في العقدين الماضيين تنامت نسبة النزاعات الداخلية المسلحة حتى أضحت تحصد الآلاف من الأرواح وتخلف مئات الآلاف من الجرحى والمصابين والمشردين خارج حدود أوطانهم وتدمر البنى التحتية وتقضي على كافة مقومات الدولة، فكانت النتيجة نزوحا جماعيا وفقرا ومجاعات وأوبئة وأمراضا وتخلفا وجهلا وضياع الحقوق وغياب الأمن والعدالة الاجتماعية وتنامي الفرقة والتمييز بين طبقات المجتمع وتقسيم المجتمعات عرقياً وحزبياً ونهب ثروات البلد وضياع سيادته وحرية قراره، وباتت هذه النزاعات تشكل خطراً على السلم والأمن الدوليين أكبر من النزاعات المسلحة الدولية بين دول مختلفة.
غالباً ما تتمحور الخلافات الداخلية حول مسألة الحكم وإدارة الدولة ووفقًا لأي نظام حكم وتقاسم النفوذ، ويُنظر إلى الصراع على أنه عملية يُدرك فيها أحد الأطراف أن مصالحه تتعارض أو تتأثر سلباً من قبل طرف آخر، ثم ما تلبث أن تتطور الخلافات فتبدأ التدخلات الخارجية تؤجج الفتنة بين الفرقاء فيتنامى الشقاق بين أطراف النزاع ويبدأ «النزاع المسلح المدَّول Internationalized Armed Conflict» هذا النوع من النزاعات تكون في الأصل داخلية مسلّحة بين أطراف محلية، لكنها في لحظة ما وفي ظروف معينة تُصبح مدوّلة من خلال تدخل خارجي مسلّح لصالح أحد الأطراف أو لجميع أطراف النزاع، وذلك بهدف التأثير على نتيجة النزاع وتحقيق مصالح سياسية واقتصادية معينة سواءً أكان هذا التدخل بشكل علني أو مستتر.
التدخل الخارجي سيف ذو حدين إما يحقق السلام ويضع حداً للنزاع وإما يزيد من شراسة الصراع ويقضي على كل السبل الممكنة للتسوية بين الأطراف المتنازعة، ولعل معظم التجارب السابقة أظهرت أن التدخل الدولي غالباً ما يهدف إلى زيادة الخلاف وديمومة الصراع باستثناء تدخل الجوار الإقليمي كون دول الجوار أحد المتضررين من أي صراع داخلي للدول المجاورة، وبطبيعة الحال لا يوجد تدخل خارجي إلا ويكون مقروناً بمصالح وأجندات يُراد تحقيقها من خلال دعم أحد أطراف النزاع ضد الآخر، حيث إن ممارسة القوى الخارجية أدواراً في دعم بعض الأطراف المتصارعة وتقويض الأخرى يجعل الحروب بالوكالة مستعصية الحل ويُعرقل العديد من المساعي المحلية لحلها فيُصبح الصراع ثلاثي المستويات صراع محلي إقليمي دولي، وفي مرحلة من مراحل الصراع إذا تصالح طرفا النزاع قد لا تتصالح الأطراف الخارجية الأخرى فتفشل أي مبادرة لحل الخلاف وتقريب وجهات النظر هذه المستويات الثلاثة المتداخلة تغذي وتؤثر على بعضها البعض على نحو لا يتحكم فقط في تأجيج الصراع وإنما في مواجهته وتسويته أيضاً، هكذا كانت عقيدة الرئيس الأمريكي نيكسون عندما قال: ليس من شأننا حل أي صراع دولي وإنما واجبنا التدخل لإدارته، كذلك أصدر البيت الأبيض في 16 مارس 2006، وثيقة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي بدأها الرئيس بوش بتأكيد السعي إلى تغيير العالم ولعب دور أكبر في الأحداث.
عندما يتوسع الخلاف المحلي إلى المستوى الدولي الثالث في هذه الحالة تغيب أهمية الدولة محل الصراع وحقوق ومصالح شعبها وتتدخل السياسية العالمية ومصالح الدول الداعمة فتحتكم عملية التفاوض للقواعد العالمية ووزن ونفوذ كل لاعب سياسي ضمن عملية التفاوض، وبذلك يُصبح النفوذ هو عملة القوة في إعادة تشكيل النظام العالمي وبطبيعة الحال تشكل الصراعات المحلية مرايا للنزاعات العالمية؛ حيث تعكس طريقة اشتعالها، وتكشّفها، واستمرارها، وتسويتها التحولات في علاقات القوى العظمى.
إشعال الصراعات أمر سهل نسبيا في ظل وجود عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية محفزة ولكن ثمنه باهظ جداً، والمساعدة في بناء هياكل حكم فعالة وشرعية أمر بالغ الصعوبة، الشاهد أن البلد محل الصراع والذي يحتوي على ثروات طبيعية أو موقع جغرافي استراتيجي أو ثروة تاريخية كل هذه المميزات تُصبح عبئاً وسبباً لتدويل وإطالة الصراع بسبب تقاطع المصالح للجهات الخارجية الفاعلة وأطماعها التوسعية التي تحول دون تحقيق سلام دائم والأمثلة كثيرة لعل أبرزها المشهد السوري والليبي والعراقي والصومالي واللبناني.
هذه المستويات الثلاثة ما إن تتداخل مصالحها في بلد ما فلن يكون هناك توافق على الحكم ولن تنجح جميع الأطراف المحلية في الاستقرار إذا ما أرادت ذلك، في الوقت الذي تغذي فيه القوى الإقليمية والدولية الصراع بالمال والأسلحة وتغيّر من ميزان القوى استغلالاً للفراغات السياسية والأمنية واستغلال الفرص لتحقيق مكاسب اقتصادية وجيوسياسية وتُضعف من مساعي الفصائل المتحاربة للوصول إلى حل وسط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك