء اللغوي والجمالي ويعبر عن العواطف التي تنصهر دلالاتها ضمن بناها الداخلية، إحالة إلى كتاب عبدالحليم مهودر الموسوم (الصمت إنه الصمت: مسرحيات بانتومايم) الصادر عن دار السامر 2022. بالعودة إلى المجموعة المسرحية (لون آخر من الصمت: عتبة مسرحية) يعتمد الحوارات الموجزة الدالة بلغتها الشعرية ذات الإيقاع المتوالي (مسرحية صوت الحجر: مسرحية شعرية إذاعية / ص 3) تتسم بقصرها بطبيعة بنى النص المسرحي لدى مهودر القائم على الإيجاز والدلالة، مع التركيز على الارتكاز على المفردة واستنطاقها (صوت الحجر/ الحجر جماد لا صوت له فيزيقياً / الاستنطاق الحياتي لهذا الصوت وفقا لفلسفة الصمت والصوت لدى الكاتب المسرحي عبدالحليم مهودر) ولأنه يدرك خصوصية التأليف لمسرح الطفل عبر (مسرح الدمى) فإن الإيجاز تعد سمة تسيطر على مفردة الجملة الحوارية في بناء النص المسرحي لدى مهودر، ومحاولة أنسنة الفعل للشخصيات الحيوانية التي تهيمن غالباً على مسرح الدمى لطبيعة هذا النوع المسرحي الذي يحافظ على محاولة رسم الشخصيات وفقاً لما تقدمه من قيم تسهم في بناء ثقافة الطفل وتنشئته على الجوانب التربوية المهمة في حياة الانسان، كما أن مهودر له قدرة في صياغة شخصية تتشظى أصواتها في المونودراما لمحاولة كسر نمطية الشخصية الواحدة والصوت الواحد فلابد من التنوع على مستوى الصوت والفكرة ويتحول الجدل من صراع خارجي إلى صراع داخلي تتشظى من خلالها شخصية المرأة في النص المسرحي (قبل رحيل إبليس) (العجوز: صباح الخير – تبدأ بلين الكلام – ترد على نفسها ( صباح النور- أهلا وسهلاً) هل تسمح لي بالجلوس. تفضلي – تفضلي- وأنا والمحل في خدمتك أريد قماشاً ثميناً. لي – لا ليس لي. أريده إلى شابة يا سيدي/ ص 41). إن نصوص عبدالحليم مهودر باذخة من حيث اللغة وتنسيق التواصل بين شخصياته بجمل وحوارات موجزة ذات قيمة تعبيرية وجمالية.
{ ناقد وأكاديمي من العراق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك