لقد استغرق الأمر أكثر من نصف قرن لتعزيز الهوية العربية الأمريكية وبناء المنظمات التي تعمل على تلبية احتياجات المجتمع العربي الأمريكي من كل النواحي.
واليوم يتم استهداف هذا العمل من قبل أولئك الذين يسعون إلى تقويض المكاسب التي حققتها العرب الأمريكيون أو تقسيم مجتمعهم على أسس طائفية، أو إسكات أصواتهم في الساحة السياسة الأمريكية.
دعونا بداية نستعرض شيئا من التاريخ.
قبل ستة عقود فقط، لم يكن هناك مجتمع عربي أمريكي منظم، بل كان هناك أشخاص من أصل عربي في أمريكا، ومعظمهم من نسل المهاجرين في فترة الحرب العالمية الأولى.
وبما أن تلك الموجة جاءت في المقام الأول من سوريا ولبنان، فقد أكدت المنظمات التي شكلوها هوياتهم الخاصة ببلدهم أو قراهم، كما جمعت الأندية الفلسطينية أحفاد بعض القرى الفلسطينية.
وكما كان الحال مع عديد من مجتمعات المهاجرين الأخرى في هذا العصر، كانت الكنائس أو المساجد هي المؤسسات الرئيسية التي نظمت المهاجرين الأوائل من أصل عربي في الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد رفع التجميد الذي كان يمنع الهجرة من العالم العربي في فترة الخمسينيات من القرن العشرين، زاد عدد المهاجرين العرب وأصبح أكثر تنوعًا فيما يتعلق ببلدانهم الأصلية وانتماءاتهم الدينية.
هذا التغيير في تكوين المجتمع العربي الأمريكي، إلى جانب تزايد عدد الأطفال والأحفاد لأولئك الذين جاءوا قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، أدى إلى تسريع عملية تشكل الهوية العربية الأمريكية.
جلبت المجموعة الجديدة والأكثر تنوعًا من المهاجرين والطلاب العرب الذين قدموا إلى الولايات المتحدة ألأمريكية خلال هذه الفترة معهم أفكار القومية العربية السياسية التي اكتسبت رواجًا في جميع أنحاء العالم العربي.
لقد اعتنق نسل الجيل السابق من المهاجرين الهوية العربية الأمريكية لأسباب مختلفة. لقد كانوا أكثر قدرة على الحركة، وأكثر اندماجا في المجتمع الأمريكي، وبلغوا سن الرشد في فترة من الحياة الأمريكية عندما نشأ عدد من حركات الهوية العرقية.
وبدلاً من الهويات الضيقة القائمة على البلد أو القرية أو الطائفة، انجذب نسل الجيل السابق إلى أولئك الذين يشاركونهم تراثهم الثقافي من اللغة والموسيقى وحتى الطعام. ولم تكن الأيديولوجية هي التي جمعتهم، بل التراث المشترك.
والأهم من ذلك، أنها كانت فلسطين أيضًا، وهي القضية التي كانت جزءًا من التراث المشترك للمجتمع، وذلك لسببين اثنين وهما:
أولاً، كان من المفهوم أن الأمر يتعلق بظلم جسيم تعرض له الشعب العربي الفلسطيني – الذي كان للعديد منهم عائلات في الولايات المتحدة، مع تزايد أعدادهم مع ظهور موجة جديدة من المهاجرين بعد حرب عام 1967.
والسبب الثاني هو التمييز والإقصاء الذي يواجهه عديد من العرب الأمريكيين – بغض النظر عن بلدهم الأصلي – إذا أعربوا عن تعاطفهم مع القضية الفلسطينية أو حتى إذا لم يقولوا شيئا ولكن كان من المفترض أنهم مؤيدون للفلسطينيين لأنهم من أصل عربي. لقد تفاقم «الظلم هناك» بسبب «الظلم هنا».
صحيح أن أقدم المنظمات الوطنية الكبرى، ومن بينها رابطة خريجي الجامعات العربية الأمريكية والرابطة الوطنية للأمريكيين العرب، كانت مختلفة في التركيز والتكوين، إلا أنها التقت معا في الالتزام ببناء مجتمع قائم على التراث والهوية المشتركة، بما في ذلك قضية الحقوق الفلسطينية. لقد قللت تلك المنظمات من التركيز على الانقسامات على أساس الانتماء الديني أو الأصل القومي أو وضع المهاجر/المولد الأصلي.
وقد ثبت أن هذا الجهد لبناء صوت موحد سهل بالنسبة للبعض، ولكنه يمثل تحديًا بالنسبة للبعض الآخر، خاصة خلال الحرب الأهلية الطويلة التي نشبت في لبنان. لذلك فإن بعض الذين فروا من هذا الصراع الأهلي اللبناني قد جلبوا معهم هويتهم الطائفية ومظالمهم.
كما أثر التوتر بين أولئك الذين عرفوا بشكل أساسي على أنهم لبنانيون أو فلسطينيون أو سوريون، أو أولئك الذين أكدوا هوياتهم المسيحية أو الإسلامية، في الجهود المبذولة لبناء مجتمع موحد.
ومع ذلك، فقد استمرت هذه المنظمات وثابرت في عملها.
في عام 1980، قمنا أنا والسيناتور السابق جيمس أبو رزق بإطلاق اللجنة الأمريكية العربية لمكافحة التمييز لمعالجة الصور النمطية السلبية عن العرب في وسائل الإعلام والثقافة الشعبية، والتمييز في جميع مجالات الحياة. كان المجتمع العربي الأمريكي جاهزا.
وبينما كنا نسافر من مدينة إلى أخرى في مختلف أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية، فقد ساهمت الفعاليات والأنشطة التي عقدناها في تعزيز صفوفنا بعشرات الآلاف من العرب الأمريكيين من كل جيل وبلد وانتماء ديني.
أتذكر حفل عشاء أقيم في مدينة شيكاغو عام 1981 شارك فيه حوالي 1500 شخص. بدأ المنظم المحلي ذلك الحفل في تلك الليلة مطالبًا بدوره من القادمين من لبنان وفلسطين ومصر والأردن ومن هم في الأسفل بالوقوف. واختتم كلامه بالإشارة إلى كم كان رائعًا أننا جمعنا مثل هذا الحشد المتنوع بهوية مشتركة ووحدة في الهدف.
وبعد الدمار الذي أحدثه القصف الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، أطلقنا مشروع «أنقذوا لبنان» لجلب الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين الجرحى إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتلقي العلاج غير المتاح في لبنان، نظراً للدمار الذي لحق بمستشفيات بيروت الغربية.
وبعد إرسال أولئك الأطفال اللبنانيين والفلسطينيين إلى المستشفيات الأمريكية وإلى المجتمعات العربية الأمريكية التي عرضت استضافتهم، سمعت شكاوى من عدد قليل من أفراد المجتمع العربي الأمريكي.
لقد كانوا يقولون آنذاك في أحد الأماكن على سبيل المثال: «نحن فلسطينيون وقد أرسلتم لنا طفلاً لبنانياً [أو العكس]». أو «نحن مسيحيون وأرسلت لنا طفلا مسلماً [أو العكس]».
ومع ذلك، فقد واصلنا وثابرنا.
وفي النهاية، وقع كل مجتمع في حب الأطفال الذين استضافوهم، واحتضنوا بكل فخر ما فعلوه من أجل ضحايا الحرب الأبرياء. وبينما كنا نتنقل من مدينة إلى أخرى لجمع الأموال لجلب المزيد من الأطفال، تحدثت عن هذا العناق: «لقد أحضرنا الأطفال إلى هنا لنعالجهم وقد تعافينا نحن معهم في النهاية».
خلال العقد التالي، شهدت المنظمات العربية الأمريكية العديد من التطورات الرئيسية نذكر منها على سبيل المثال الحملات الرئاسية لجيسي جاكسون، وهي أول حملة رحبت بالعرب الأمريكيين في التيار السياسي الرئيسي؛ وتعزيز نمو المؤسسات العربية الأمريكية التي تركز على الخدمات الاجتماعية، والحفاظ على التاريخ والثقافة العربية وتعزيزهما؛ ورد فعل الجماعات اليهودية الأمريكية الكبرى المؤيدة لإسرائيل، والتي وصفت المجتمع العربي الأمريكي بأنه «خيال» وضغطت على الآخرين لاستبعاده وإقصائه؛ وإنشاء المعهد العربي الأمريكي الذي يركز على تعبئة العرب الأمريكيين في كل مجالات السياسة الأمريكية والخدمة العامة ــ تعبئة الناخبين، ودعم المرشحين، والمشاركة في مداولات السياسة الداخلية والخارجية.
لقد شهدت العقود الثلاثة الماضية إنجازات كبيرة وتحديات جديدة للمجتمع العربي الأمريكي. فقد برز العرب الأمريكيون كجمهور انتخابي مهم تتودد إليه الحملات السياسية، ويتم انتخابهم لمستويات الحكومة الفيدرالية ومستوى الولايات والمستوى المحلي. تقوم وكالات الخدمة الاجتماعية والثقافية برعاية المهاجرين الجدد وتثقيف الآخرين حول مساهمات المجتمع في الحياة الأمريكية.
لقد أصبح شهر التراث العربي الأمريكي معترفاً به رسمياً من خلال إعلان رئاسي، ويحتفل به حكام الولايات والمجالس التشريعية في كل ولاية تقريباً، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى عمل المؤسسة العربية الأمريكية.
وبطبيعة الحال، مع هذا الاعتراف المتزايد يأتي الضغط المتزايد من تلك القوى التي تسعى إلى إحباط نمو المجتمع وإسكات أصواته. لقد أصبح أعضاؤها يتوقعون ذلك وقد عززوا أنفسهم للقتال. أما الأمر الأكثر صعوبة في التعامل معه فهي الجهود المبذولة لتقسيم المجتمع.
بدءاً من إدارة بوش الابن، ومروراً بإدارة أوباما، والآن تسارعت الجهود المبذولة في عهد بايدن في البيت الأبيض لإضفاء طابع طائفي على المجتمع من خلال الخلط بين العرب الأمريكيين والمسلمين الأمريكيين، ومن ثم تقسيم جهود التواصل مع «العرب المسيحيين». ولأن هذا الجهد قد بدأ على أعلى المستويات الحكومية، فقد امتد إلى وسائل الإعلام وحتى إلى بعض مبادرات المجتمع المدني.
لقد اتحدت المنظمات الوطنية المختلفة التي تمثل العرب الأمريكيين في رفض هذا الجهد الرامي إلى محو الهوية العرقية وغير الطائفية للمجتمع وإعادته إلى أيام الانقسام.
يحتفظ الأمريكيون العرب بالحق في تعريف أنفسهم بناءً على تاريخهم وتراثهم المشترك. إنهم يظلون موحدين في جهودهم لمكافحة التمييز والإقصاء السياسي، والتزامهم المشترك بالنضال من أجل العدالة للفلسطينيين وسياسة خارجية أمريكية أكثر توازنًا تعزز السلام والأمن والازدهار لجميع دول العالم العربي.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك