كتابٌ نال شرف «أكثر الكتب مبيعاً» من صحيفة النيويورك تايمز العريقة قبيل نشره في 29 مارس 2024، فهو يُعد إضافة نوعية قيِّمة إلى الملايين من الكتب المنشورة التي تباع شهرياً في كل أنحاء العالم وتأخذ مكانها في نهاية رحلتها في رفوف المكتبات حول العالم.
فهذا الكتاب يتناول قضية حيوية مصيرية تعاني منها المجتمعات في كل أنحاء العالم، وتتفاقم هذه المعاناة وتزيد في وتيرة سرعتها ونطاق ودائرة تأثيرها عاماً بعد عام، كما أن هذا الكتاب في الوقت نفسه يمس أهم فئة عمرية في كل مجتمعات العالم من دون استثناء، وهي فئة فلذات أكبادنا من الأطفال والمراهقين والشباب، فهي الفئة التي تُشكل القاعدة الأساسية الصلبة للبناء والنمو المستدام لأي مجتمع.
فهذا الكتاب يواجه بالأدلة العلمية، والتقارير الفنية، والاحصائيات الموثوقة قضية الصحة العقلية والنفسية للأطفال في أمريكا خاصة، وفي معظم دول العالم عامة. كما أن هذا الكتاب يوجه تحذيراً إلى كافة أفراد المجتمع، من أولياء الأمور، ومن قادة المدارس، وعلماء الاجتماع والنفس، والحكومات من أداة أصبحت اليوم رفيقة وصاحبة كل إنسان ولا غنى عنها، بل لا يمكن التخلص منها وتجنب الاعتماد عليها في جميع شؤون حياتنا، سواء من صغار السن أو من الكبار. وهذه الأداة هي الهاتف النقال، وبالتحديد الهاتف النقال الذكي، وما يحتويه من خير وشر، ومن غثٍ وسمين، ومن صلاح وافساد، من وسائل الاتصال الاجتماعي بجميع أنواعها، ومن تطبيقات لا تعد ولا تحصى. فهذا الجهاز اليدوي المحمول الصغير بدأ يتحول اليوم إلى تهديد ينذر بوقوع كارثة عامة، ووباء صحي عقلي ونفسي ينزل على أطفالنا والبالغين والشباب، فيُعرضهم للإصابة بالأمراض النفسية المتمثلة في القلق والاكتئاب والرغبة في الانتحار.
فقد جاء عنوان هذا الكتاب وهو يعكس هذه التحذيرات الاجتماعية والنفسية، ويعكس الاستنتاجات التي توصل إليها الكاتب من غزو الأمراض النفسية والعقلية وتوغلها في نفوس الأطفال والمراهقين وصغار السن بسبب التطرف الشديد في الاعتماد على هذا الجهاز البسيط في حجمه، والعصيب في تأثيراته، والذي تركنا له العنان في امتلاك أطفالنا له والإدمان في استعماله، والتجول بكل راحة وحرية في فضاء الإنترنت اللجي، حيث صدر الكتاب تحت عنوان: «الجيل القلق: كيف تتسبب عملية التجديد الخيوط الكبرى في مرحلة الطفولة في انتشار وباء المرض العقلي».
فهذا الكتاب يتناول قضية جيلٍ فريد من نوعه في تاريخ البشرية جمعاء، وهذا الجيل الغريب بدأ يتكون رويداً رويداً منذ مطلع الألفية الأولى من هذا القرن، حيث يدور محور حياة هذا الجيل الجديد، وجل تركيزه واهتمامه اليومي على الشاشات عموماً، كشاشة التلفاز، والحاسب الآلي، والآي باد، وبشكلٍ خاص الهاتف النقال الذكي، حتى يمكن أن نُطلق عليه «جيل الهاتف النقال»، أو بحسب ما أَطلق عليه مُؤلف الكتاب «جيل القلق».
فقد جاء الجزء الأول من الكتاب تحت عنوان: «موجة المد»، حيث يستعرض أصل المشكلة وجذورها وكيفية نشوئها في مجتمعاتنا، ثم كيفية تحولها مع الوقت إلى وباء صحي يطغى على عقول ونفوس الأطفال والمراهقين في الكثير من دول العالم. والجزء الثاني يقدم خلفية عامة حول هذه القضية المجتمعية العقيمة، ويستعرض أهم الاحصائيات التي تثبت واقعية هذه الظاهرة. وأما الجزء الثالث من الكتاب فعنوانه: «التجديد العظيم»، ويتناول مرحلة الطفولة وطبيعتها واحتياجاتها، وكيف أن مرحلة الطفولة التي من المفروض أن يقضيها الطفل بين الألعاب الداخلية والخارجية، واستكشاف العالم الخارجي، أخذت تتحول إلى نوع آخر غير مسبوق ومبني على الهاتف النقال، ومحوره محتوى هذا الهاتف، من أدوات الاتصال الاجتماعي، والألعاب المتنوعة، والتطبيقات غير المتناهية. وهذه الظاهرة المستجدة والمتفاقمة أثرت على الأطفال اجتماعياً، وسلوكياً، وعقلياً، ونفسياً، مثل الحرمان من النوم، وعدم التركيز، والوحدة، والإدمان. كما يبين الكتاب كيف أن هذه الأداة أشد وطأة وتأثيراً على البنات مقارنة بالأولاد، حيث تُخرجهن من حياتهن الطبيعية الواقعية إلى الحياة الافتراضية الخيالية. وهذه التأثيرات لا تنعكس على الفرد فقط، وإنما تتعداه إلى أفراد الأسرة الصغيرة ثم المجتمع برمته. وأخيراً يدعو الكاتب في الجزء الرابع إلى تبني مجموعة من الحلول واتخاذ إجراءات جماعية مجتمعية لحماية الطفولة من تغلغل هذه الأداة. كما يقترح أربع قواعد بسيطة يمكن تنفيذها، وهي موجهة إلى كل شرائح المجتمع، كل بحسب مسؤوليته، ودوره، وتخصصه، فمنها ما هو موجه نحو أولياء الأمور، والمدرسين والمدرسة عامة، إضافة الشركات التقنية المنتجة للبرامج والتطبيقات، ومنها ما هو موجه إلى الحكومات والأجهزة التشريعية من أجل وضع القوانين والأنظمة للتصدي لهذا الوباء المستشري والطاغي على أطفالنا، والعمل على القضاء عليه كلياً، وارجاع الطفل مرة ثانية إلى حالته الطبيعية الواقعية، وبيئته الخارجية العملية.
أما الأسئلة الواقعية المحيرة التي يطرحها الجميع فهي: متى يمكن لأطفالنا أن يمتلكوا هاتفاً محمولاً خاصاً بهم؟ وفي أي عمر يمكن لهم استكشاف بحر التواصل الاجتماعي المغري والفاسد في بعض جوانبه، والمفيد والنافع في جوانب أخرى؟ وما هي الاحتياطات التي يمكن اتخاذها لمنع غرق أطفالنا في بحر محتوى الهاتف النقال؟
في الحقيقة لا يوجد حتى الآن اجماع دولي يقدم الإجابة السهلة والبسيطة لهذه التساؤلات الخطيرة. فعلى سبيل المثال، كتابُنا الحالي انطلاقاً من نتائج الدراسات لسنوات طويلة، يوصي بعدم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي إلا في المرحلة الثانوية، وفي عمر قرابة 16 سنة، حيث أكدت هذه الدراسات وجود علاقة قوية بين استخدام الأطفال والمراهقين للهاتف النقال ومخاطر الإصابة بالأمراض النفسية والعقلية. وأما حكومة فلوريدا الأمريكية فقد سنَّت تشريعاً يمنع تعرض الأطفال لوسائل الاتصال الاجتماعي لمن هم دون الـ14 من العمر، وبريطانيا تعمل على منع بيع الهاتف النقال على من هم أقل من 16 عاماً، علماً بأن أقل عمر لاستخدام وسائل الاتصال الاجتماعي (الواتس أب) في بريطانيا هو 13 سنة، وهناك خطة الآن لرفعه إلى 16 سنة.
فهذه المعضلة المعقدة والمتشابكة تنطبق على جميع وسائل التقنية الحديثة، منذ ظهور التلفزيون في منازلنا، ثم الحاسب الآلي الشخصي، ثم الهاتف العادي، وأخيراً الهاتف الذكي، فجميعها وسائل تعد سلاحاً ذا حدين. ولذلك على الفرد أولاً، ثم أولياء الأمور وباقي فئات المجتمع العام والخاص تحمل كل منهم لمسؤوليته في توجيه هذه الأجهزة الحديثة، وخاصة الهاتف المحمول نحو الخير والصلاح، وبناء الفكر والعقل السليم، وتنمية المجتمع، والعمل على التوازن في استعماله، وعدم الإفراط في استخدامه، والسيطرة عليه كلياً قبل أن يخرج من السيطرة فيتَحَكمْ في نفوسنا وعقولنا، ويتحول إلى عامل هدم وفساد للفرد والأسرة والمجتمع.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك