بعد الرد الإيراني على ضربة القنصلية الإيرانية في دمشق، ليل السبت ـ الأحد الماضي، ترتسم ملامح شرق أوسط أكثر تعقيدًا، وهو مسار دشنه تاريخ السابع من أكتوبر 2023 ويستمر في الارتقاء شيئًا فشيئًا حتى كاد في الساعات الماضية يبلغ حافة الانفجار الكبير.
تتزاحم المصالح عملياً؛ تتحكّم جملة من العوامل اليوم في المشهد المتوتر في الإقليم؛ فتضعه على مفترق حاسم وخطير، فإما سلوك طريق التصعيد الخطير، وبالتالي الحرب الكبرى، أو مسار الانفراج، وربما التسوية. فأيُّ حصان سيتقدّم، ويشدّ العربة نحو الطريق الذي يريد؟ حصان الحرب، أم حصان التسوية؟
لا شك أنّ امتداد زمن الحرب على غزة، وعدم تحقيق انتصار حاسم، بدأ يُضيّق الخناق على كل من الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ودخل الطرفان في منافسة سياسية، يقدّم فيها كل طرف مصالحه الخاصة، فمن منهما يمتلك الأوراق الأقوى التي تخوّله للفوز بالسباق السياسي؟
يقول هنري كيسنجر «إنّ السلطة هي أقصى درجات الشهوة». ولعلّ أكثر من ينطبق عليه هذا القول اليوم هو بنيامين نتنياهو الذي يعتبر أنّ أي وقف للحرب على غزة سيُشكّل نهايته السياسية وسقوط حكومته المتطرفة، وفتح مسار المحاسبة في إسرائيل، وبالتالي الاضطرابات السياسية.
هذا الواقع يُفشِل حتى الآن أي مفاوضات قد تصل إلى إنهاء الحرب، لأن نتنياهو سيكون الخاسر الأكبر، لذا، يفعل كل ما في وسعه لعرقلة أي صفقة، أو مفاوضات تكون نتيجتها وقف الحرب. ولكن؛ ثمة معضلة أنّ نتنياهو لا يستطيع أن يُفكر بمستقبله السياسي وحده، فرئيس الإمبراطورية الأميركية جو بايدن يدفع ثمنًا باهظًا جراء اندفاعة نتنياهو غير المحسوبة، الأمر الذي قد يُكلّفه عدم تمديد ولايته، لمرة ثانية، في البيت الأبيض، بسبب خضوعه لابتزاز نتنياهو وحكومة إسرائيل وجيشها في الحرب الحالية.
لذا تشهد العلاقة بين الرئيسين، شدّ حبالٍ محمومًا، لأنّ اشتعال الحرب الكبرى في المنطقة ستصبّ في كفة نتنياهو، ولكنها ستُورّط الرئيس الديموقراطي، وتعيد الجيش الأميركي إلى الغوص في وحول المنطقة، في الأشهر الحاسمة قبل معركة التجديد في نوفمبر المقبل.
في الأسبوعين الأخيرين بدأنا نشهد انعطافة ولكنها غير حاسمة في الموقف السياسي الأميركي، أقلّه من الناحية اللفظية، عما كان عليه منذ بداية الحرب.
فقد افتتح زعيم الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ شاك شومر، التصريحات القاسية التي ينتقد فيها نتنياهو وحكومته. وأتى امتناع الولايات المتحدة عن التصويت على قرار مجلس الأمن 2728 الداعي إلى وقف لإطلاق النار، ليخدم السياق نفسه، وأعقب ذلك اتصال هاتفي بين بايدن ونتنياهو تسرّبت منه لغة توتر عالية.
لاحقًا، لاحظنا كيف أن بايدن استكمل مسار النقد، فوصف في مقابلة تلفزيونية سياسة نتنياهو في غزة بالخاطئة، وقال إنه لا يتفق مع نهجه. وأنّ على إسرائيل أن تسعى الى وقف إطلاق النار. وأن تسمح بالوصول الكامل إلى المواد الغذائية والأدوية. وأن لا عذر لعدم توفير الاحتياجات الطبية والغذائية لسكان قطاع غزة. ويجب أن يتم ذلك «الآن».
وكان عضو مجلس الحرب الإسرائيلي بني جانتس قد زار واشنطن في الخامس من مارس الماضي، وعقد سلسلة لقاءات هناك، وسمع كلامًا مختلفًا ينتقد سلوك الحكومة الإسرائيلية. ثم تبعه بعد أسبوعين وزير الحرب يوآف جالانت، لإتمام حاجات إسرائيل من السلاح، ولشرح خطة اجتياح رفح التي لم تقنع الإدارة الأميركية.
وفي الثامن من أبريل الجاري، استقبل مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان زعيم المعارضة رئيس الحكومة السابق يائير لابيد، وفي الوقت نفسه، قرر تأجيل زيارة كانت مقررة إلى السعودية، يمتلك جو بايدن بيده ورقة رابحة لم يستخدمها حتى الآن، وهي التلويح بوقف جسر المساعدات العسكرية لإسرائيل، وهو ما سيشكّل ضربة قاسية جداً لحكومة نتنياهو، مستفيداً من جو يتبلور تدريجيًا في أوساط الحزب الديموقراطي ينتقد الدعم المفتوح لإسرائيل من دون ضوابط. ويدرك بايدن أيضًا، أنّ مشكلة نتنياهو هي في عدم امتلاكه رؤية استراتيجية لما يمكن أن تكون عليه غزة في اليوم التالي للحرب. وهو يريد إزاحة نتنياهو وإسقاط حكومته، ولكنه لا يسعى أن يكون ذلك قبل التوصل إلى وقف لإطلاق النار، خوفًا من تأثير ذلك على نتيجة الحرب.
ماذا عن نتنياهو؟ يتسلّح بنيامين نتنياهو بعدد من الأوراق التي يعتقد أنها تدعم موقفه مقابل جو بايدن: التذكير دائمًا بما حصل في السابع من أكتوبر، ورفع لواء مظلومية إسرائيل، والدعوة إلى نصرتها، وإحالة أي انتقاد له ولحكومته، أنه انتقاد لإسرائيل، وأنّ التلويح بتقنين المساعدات العسكرية الأمريكية المفتوحة، هو تخلٍّ عن إسرائيل في اللحظة الأكثر حراجة في تاريخها.
يستغل نتنياهو المنافسة المحمومة بين المرشحين جو بايدن ودونالد ترامب، وحاجة كلّ منهما إلى الصوت اليهودي في الانتخابات القادمة. يدرك نتنياهو أنّ المعارضة في إسرائيل ضعيفة، وليس هناك شخصية كاريزماتية تقودها، وهو دائم الاتهام لها بأنها بانتقادها حكومته، تساعد حركة حماس في الانتصار على إسرائيل.
دفعَ قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، واغتيال قادة في الحرس الثوري في سوريا ولبنان، المشهد إلى ذروة التعقيد، وشكّل ضربةً تحت الحزام، وتجاوزًا لكل الخطوط الحمر، ودفع بحرب الظل إلى الشمس. وما كان متوقعاً، شاهد العالم فصوله لحظة بلحظة، مع صدور القرار الإيراني بالرد على الضربة الإسرائيلية، وها هو العالم ينتظر مجددًا إمكانية الرد الإسرائيلي على الرد الإيراني، الأمر الذي من شأنه أن يزيد احتمالات توسّع الصراع إلى أماكن أخرى، فتتحوّل حربًا شاملة لا يرغب بها لا الأمريكي ولا الإيراني، ولكن حتماً يريد نتنياهو من الأمريكيين أن يكونوا شركاء في أي مواجهة محتملة مع إيران.
تُقابل قتامة مشهد التصعيد، عدد من العوامل الوازنة التي تعمل على شد العربة نحو مفترق الانفراج، ووقف الحرب، وهي: أولًا: إنّ الحرب في غزة وصلت إلى نوع من المراوحة، وعدم إمكانية الحسم، والفشل في تحقيق أهدافها التي وضعها نتنياهو وحكومته.
ثانيًا: الوقت الممنوح لآلة الحرب الإسرائيلية بدأ بالنفاد، بسبب الفشل العسكري أولًا، وبسبب اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل ثانيًا، زدْ على ذلك أن ما بعد الرد الإيراني، باتت قدرة الأميركيين في الضغط على حكومة نتنياهو أكبر من اي وقت مضى.
ثالثًا: ثمة انزياح في الرأي العام العالمي، والغربي خاصة، ضدّ إسرائيل، بسبب الإخفاق في تحقيق النصر، وبسبب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان، والتي أحرجت الحكومات الغربية، وتُوّجت بمقتل سبعة أعضاء في «المطبخ المركزي العالمي».
رابعًا: صمود المقاومة الأسطوري في غزة، والخسائر الكبيرة للجيش الإسرائيلي في القطاع، وتهافت نظرية الردع التي سعى الإسرائيلي إلى تثبيتها في لبنان، واستمرار الضغط من اليمن والعراق، ترافق ذلك مع استخدام العدو قوة نارية غير مسبوقة، وتجاوزه كل القواعد المعمول بها في الحروب، عبر قصف كل مكان في غزة تقريبًا، وقتل ما يزيد على ثلاثة وثلاثين ألف إنسان، وجعل قطاع غزة مكانًا غير صالح للحياة، وعبر حصار وتجويع مليوني بشري في القرن الحادي والعشرين.
خامسًا: انسحاب الجيش الإسرائيلي المفاجئ من قطاع غزة، وإبقاء لواء «الناحال» وحيدًا، ليفصل بين شمال القطاع وجنوبه.
سادسًا وأخيرًا: الأكثر أهمية أنّ هناك شكًّا في إمكانية مبادرة إسرائيل إلى شنّ حرب جديدة، لا مع «حزب الله» برغم جبهة الإسناد التي تستمر منذ الثامن من أكتوبر ولا مع إيران برغم ردها، وذلك ريثما يهضم نتنياهو الوجبة الكارثية التي ابتلعها، ابتداءً من صباح السابع من أكتوبر. في الختام لا بدّ من الإشارة إلى أنّ المنطقة أمام أيام حاسمة، فإما تهدئة.. وإما تصعيد كبير. فلننتظر ونرَ.
{ أستاذ جامعي وباحث من لبنان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك