العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

كيف نقرأ بشائر الصمود الأسطوري لأهل غزة؟

بقلم: د. حسن نافعة

الجمعة ١٢ أبريل ٢٠٢٤ - 02:00

في‭ ‬الساعات‭ ‬الأولى‭ ‬من‭ ‬صباح‭ ‬يوم‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬الماضي،‭ ‬استيقظ‭ ‬العالم‭ ‬على‭ ‬وقع‭ ‬خبر،‭ ‬مفاده‭ ‬أن‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلحة،‭ ‬بقيادة‭ ‬كتائب‭ ‬القسام،‭ ‬اجتاحت‭ ‬الجدار‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬والأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة‭ ‬عام‭ ‬1948‭. ‬وفي‭ ‬الساعة‭ ‬الثامنة‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الصباح،‭ ‬أذاع‭ ‬محمد‭ ‬الضيف،‭ ‬القائد‭ ‬العام‭ ‬لكتائب‭ ‬عز‭ ‬الدين‭ ‬القسام،‭ ‬الجناح‭ ‬العسكري‭ ‬لحركة‭ ‬حماس،‭ ‬بياناً‭ ‬كشف‭ ‬فيه‭ ‬إطلاق‭ ‬عملية‭ ‬عسكرية‭ ‬كبرى،‭ ‬تحت‭ ‬مسمى‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭.‬

ولم‭ ‬يكد‭ ‬نهار‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬ينتصف‭ ‬حتى‭ ‬تبيّن‭ ‬أن‭ ‬قوات‭ ‬المقاومة،‭ ‬التي‭ ‬شاركت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬العملية،‭ ‬تمكّنت‭ ‬من‭ ‬التوغل‭ ‬داخل‭ ‬عمق‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬إلى‭ ‬مسافات‭ ‬بعيدة،‭ ‬وصلت‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬النقاط‭ ‬إلى‭ ‬40‭ ‬كم،‭ ‬كما‭ ‬تمكنت،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المواقع‭ ‬والقواعد‭ ‬العسكرية‭ ‬التابعة‭ ‬لجيش‭ ‬الاحتلال،‭ ‬وأيضاً‭ ‬من‭ ‬اقتحام‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المستوطنات‭ ‬الواقعة‭ ‬في‭ ‬غلاف‭ ‬القطاع‭.‬

وبعد‭ ‬عدة‭ ‬ساعات،‭ ‬انسحبت‭ ‬أغلبية‭ ‬القوات‭ ‬المهاجمة،‭ ‬وعادت‭ ‬إلى‭ ‬قواعدها،‭ ‬مصطحبة‭ ‬معها‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬250‭ ‬أسيراً،‭ ‬ومخلّفة‭ ‬وراءها‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬1200‭ ‬قتيل،‭ ‬وعدد‭ ‬لا‭ ‬يحصى‭ ‬من‭ ‬الجرحى‭. ‬وانتظر‭ ‬جيش‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬ثماني‭ ‬وأربعين‭ ‬ساعة‭ ‬بعد‭ ‬بدء‭ ‬القتال‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يتمكن‭ ‬من‭ ‬إعلان‭ ‬نجاحه‭ ‬في‭ ‬‮«‬تصفية‭ ‬بعض‭ ‬الجيوب‮»‬،‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تقاتل‭ ‬داخل‭ ‬الأرض‭ ‬المحتلة‭.‬

للوهلة‭ ‬الأولى،‭ ‬بدا‭ ‬هذا‭ ‬الخبر‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للتصديق‭. ‬فالانطباع‭ ‬السائد‭ ‬عن‭ ‬الجدار‭ ‬الفاصل‭ ‬بين‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬والأرض‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المحتلة‭ ‬عام‭ ‬1948‭ ‬أنه‭ ‬شديد‭ ‬التحصين،‭ ‬ومزوَّد‭ ‬بأحدث‭ ‬أدوات‭ ‬الرصد‭ ‬وأدقّ‭ ‬أجهزة‭ ‬الإنذار‭ ‬المبكر‭ ‬والاستشعار‭ ‬عن‭ ‬بعد،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يعني‭ ‬أنه‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للاختراق،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬فصيل‭ ‬صغير‭ ‬محدود‭ ‬الإمكانات،‭ ‬مثل‭ ‬حركة‭ ‬حماس‭.‬

وتتمتع‭ ‬أجهزة‭ ‬الأمن‭ ‬ووسائل‭ ‬جمع‭ ‬البيانات‭ ‬وتحليل‭ ‬المعلومات،‭ ‬التي‭ ‬يمتلكها‭ ‬الكيان،‭ ‬بشهرة‭ ‬واسعة‭ ‬توحي‭ ‬في‭ ‬قدرتها‭ ‬على‭ ‬الإحاطة‭ ‬التامة‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬يمس‭ ‬الأمن‭ ‬الصهيوني‭ ‬من‭ ‬قريب‭ ‬أو‭ ‬بعيد،‭ ‬وبالتالي‭ ‬تعرف‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬عن‭ ‬البشر‭ ‬والحجر‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭.‬

أمّا‭ ‬‮«‬الجيش‮»‬‭ ‬الإسرائيلي،‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬تمكّن‭ ‬من‭ ‬إلحاق‭ ‬هزيمة‭ ‬ساحقة‭ ‬بجيوش‭ ‬ثلاث‭ ‬دول‭ ‬عربية‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬فتحيط‭ ‬به‭ ‬أضواء‭ ‬ساطعة‭ ‬تصوّره‭ ‬على‭ ‬أنه‭ ‬بات‭ ‬واحداً‭ ‬من‭ ‬أفضل‭ ‬جيوش‭ ‬العالم،‭ ‬تسليحاً‭ ‬وتدريباً،‭ ‬ولديه‭ ‬من‭ ‬الإمكانات‭ ‬المادية‭ ‬ومن‭ ‬أنظمة‭ ‬التسليح‭ ‬الحديثة‭ ‬ومن‭ ‬خبرات‭ ‬القتال‭ ‬ووسائله‭ ‬وفنونه،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬يفوق‭ ‬ما‭ ‬لدى‭ ‬جيوش‭ ‬بعض‭ ‬الدول‭ ‬الكبرى‭.‬

فكيف‭ ‬لمنظمة‭ ‬صغيرة‭ ‬محدودة‭ ‬العدد‭ ‬والإمكانات،‭ ‬وتوجد‭ ‬في‭ ‬رقعة‭ ‬جغرافية‭ ‬ضيقة‭ ‬ومحاصَرة،‭ ‬براً‭ ‬وبحراً‭ ‬وجواً،‭ ‬من‭ ‬جميع‭ ‬الجهات،‭ ‬أن‭ ‬تخدع‭ ‬كل‭ ‬أجهزة‭ ‬الأمن‭ ‬الصهيونية؟‭ ‬وكيف‭ ‬لها‭ ‬أن‭ ‬تجرؤ‭ ‬أصلاً‭ ‬على‭ ‬مجرد‭ ‬التفكير‭ ‬في‭ ‬الدخول‭ ‬في‭ ‬مواجهة‭ ‬عسكرية‭ ‬مباشرة‭ ‬ومفتوحة‭ ‬مع‭ ‬جيش‭ ‬بهذه‭ ‬الضخامة‭ ‬والقوة،‭ ‬على‭ ‬رغم‭ ‬قيامها‭ ‬على‭ ‬نهج‭ ‬الكر‭ ‬والفر‭ ‬المستخدم‭ ‬في‭ ‬حرب‭ ‬العصابات‭.‬

ولأن‭ ‬حماس‭ ‬تمكنت‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬المشهود‭ ‬من‭ ‬تحقيق‭ ‬إنجاز‭ ‬فاق‭ ‬كل‭ ‬التصورات،‭ ‬واستطاعت‭ ‬أن‭ ‬تلحق‭ ‬بالجيش‭ ‬الصهيوني‭ ‬هزيمة‭ ‬لا‭ ‬تمحى،‭ ‬بصرف‭ ‬النظر‭ ‬عما‭ ‬قد‭ ‬يحدث‭ ‬بعد‭ ‬ذلك،‭ ‬فلقد‭ ‬بدا‭ ‬هذا‭ ‬الإنجاز‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬إلى‭ ‬معجزة‭ ‬إلهية‭ ‬منه‭ ‬إلى‭ ‬واقع‭ ‬قابل‭ ‬للتصديق،‭ ‬ثم‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬يفجر‭ ‬ليس‭ ‬آمالا‭ ‬ضخمة‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أيضاً‭ ‬مخاوف‭ ‬لا‭ ‬تقل‭ ‬ضخامة‭.‬

وعلى‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬كله،‭ ‬فإن‭ ‬مسار‭ ‬الأحداث‭ ‬والتطورات‭ ‬اللاحقة‭ ‬أثبت‭ ‬أن‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬في‭ ‬يوم‭ ‬السابع‭ ‬من‭ ‬أكتوبر‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬الأمر‭ ‬سوى‭ ‬واحد‭ ‬من‭ ‬تجليات‭ ‬معجزة‭ ‬إلهية‭ ‬أوسع‭ ‬نطاقاً‭ ‬وأعظم‭ ‬قدراً‭.‬

حين‭ ‬أفاق‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬من‭ ‬هول‭ ‬المفاجأة‭ ‬التي‭ ‬أحدثها‭ ‬‮«‬الطوفان‮»‬،‭ ‬شرع‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬في‭ ‬التحرك‭ ‬في‭ ‬ثلاثة‭ ‬مسارات‭ ‬متوازية‭. ‬الأول‭: ‬إعلامي،‭ ‬استهدف‭ ‬إظهار‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬كأنه‭ ‬عملية‭ ‬قامت‭ ‬بها‭ ‬‮«‬منظمة‭ ‬إرهابية‮»‬‭ ‬ارتكبت‭ ‬خلالها‭ ‬‮«‬جرائم‭ ‬بشعة،‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬ذبح‭ ‬الأطفال‭ ‬وقطع‭ ‬رؤوسهم‭ ‬واغتصاب‭ ‬النساء‭ ‬واختطاف‭ ‬العجائز‭ ‬والمرضى‮»‬،‭ ‬على‭ ‬أمل‭ ‬كسب‭ ‬تعاطف‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬العالمي‭ ‬وتبرير‭ ‬حجم‭ ‬العنف‭ ‬الذي‭ ‬قرر‭ ‬جيش‭ ‬الكيان‭ ‬استخدامه‭ ‬في‭ ‬مواجهته‭ ‬اللاحقة‭ ‬ضد‭ ‬كل‭ ‬سكان‭ ‬القطاع‭.‬

والثاني‭: ‬عسكري،‭ ‬استهدف‭ ‬تدمير‭ ‬حركة‭ ‬حماس‭ ‬وإسقاط‭ ‬حكمها‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬واستعادة‭ ‬الأسرى‭ ‬بالقوة‭. ‬والثالث‭: ‬سياسي،‭ ‬استهدف‭ ‬تحويل‭ ‬المحنة‭ ‬إلى‭ ‬فرصة‭ ‬تتيح‭ ‬له‭ ‬تهجير‭ ‬سكان‭ ‬القطاع‭ ‬وإجبارهم‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭ ‬القسري،‭ ‬وتمكنه‭ ‬من‭ ‬إعادة‭ ‬احتلاله،‭ ‬إن‭ ‬أمكن،‭ ‬أو‭ ‬تنصيب‭ ‬إدارة‭ ‬فلسطينية‭ ‬عميلة‭ ‬تقبل‭ ‬التنسيق‭ ‬مع‭ ‬أجهزته‭ ‬الأمنية‭.‬

ولأن‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة،‭ ‬ومن‭ ‬ورائها‭ ‬معظم‭ ‬الدول‭ ‬الغربية،‭ ‬سارعت‭ ‬إلى‭ ‬تصديق‭ ‬السردية‭ ‬الصهيونية‭ ‬وتبنتها‭ ‬وراحت‭ ‬تروجها‭ ‬وأبدت‭ ‬استعدادها‭ ‬لتقديم‭ ‬دعم‭ ‬سياسي‭ ‬وعسكري‭ ‬غير‭ ‬محدود‭ ‬للكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬تصوّر‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬أن‭ ‬المعركة‭ ‬حُسمت‭ ‬لمصلحته‭ ‬وأنه‭ ‬بات‭ ‬قادراً‭ ‬على‭ ‬إنجاز‭ ‬كل‭ ‬الأهداف‭ ‬التي‭ ‬حددها‭ ‬لنفسه،‭ ‬خلال‭ ‬فترة‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتجاوز‭ ‬عدة‭ ‬أسابيع‭. ‬غير‭ ‬أنه‭ ‬تبين‭ ‬من‭ ‬مسار‭ ‬الأحداث‭ ‬اللاحقة‭ ‬أنه‭ ‬بنى‭ ‬حساباته‭ ‬على‭ ‬أسس‭ ‬خاطئة‭ ‬تماماً،‭ ‬وأن‭ ‬لدى‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬والشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬مفاجآت‭ ‬أخرى‭ ‬غير‭ ‬سعيدة‭ ‬تنتظره‭.‬

فمن‭ ‬ناحية،‭ ‬صمدت‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬أشهر،‭ ‬ولا‭ ‬تزال‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬مواصلة‭ ‬القتال‭ ‬وعلى‭ ‬إلحاق‭ ‬خسائر‭ ‬يومية‭ ‬فادحة‭ ‬بجيشه‭ ‬‮«‬الذي‭ ‬لا‭ ‬يُقهر‮»‬،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى،‭ ‬صمد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬غزة‭ ‬وتمسك‭ ‬بالبقاء‭ ‬في‭ ‬أرضه،‭ ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ممارسات‭ ‬الإبادة‭ ‬الجماعية‭ ‬التي‭ ‬قام‭ ‬بها‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬في‭ ‬مواجهته،‭ ‬من‭ ‬قتل‭ ‬وتدمير‭ ‬وتجويع،‭ ‬على‭ ‬نحو‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يصبح‭ ‬القطاع‭ ‬بأكمله‭ ‬مكاناً‭ ‬غير‭ ‬قابل‭ ‬للسكن‭ ‬أو‭ ‬للحياة‭.‬

ولا‭ ‬شك‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬صمود‭ ‬المقاومة‭ ‬والشعب‭ ‬معاً‭ ‬ساعد،‭ ‬ليس‭ ‬على‭ ‬إفشال‭ ‬الأهداف‭ ‬والمخططات‭ ‬الصهيونية‭ ‬وانهيار‭ ‬سرديتها‭ ‬فحسب،‭ ‬وإنما‭ ‬أدى‭ ‬أيضاً‭ ‬إلى‭ ‬انكشاف‭ ‬حقيقة‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني‭ ‬الذي‭ ‬ظهرت‭ ‬طبيعته‭ ‬التوسعية‭ ‬والاستيطانية‭ ‬والعنصرية،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬تجلى‭ ‬بوضوح‭ ‬في‭ ‬انتفاضة‭ ‬الرأي‭ ‬العام‭ ‬العالمي‭ ‬ضد‭ ‬الكيان،‭ ‬وفي‭ ‬مقاضاته‭ ‬أمام‭ ‬محكمة‭ ‬العدل‭ ‬الدولية‭ ‬بتهمة‭ ‬ارتكاب‭ ‬أعمال‭ ‬إبادة‭ ‬جماعية‭ ‬ضد‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬عزلته‭ ‬التامة‭ ‬وبداية‭ ‬تخلي‭ ‬أقرب‭ ‬حلفائه‭ ‬عنه‭.‬

أدرك‭ ‬أن‭ ‬بعض‭ ‬الأوساط‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬تحاول‭ ‬استثمار‭ ‬حجم‭ ‬المعاناة‭ ‬الإنسانية‭ ‬الهائلة‭ ‬التي‭ ‬يكابدها‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬لتخطئة‭ ‬حماس‭ ‬وتحميلها‭ ‬مسؤولية‭ ‬ما‭ ‬جرى،‭ ‬بسبب‭ ‬إقدامها‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬،‭ ‬كما‭ ‬أدرك،‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه،‭ ‬أنه‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬مقدور‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬أن‭ ‬يجرؤ‭ ‬على‭ ‬ارتكاب‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬اقترفه‭ ‬من‭ ‬جرائم‭ ‬في‭ ‬حق‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬لولا‭ ‬تخاذل‭ ‬معظم‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية،‭ ‬ومع‭ ‬ذلك‭ ‬فليس‭ ‬في‭ ‬وسع‭ ‬أي‭ ‬مراقب‭ ‬منصف‭ ‬لمسيرة‭ ‬الصراع‭ ‬ضد‭ ‬هذا‭ ‬الكيان‭ ‬سوى‭ ‬الاعتراف‭ ‬بأن‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يحدث‭ ‬من‭ ‬فراغ،‭ ‬كما‭ ‬قال‭ ‬السكرتير‭ ‬العام‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭.‬

ذلك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬‮«‬الطوفان‮»‬‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬أنقذ‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬من‭ ‬محاولات‭ ‬التصفية‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تتعرض‭ ‬لها،‭ ‬والتي‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬وشك‭ ‬أن‭ ‬تتكلل‭ ‬بالنجاح،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬دفع‭ ‬هذه‭ ‬القضية‭ ‬نحو‭ ‬صدارة‭ ‬جدول‭ ‬أعمال‭ ‬النظام‭ ‬الدولي‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬كاد‭ ‬العالم‭ ‬ينساها‭ ‬وينصرف‭ ‬عنها‭ ‬تماماً،‭ ‬وخصوصاً‭ ‬بعد‭ ‬تخلي‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الأنظمة‭ ‬العربية‭ ‬عنها‭.‬

كما‭ ‬أنه‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬وسع‭ ‬أي‭ ‬مراقب‭ ‬منصف‭ ‬للطريقة‭ ‬التي‭ ‬تدار‭ ‬بها‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬من‭ ‬جولات‭ ‬الصراع‭ ‬المسلح‭ ‬سوى‭ ‬الإقرار‭ ‬بأن‭ ‬حماس،‭ ‬ومعها‭ ‬سائر‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬أدارت‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬بحنكة‭ ‬واقتدار‭ ‬بقراءة‭ ‬موضوعية‭.‬

وتجلت‭ ‬هذه‭ ‬الحنكة‭ ‬وتلك‭ ‬المقدرة‭ ‬ليس‭ ‬في‭ ‬طريقة‭ ‬إدارتها‭ ‬للمعارك‭ ‬العسكرية‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬القتال،‭ ‬منذ‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬فحسب،‭ ‬بل‭ ‬أيضاً‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬إدارتها‭ ‬للمفاوضات‭ ‬السياسية‭ ‬غير‭ ‬المباشرة‭ ‬التي‭ ‬تجري‭ ‬عبر‭ ‬وسطاء‭!‬

ففي‭ ‬جولة‭ ‬المفاوضات‭ ‬الأولى‭ ‬التي‭ ‬أدارتها‭ ‬في‭ ‬نوفمبر،‭ ‬والتي‭ ‬قبلت‭ ‬فيها‭ ‬هدنة‭ ‬مؤقتة،‭ ‬تمكنت‭ ‬الفصائل‭ ‬من‭ ‬تسجيل‭ ‬عدة‭ ‬نقاط‭ ‬لمصلحتها،‭ ‬بحيث‭ ‬نجحت‭ ‬خلال‭ ‬هذه‭ ‬الهدنة‭ ‬في‭ ‬إسقاط‭ ‬السردية‭ ‬الصهيونية‭ ‬بشأن‭ ‬ما‭ ‬جرى‭ ‬إبان‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬الطوفان‮»‬،‭ ‬وأثبتت‭ ‬أن‭ ‬المقاومة‭ ‬تتمتع‭ ‬بروح‭ ‬إنسانية‭ ‬وبسمو‭ ‬أخلاقي‭ ‬في‭ ‬تعاملها‭ ‬مع‭ ‬الأسرى،‭ ‬مقارنة‭ ‬بالكيان‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬جولة‭ ‬المفاوضات‭ ‬الحالية،‭ ‬والتي‭ ‬لم‭ ‬تحسم‭ ‬نتيجتها‭ ‬بعد،‭ ‬فتبنت‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬موقفاً‭ ‬صلباً‭ ‬مفاده‭: ‬الأسرى‭ ‬في‭ ‬مقابل‭ ‬وقف‭ ‬العدوان‭ ‬والانسحاب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬القطاع‭ ‬وفك‭ ‬الحصار‭ ‬وبدء‭ ‬الإعمار،‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬أدى‭ ‬إلى‭ ‬تعرية‭ ‬استراتيجية‭ ‬الكيان‭ ‬التفاوضية،‭ ‬والتي‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬معادلة‭ ‬مستحيلة‭ ‬قوامها‭: ‬هدن‭ ‬موقتة‭ ‬لحل‭ ‬موضوع‭ ‬الأسرى،‭ ‬ثم‭ ‬استئناف‭ ‬القتال‭ ‬الذي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يتواصل‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬يتم‭ ‬تدمير‭ ‬الفصائل‭ ‬بعد‭ ‬انتزاع‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬تملكه‭ ‬من‭ ‬أوراق‭ ‬تفاوضية‭.!‬

لم‭ ‬تنتهِ‭ ‬بعدُ‭ ‬جولة‭ ‬الصراع‭ ‬المسلح‭ ‬الحالية‭ ‬مع‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني،‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تزال‭ ‬مفتوحة‭ ‬على‭ ‬كل‭ ‬الاحتمالات،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬احتمال‭ ‬توسعها‭ ‬وتحولها‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬إقليمية‭ ‬شاملة،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬موقف‭ ‬فصائل‭ ‬المقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬المسلحة،‭ ‬بقيادة‭ ‬حماس،‭ ‬يبدو‭ ‬أفضل‭ ‬كثيراً‭ ‬من‭ ‬موقف‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭.‬

فلولا‭ ‬صمودها‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬القتال‭ ‬لما‭ ‬حققت‭ ‬القضية‭ ‬الفلسطينية‭ ‬أياً‭ ‬من‭ ‬الإنجازات‭ ‬التي‭ ‬حققتها‭ ‬حتى‭ ‬الآن‭. ‬واستمرار‭ ‬هذا‭ ‬الصمود‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ستة‭ ‬أشهر‭ ‬ليس‭ ‬له‭ ‬سوى‭ ‬معنى‭ ‬واحد،‭ ‬وهو‭ ‬أنها‭ ‬استعدت‭ ‬لهذه‭ ‬الجولة‭ ‬من‭ ‬الصراع‭ ‬استعداداً‭ ‬جيداً‭.‬

لذا،‭ ‬فالأرجح‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬الصمود‭ ‬أشهراً‭ ‬أخرى‭ ‬طويلة،‭ ‬أما‭ ‬الكيان‭ ‬الصهيوني‭ ‬فهو‭ ‬متأزم‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬المستويات‭. ‬ففي‭ ‬قلبه‭ ‬صراع‭ ‬داخلي‭ ‬حاد‭ ‬معرّض‭ ‬للتفاقم‭ ‬والتصعيد،‭ ‬ويواجه‭ ‬عزلة‭ ‬خارجية‭ ‬متزايدة‭ ‬تكاد‭ ‬تحوله‭ ‬إلى‭ ‬كيان‭ ‬منبوذ‭ ‬من‭ ‬الجميع‭.‬

لذا،‭ ‬نعتقد‭ ‬أن‭ ‬الصمود‭ ‬الأسطوري‭ ‬للمقاومة‭ ‬الفلسطينية‭ ‬هو‭ ‬المقدمة‭ ‬الطبيعية‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬بشائر‭ ‬النصر‭. ‬هم‭ ‬يرونه‭ ‬بعيداً‭ ‬ونراه‭ ‬قريباً،‭ ‬بإذن‭ ‬الله‭.‬

 

{ أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا