فقدت السياسات التي اتخذتها الحكومات الغربية في التعامل مع الحرب الإسرائيلية على غزة، مع استمرار حكومة «نتنياهو»، اليمينية المتطرفة في استهداف المدنيين الفلسطينيين، وتدمير القطاع؛ تأييد غالبية الشعوب الغربية. ففي المملكة المتحدة، يعتقد 66% من المواطنين أن إسرائيل يجب أن توقف قصفها وتوافق على وقف إطلاق النار، كما أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب» في أواخر مارس أن (55%) من الأمريكيين لا يؤيدون استمرار الحرب. ومن بين ناخبي الحزب الديمقراطي، يعترض ثلاثة أرباع الناخبين، ويوافق أقل من النصف على طريقة تعامل «بايدن» مع هذه الأزمة.
وتنعكس المعارضة الشعبية الواسعة للحرب ودور القوى الغربية الكبرى في استمرارها؛ على الانتقادات الحادة من قبل الأكاديميين، وجماعات حقوق الإنسان والمراقبين. وعقب أشهر من العمل غير الكافي والوعود الكاذبة بشأن ممارسة النفوذ ضد إسرائيل لإنهاء التدمير والقتل والتصعيد الإقليمي الذي جلبه ذلك؛ زادت دعوات إنهاء مبيعات الأسلحة الغربية لها؛ مع الاعتراف بدور هذه الذخائر في السماح لها بشن عدوانها، خاصة وأن قطع هذا الإمدادات من شأنه إرسال رسالة مفادها أنها لا تستطيع أن تفعل ما تريد ضد الفلسطينيين.
ومع رفض أغلبية الأمريكيين والبريطانيين دور بلديهما في استمرار هذه الحرب ودعمهما العسكري لحكومة نتنياهو؛ فإن القادة في كلا البلدين رفضوا الضغوط التي تهدف إلى إجراء تغيير جوهري في مواقفهما، وفي بالمقابل، أكدوا مجددًا دعمهم الثابت لإسرائيل في سياق توتراتها مع إيران، دون النظر إلى كيفية تأثير ذلك في الأوضاع الإقليمية. ومع ذلك، فإن هذا التأطير لا يمكن أن يفسر بشكل كافٍ سبب فشلهم في منع استشهاد آلاف الفلسطينيين، وتدمير القطاع.
وتسبب استهداف إسرائيل لعمال الإغاثة من منظمة «المطبخ المركزي العالمي»، في زيادة الإدانة المحلية لسياسات الحكومتين الأمريكية والبريطانية تجاه الحرب. وفي المملكة المتحدة، كان ثلاثة قضاة سابقين في «المحكمة العليا»، من بين 600 قانوني، قد كتبوا إلى «سوناك»، للمطالبة بإنهاء مبيعات الأسلحة إلى إسرائيل، فضلا عن مطالبة مجموعة من نواب البرلمان بالمثل. وانتقد «آلان دنكان»، وزير الخارجية السابق استمرار الحكومة في دعم قوات الاحتلال، ووصفه بأنه «غير مقبول أخلاقيا»، ورأى «نيكولاس سومز»، القيادي البارز بحزب المحافظين، أن إنهاء تزويد إسرائيل بالأسلحة من شأنه أن يرسل «رسالة مهمة» لإظهار أن بريطانيا «ليست مستعدة لتأييد هذه «المأساة المستمرة».
ومن داخل الحكومة الأمريكية، رأت «أنيل شيلين»، التي استقالت من «وزارة الخارجية»، احتجاجًا على موقف بلادها من الحرب في غزة، أنه «مهما كانت المصداقية التي كانت تتمتع بها واشنطن كمدافعة عن حقوق الإنسان، قبل أكتوبر 2023، فقد تلاشت بالكامل تقريبًا منذ بدء الحرب»، وروت كيف أنها وزملاءها «شاهدوا في حالة رعب»، استمرار إدارة بايدن في تسليم «الآلاف من الذخائر الموجهة بدقة والقنابل، والأسلحة الصغيرة وغيرها من المساعدات الفتاكة إلى إسرائيل»، حتى عندما قضت «محكمة العدل الدولية»، بارتكابها جرائم إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. وانتقد «بريان فينوكين»، المسؤول السابق بالوزارة «الإخفاقات الواضحة» لمعايير الحكومة بشأن صادرات الأسلحة، موضحا أن اللوائح الحالية هي مجرد «توجيهات»، تحل محلها قرارات سياسية في «غياب ثوابت تدعمها».
ومع اعترافه بـ«المخاوف الجسيمة»، بشأن منع إسرائيل المتعمد لوصول المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة، أصر وزير الخارجية البريطاني اللورد «كاميرون»، على أن تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل ستبقى دون تغيير، مؤكدا أن «بريطانيا تقف إلى جانب حلفائها وتعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس». وفي حديثه لإذاعة «ال بي سي»، دافع «سوناك»، عن استمرار حكومته في إرسال المعدات العسكرية على أساس أنه «لم يقم أي من أقرب حلفائنا بتعليق تراخيص الأسلحة أيضًا». وفي واشنطن، ذكر «جوليان بورغر»، و«بيثان ماكيرنان»، في صحيفة «الجارديان،» أن «إدارة بايدن»، أعلنت أن استمرار دعمها لإسرائيل يرجع للتوترات بين الأخيرة وإيران على خلفية استهداف المجمع الدبلوماسي في سوريا. وفي خطابه، في العاشر من أبريل، أصر «بايدن»، على أن حكومته سوف تبذل «أقصى جهدها لحماية أمن إسرائيل».
وتعليقا على ذلك، أشار «ماكس ماتزا»، و«ويل فيرنون»، من شبكة «بي بي سي نيوز»، إلى أن تأكيد «بايدن»، مجددًا على الدعم العلني لإسرائيل جاء بعد أقل من «يوم واحد» على انتقاده لسلوكها في قطاع غزة، ودعوته إلى وقف إطلاق النار. وربما يعود هذا التغيير إلى اعترافه في ديسمبر 2023، بأنها «تفقد أي تعاطف دولي متبق لها»؛ بسبب حربها وتدميرها العشوائي للقطاع، لكنه لن «يفعل شيئًا في المقابل سوى حمايتها»، زاعما دفاعه عن حل الدولتين.
وعليه، يبدو التناقض المستمر منذ عقود حول الكيفية التي يمكن بها للإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، دعم «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، بشروط غير محدودة من ناحية، بينما يتم الادعاء من ناحية أخرى دفاعهما عن حقوق المدنيين الفلسطينيين.
وبشكل واضح، لا يمكن التغاضي عن حقيقة فشلهما في اتخاذ إجراءات حاسمة لإنهاء الحرب في غزة والمعاناة الإنسانية الهائلة التي سببتها، واستشهاد آلاف المدنيين الفلسطينيين، في الوقت الذي حالتا دون صدور قرارات من «مجلس الأمن»، التابع للأمم المتحدة لإدانة إسرائيل في أواخر عام 2023، ونفذتا في المقابل موجات من الضربات الجوية ضد الحوثيين في اليمن بعد هجماتها على سفن الشحن التجارية في البحر الأحمر المرتبطة بإسرائيل، فضلا عن إعادة تأكيد دعمهما ضد تهديدات إيران لها.
بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تعترف الحكومات الغربية بأنه على الرغم من تحذيراتها للدول الإقليمية الأخرى لتجنب التصعيد؛ فإن إسرائيل هي التي قامت بجر هذه الدول إلى الصراع من خلال شن ضربات استفزازية؛ فبعد هجومها على «بيروت»، وهجماتها المتكررة على «جنوب لبنان»، جاءت الضربة الإسرائيلية ضد «دمشق»، والتي وصفها «جيمس شوتر»، و«بيتا غفاري»، في صحيفة «فاينانشيال تايمز»، بأنها «أخطر ضربة استهدفت طهران منذ اغتيال واشنطن لـ قاسم سليماني عام 2020». ولعل الهدف من وراء تلك الضربة كان كما أوضحه «فواز جرجس»، من «كلية لندن للاقتصاد»، هو التأكد من أن إيران غير قادرة على الرد.
وعلى الرغم من أن «دانيال برومبرغ»، و«باتريشيا كرم» من «المركز العربي»، أشارا إلى أن حكومة «نتنياهو» «راهنت» على عدم رد «طهران»، بشكل مباشر في بادئ الأمر، لكنهما حذرا من أن الوضع برمته ربما ينطوي على مخاطر ستشعل بؤر التوتر الإقليمية كما هو الحال في لبنان في أي وقت. وفي سيناريو التصعيد الأكثر خطورة بين إسرائيل وإيران فيما يتعلق بحزب الله، أكدا أن «واشنطن»، لن تمنع ذلك التصعيد، لأسباب ليس أقلها أنها تقف «بحزم» إلى جانب إسرائيل.
من جانبه، أكد «مارتن إنديك»، المبعوث الأمريكي الخاص للمفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية خلال رئاسة «باراك أوباما»، أن «السخاء الأمريكي»، في الدعم العسكري لإسرائيل، قد «ولد شعورا باستحقاق ذلك» لدى القادة السياسيين والعسكريين الإسرائيليين، الذين بات بإمكانهم مهاجمة دول مجاورة ومنافسين إقليميين دون عقاب ما. ولعل حقيقة تعهد وزير خارجية إسرائيل «يسرائيل كاتس»، بأن حكومته ستهاجم إيران مباشرة في حالة أرادت الانتقام منها، يؤكد هذا التصور، وأنه لا يمكن المساس بها، طالما أنها تقبع وراء درع دفاعي أمريكي.
ومع ذلك، فإن أُسس هذا التصور تتجلى في تَقييم «بورغر»، و«ماكيرنان»، بأن «إدارة بايدن»، تعيد تأكيد دعمها لإسرائيل باعتبارها «تسعى إلى تجنب وقوع هجوم إيراني آخر»، من خلال إرسال رسالة إلى طهران مفادها أنه لا ينبغي لها «أن تفترض أن القوات الأمريكية في المنطقة ستبقى بعيدة عن الصراع مع إسرائيل». وتوضح حقيقة مغادرة رئيس القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال «إريك كوريلا»، إلى إسرائيل للتنسيق المباشر مع وزير الدفاع الإسرائيلي «يوآف جالانت»، كيف أن الولايات المتحدة وإسرائيل تقفان جنبًا إلى جنب ضد إيران في هذا التصعيد الإقليمي.
ومع ذلك، ففي أعقاب الغارة الجوية الإسرائيلية على أهداف إيرانية في دمشق، والتهديد المعلن بالانتقام، خلص «برومبرغ»، إلى أن «الرغبة المتبادلة بين إيران وإسرائيل في تجنب الانزلاق إلى هاوية» صراع محتدم على مستوى المنطقة»، ليست كافية بجعل كلا الخصمين قادرين على منع وقوع النتيجة التي يريد كل منهما تجنبها»، وعلى هذا الأساس حث «المجتمع الدولي» على «ضرورة الضغط ليس فقط من أجل وقف الحرب في غزة، ولكن من أجل العودة إلى رؤية دبلوماسية أعمق».
على العموم، فإن التحديات التي تواجه الحكومات الغربية في التعامل مع الحرب الإسرائيلية على غزة تتطلب تقديم استراتيجيات دبلوماسية أوسع نطاقًا، بدلاً من التمسك بالدعم العسكري الأعمى لإسرائيل. وبينما قد يكون التهديد المفترض من إيران عاملاً محتملاً لتبرير هذا الدعم؛ فإن الحاجة الملحة إلى التدخل الدبلوماسي لوقف التصعيد الإقليمي لا يمكن تجاهلها لتحقيق الاستقرار في المنطقة.
وفي الأخير، تعكس هذه المواقف مرة أخرى كيف أن قادة «الولايات المتحدة»، و«بريطانيا»، مازالوا غير مستعدين لاتخاذ إجراءات حازمة نحو إنهاء الحرب، واستعادة الاستقرار الإقليمي. ومن المؤكد أن تداعيات تشجيع إسرائيل على توجيه ضربات إلى مختلف أنحاء الشرق الأوسط سوف تلقي بظلالها على مصداقيتهما في المنطقة لعقود قادمة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك