منذ نشأة المسرح الإغريقي في أبجدياته الأولى وهو مسرح مؤسَّس على الميثولوجيا التي هي مكوَّن رئيس من مكونات المتخيل السَّردي الذي تمَّ تداوله عبر التاريخ الشفهي والملاحم الشعرية مثل الإلياذة والأوديسة. ولقد استلهم الكتاب المسرحيون التراجيديون مثل إسخليوس وسوفوكليس ويوريبديس نصوص مسرحياتهم من ميثولوجيا عصر الأبطال مثل أجاممنون وأوديب وميديا وغيرها. إذن منذ بواكير المسرح العالمي الأولى وتلك التخوم السّردية والمسرحية متداخلة في المرجعيات النصية وفي المتخيل وفي الأداء المسرحي. لقد تحوَّلت كثير من الروايات العالميّة إلى نصوص مسرحية مُثلت على خشبات المسارح، وقد تكون الرواية في بعض الأحيان مغمورة عند المتلقين ثم تلقى رواجًا مذهلاً عندما تتحوّل إلى نصوص مسرحية! فرواية «شبح الأوبرا»، وهي رواية فرنسية من تأليف غاستون ليرو لم تنل إعجاب القراء في البداية إلا عندما تحوّلت إلى مسرحية موسيقية في برودواي، ولا تزال تُعرض حتى الآن على خشبات أرقى المسارح العالمية. ومن أشهر روائع الأدب العالمي التي حوَّلت إلى نصوص مسرحية: رواية «دون كيخوته دي لا منتشا» للأديب الإسباني ميغيل دي ثيربانتس، ورواية «البؤساء» لفيكتور هوجو، ورواية «الحرب والسلام» لديستويفسكي، وروايات أجاثا كريستي وغيرها.
انتبه بريخت في نظريته عن المسرح الملحمي إلى الرابطة الوثيقة بين الدراما والملحمة أيّ بين المسرحي والسَّردي عندما جرَّب مع المخرج إيرفين بيسكاتور في عشرينيات القرن الماضي أشكالاً جديدة من المسرح هي المسرح الملحمي. ولقد انتبه فرانشيسكو جارثون ثيسبدس كذلك في كتابه «مسرح السَّرد التمثيلي» إلى ذوبان التخوم الفاصلة بين الجنسين الأدبيين السَّرد والمسرح.
ومن الاشتغالات النقدية المهمة التي بحثت في العلاقة بين السَّرد والمسرح اشتغالات مجموعة من أبرز الباحثين والنقاد المسرحيين الروس: ميخائيل سموليانينسكي وآلكسندر سوكوليانسكي وناتاليا ياكوبوفا وأولجا رومان تسوفا وفيكتوريا نيكيفروفا وأولجا يوجوشينا وجريجوري زاسلافسكي. لقد بحث هؤلاء النقاد المسرحيون الروس قضايا مسرحية مهمة مثل إعداد النص المسرحي، والسينوغرافيا، ومنطق الجنس الدرامي لرصد علاقته بأشهر النصوص المسرحية الروسية والعالميّة إلى جانب حضور التقنيات السردية في النصوص المسرحية.
ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين ومع ظهور الرواية التفاعلية والمسرحية التفاعلية نتساءل عن حجم التداخل الممكن بين هذين الجنسين الأدبيين عالميًا مع دخول الوسائط الإلكترونية: في النص والعرض الدرامي والسينوغرافيا المسرحية. كما تحتاج النصوص المسرحية العربيّة المعاصرة إلى مقاربات نقدية مغايرة تستفيد من المقاربات الثقافيّة بما في ذلك المقاربات ما بعد الكولونياليّة التي ركزت على فعالية التراث المحلي في الإبداع الأدبي والفني في عمليات إعادة كتابة التواريخ الثقافيّة الخاصة برؤية الذات، والاحتفاء بالسياقات الثقافية الخاصة، وإعادة تصوُّر التاريخ البشري بوصفه عالمًا من التفاعل والاحتفاء بالاختلاف رغم خصوصيات الجغرافيا والعرق والثقافة.
{ أستاذ السرديات والنقد الأدبيّ الحديث المشارك،
كلية الآداب، جامعة البحرين.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك