استغلقت حرب غزة على أي أفق سياسي يفضي إلى وقف الإبادة الجماعية والتجويع المنهجي لأهلها المحاصرين. لا إسرائيل حسمت أيا من هدفيها، اجتثاث «حماس» واستعادة الرهائن من دون أثمان سياسية.
ولا غزة أظهرت بوادر الاستسلام رغم ضراوة العدوان عليها. عند الأفق المسدود بالنيران المشتعلة وتعطيل أية صفقة جديدة توقف الحرب يجرى خلالها تبادل الأسرى والرهائن تبدو المنطقة كلها «على شفا الانفجار» .كان ذلك تحذيرا مدويا لأمين عام الأمم المتحدة «أنطونيو جوتيرش» أمام مجلس الأمن الدولي. بنص تحذيره: «الوضع هش».
في الليلة نفسها، التي أطلق فيها تحذيره، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» لإجهاض مشروع قرار قدمته الجزائر لإكساب دولة فلسطين العضوية الكاملة في المنظمة الدولية .كان ذلك تأكيدا عمليا، على ما ذهب إليه. بنفس الليلة شنت إسرائيل هجوما، رمزيا ومحدودا، على «أصفهان» و«تبريز» ردا على هجوم إيراني بمئات المسيرات والصواريخ الباليستية.
عند انسداد الأفق السياسي بكتل النيران تأكدت معادلة ردع جديدة في الشرق الأوسط. لم تعد إسرائيل محصنة من الهجوم عليها.. ولا مطلقة السراح أن تفعل ما تشاء في الوقت الذي تشاء وبالكيفية التي تراها.
الحسابات الاستراتيجية خشية التورط في حرب إقليمية واسعة وضعت حدودا للهجومين الإيراني والإسرائيلي. وصف الأول على شبكة التواصل الاجتماعي بـ«مسرحية هزلية».
ووصف الثاني على لسان وزير الأمن القومي الإسرائيلي «إيتمار بن غفير» بأنه «مسخرة». في الوصفين المتعجلين قراءة تحكمها المواقف المسبقة لا الحسابات الاستراتيجية وتوازنات القوى المستجدة في الإقليم بعد الحرب على غزة.
ما جرى مشهد افتتاحي لما قد يحدث تاليا من انفجارات ومخاطر إذا لم توقف الحرب على غزة وينفسح المجال لحل سياسي ينصف القضية الفلسطينية. الحرب الإقليمية قد تؤجل فترة أو أخرى دون أن تغادر أشباحها الإقليم المأزوم. هذه حقيقة لا يصح التجهيل بها، أو استبعادها بالأماني المحلقة. لست مرات في أقل من سبعة أشهر استخدمت الولايات المتحدة حق النقض في مجلس الأمن لإجهاض أي قرار دولي يتبنى وقف إطلاق نار فوري ومستدام، أو إعطاء الفلسطينيين شيئا من الأمل بترفيع تمثيلهم في المنظمة الدولية إلى العضوية الكاملة.
في جلسة مجلس الأمن، التي واكبت العملية الإسرائيلية المحدودة و«الخجولة» بالأراضي الإيرانية، نفى وزير خارجيتها «يسرائيل كاتس» عن إيران شرعية وجودها في الأمم المتحدة باعتبارها «دولة إرهابية»، أو أن يكون للفلسطينيين دولة كاملة العضوية للسبب نفسه! «هذا مجلس إرهاب.. لا مجلس أمن» كانت تلك إهانة للأمم المتحدة، وللأغلبية الساحقة التي صوتت لصالح منح فلسطين العضوية الكاملة وجرأة متناهية بالنظر إلى أن إسرائيل متهمة أمام محكمة العدل الدولية بارتكاب جرائم إبادة جماعية.
عبر الانسداد السياسي عن نفسه بـ«الفيتو» الأمريكي. ناقضت واشنطن خطابها المعلن بتبني «حل الدولتين» كمدخل لا بديل عنه في أي تسوية سياسية تقتضيها ضرورات خفض التصعيد في الشرق الأوسط. التصرفات ناقضت الادعاءات.بالتسويغ الأمريكي فإن إكساب الفلسطينيين العضوية الكاملة يقوض مفاوضات صفقة تبادل الأسرى والرهائن، التي تفضي إلى وقف إطلاق النار المستدام! كان ذلك تسويغا معوجا بأي منطق سياسي، أو شبه سياسي.
بتسويغ بريطاني، أكثر تمكنا في الصياغة تهربا من اتخاذ موقف تأخر وقته كثيرا، فإنه يتوجب تأجيل ترفيع التمثيل الفلسطيني إلى وقت موات! الانكشاف كان فادحا، فلا جدية التزام بـ«حل الدولتين»، الذي يقره الخطاب الدبلوماسي الدولي بالإجماع.
قد تجرى أحيانا إشارات لافتة إلى عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، أو الانتهاكات المروعة، التي يرتكبها المستوطنون، أو إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة بصورة مستدامة وكافية دون أن تصحبها إجراءات تعاقب وتردع وتجعل حل الدولتين ممكنا. بقوة الحقائق فإنه وهم من الأوهام التي تساقطت في الحرب على غزة. دون أية أوهام إضافية فإن الولايات المتحدة طرف رئيسي في الحرب على غزة. لم يكن بوسع إسرائيل تمديد العدوان لنحو سبعة أشهر، ما لم تكن الإدارة الأمريكية توفر لها غطاءً عسكريا واستراتيجيا كاملا.
قد تتحفظ على مستوى كفاءة المستويين السياسي والعسكري في إدارة الحرب، لكن الأهداف واحدة والخلاف لا يتعدى التكتيك إلى الاستراتيجية. بالقياس العسكري فإنها حرب غير متناظرة، جيش يقال عنه بالادعاء إنه أقوى جيش في الشرق الأوسط يطلب الانتقام من مجموعات مقاومة محدودة التسليح حتى يستعيد قدرته على تخويف من حوله التي تقوضت في السابع من أكتوبر.
أفلت «الانتقام الدموي»، بتعبير «جوتيريش» عن أي قيد أخلاقي، أو سياسي وقانوني. مضت حرب الإبادة والتجويع إلى حد استهداف موظفي الإغاثات الدولية والأطقم الطبية وكل ما يتحرك في الشوارع، أو يختبئ في البيوت المهدمة.
مرات عديدة طلبت واشنطن إجراء تحقيق بشأن جريمة أو أخرى، ثم لا يحدث شيء، كأن إسرائيل دولة فوق القانون الدولي! صمدت المقاومة الفلسطينية بأكثر من أي توقع سابق، لم يكن أمامها غير أن تقاتل حتى النصر أو الاستشهاد، ثم كان الصمود الأسطوري للفلسطينيين داعيا إلى إجهاض مشروع التهجير القسري بالتشبث حتى الموت بأراضيهم وعدم مغادرتها أو الانقلاب على المقاومة رغم الآلام، التي لا يطيقها بشر.
أكدت الحقائق نفسها، يستحيل تماما إلغاء القضية الفلسطينية، أو نفي شرعيتها، وحق شعبها في تقرير مصيره بنفسه. تم لإحياء القضية الفلسطينية من تحت الرماد، وأثبتت الحرب أن هزيمة إسرائيل ممكنة. تغيرت معادلات الردع في الشرق الأوسط كله.
إذا لم يكن هناك أفق سياسي يضع حدا للمعاناة الفلسطينية فإن الإقليم كله، لا الأرض المحتلة وحدها، سوف يدخل في دوامات عنف وفوضى لا يسلم منها بلد أو نظام. تمديد العدوان على غزة، يجعل الانزلاق إلى حرب إقليمية سيناريو محتملا دون أن يغادر المشهد المشتعل انفلاتا بالنيران في رفح، ينال من مليون ونصف المليون نازح، أو اجتياحا للجنوب اللبناني بذريعة تأمين الشمال الإسرائيلي وإعادة المستوطنين إلى بيوتهم.
لا يمكن العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، ولا تلخيص القضية الفلسطينية في معونات ومساعدات إنسانية يحتاجها أهالي غزة المحاصرين. إنها قضية تحرر وطني أولا وأخيرا. هذه حقيقة يفضي التجهيل بها إلى انفجار الإقليم كله، إذا لم يكن اليوم فإنه حادث لا محالة.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك