بعض النجوم مهما تألَّق بريقها في سماوات الشُّهرة يظل تألُّقها أقل مما تستحق على أرض الواقع، ومن تلك النجوم البحرينية التي مهما تكلَّمنا عن نجوميتها لا ينتهي الكلام لأن وراءها تاريخٌ فخم، وجهودٌ ضخم، وثقافةٌ عالية، ومشاعر مُرهفة، وبسَالةٌ دون حدود، نجمة الشعر الشعبي البحريني الدكتورة هنادي الجودر.
لعل أبرز السّمات اللافتة لشخصيَّة الإنسانة قبل شخصيَّة المُبدِعة هنادي الجودر اتحَّاد رهافة المشاعر بقوَّة الشخصيَّة، وحينَ نتحدث عن رهافة المشاعر هنا فإننا لا نعني تلكَ المُتجلية في صياغة نصوصها الشعرية فحسب؛ بل الكامِنة في تكوينها النفسي.. إنها من ذاك النوع الذي يمتاز بروحٍ قادرةٍ على قراءة الكثير من نظرةٍ عميقة واحدة لإنسانٍ مُقرَّب، وسماع ملايين الكلمات من كلمة أو صوت، لكن هذا النسيم من الرهافة يعرف جيدًا متى يتسلح بأقوى دروع الحَصَافة عندما يتقاطع طريقه بمن لا يفهمون أبجديَّة الذوق والحق، وهذا المزيج النادر في شخصيَّة امرأة مُثقفة من أهم عوامل ارتقائها على سلالم النجوميَّة وصمودها الباسِل على أرض الطموح.
لا عجَبَ مِن تبلوُر تلكَ الشخصيَّة الإنسانية والثقافية النادرة مادامت قد نبتَت في أرض المُحرَّق حيث لا يكف الإبداع عن التدفُّق، وترَعرَعَت في «قلالي» حيث رِفقة البحر الذي أسهم في تشكيل شخصيتها الإنسانيَّة والشعريَّة إلى الحد الذي جعلها تصفه خلال أحد حواراتها الإذاعيَّة بقولها: «البحر مؤثر بحجم عطائِه وغموضِه، فيه تلك الجوانب التي تجعلك تُحبه، وتلكَ الجوانب التي تجعلك تخشاه، كل هذه التناقضات لا بُد أن تؤثر في وجدان الإنسان القريب منه»، وعاشت طفولتها في منزلٍ تفخرُ بكونه من مقاصِد أهل المنطقة الذين يسعدون بطرق أبواب «بيت عيسى الجودر ومريم الكواري»، حيث والدها الذي يحظى بمكانة خاصة في المُجتمع وتقدير الجميع، ووالدتها التي امتازت بكونها سيدة مُجتمع ذكيَّة ونادرة.. كان والدها المُثقف ذو المكتبة الضخمة لا يكف عن حثها على القراءة، وبسببه وقعت في غرام الكُتُب واتخذت من قراءتها عادة يوميَّة منذ أن كان عمرها عشرة أعوام، كما كان حريصًا على الارتقاء بذائقتها السماعيَّة للموسيقى والكلمات المُغنَّاة؛ فإذا رآها تُنصت لما يعتبرهُ أدنى من استحقاق الإنصات سُرعان ما يُشير إليها بانتقاء خياراتٍ أكثرُ رُقيا، كما كان حريصًا على تربية أبنائه على القيم السَّامية، وتذكيرهم بضرورة أن تكون لهم شخصيَّات متميزة ومكانة عالية عند أنفسهم أولاً ثم عند الناس.. أمَّا والدتها فكانت فائقة الاهتمام بالتراث وتحفظ كمًّا هائلاً من حكايات الموروث الشعبي التي تحكي إحداها لأبنائها كُل ليلة، ويتخلل سرد القصة المُمتعة أبيات شِعريَّة آسِرة، فكان لهذا المخزون المتراكم دور عظيم في تغذية المُخيّلة وشحذ اللغة التي امتدت للتأثير في وجدان أطفال آخرين أصبحوا من مشاهير المُبدعين البحرينيين منهم ابن خالة الدكتورة هنادي نجم الإخراج التلفزيوني المُبدِع أحمد يعقوب المقلة.
مع نهايات الطفولة وبدايات المُراهقة بدأت محاولاتها لترجمة مشاعرها إلى خواطر شعريَّة، لكن خوضها غِمار الشعر الشعبي كهدفٍ جاد بدأ منذ عام 2001م، ثم صدَرت مجموعتها الشعرية الأولى بعنوان: «إلى متى؟» عام 2006م، تلَتها المجموعة الشعرية الثانية بعنوان: «أرهفُ من الهمس» 2012م، وهي تعتبر كتابة الشعر باللهجة المحكيَّة (العاميَّة) جُزءًا مهما من تأدية دورٍ ضروري لحفظ الموروث المحلّي، وعن هذا تقول: «باعتبار لهجتنا هي موروثنا، فإن ما نكتبه بها قد يحفظ بعض المُفردات التي قد تتعرض لمخاطر الغروب ومن ثم يحميها من الفناء مُستقبلاً»، كما أنها تمتاز بآرائها الموضوعيَّة غير المُتحيّزة فيما يتعلق بشؤون الشعر، ويُذكرُ لها في هذا السياق أنها عندما سُئِلَت عام 2022م خلال لقائي تلفازي في برنامج «ليالي الصيف» عمَّا إذا كانت تتفق مع الرأي الذي يقول إن النساء هُن أفضل من يكتُب ويُعبِّر عن المشاعر والأحاسيس؛ أجابت بمُنتهى الذوق والكَياسَة: «من يُعبّر عن المشاعِر هو من يمتلكها بنسبة عالية سواء كان رجلاً أم امرأة، ففي تاريخ الشعر الرجالي نرى أن هناك من يمتازون بتلك القدرة على التعبير عن مشاعرهم مثل الشاعر قيس بن الملوَّح الذي قدَّم للشعر نماذج من أكثر القصائد تدفقًا بالعاطفة، وإن كانت المرأة ذات مكانة مميزة في هذا المجال بحكم فطرتها التي أسبغَت عليها طاقة مشاعِريَّة عالية».
من عام 2005م إلى عام 2011م كان صوت الشاعرة هنادي الجودر يُطل من نافذة إذاعة البحرين مُصافحًا ذائقة مُستمِعي برنامج «ليالي الشعر» للمُخرج محمد عتيق، وشاءت الأقدار أن يكون ضيف الحلقة الأولى التي قدَّمتها من البرنامج هو الشاعر المُتألّق محمود درويش.. كان لصوتها المؤثر دور في اضفاء سحرٍ ذي مذاقٍ خاص على القصائد المُلقاة عبر أثير البرنامج أدى إلى تعلُّق ذاكرة المُستمعين بحلقاته، وهو ما أكدتهُ الشاعرة الدكتورة نبيلة زيباري خِلال مُداخلة هاتفيَّة عبر برنامج «بصمة» الإذاعي نهايات عام 2018م بقولها: «إن هنادي الجودر مُتفوقة دائمًا، عندما تُلقي القصيدة سُرعان ما تشعُر أنَّك مُنجذب لسماعها، أسلوب القائها رائع؛ لا سيما مع امتزاج احساسها العميق ببحة صوتها المُتميزة».
امتدَّت رسالة نشر الوعي الثقافي بالنسبة لها نحو أبعاد أخرى بتأليف كتابين مُرتَبِطَين بتخصصها الأكاديمي في مجال الحقوق، أحدهما بعنوان: «الحِماية الجنائية للمال العام في التشريع البحريني – دراسة مقارنة»، والآخر: «المسؤولية الجِنَائية عن جرائم النشر في الصحف»، واتسعَت مساحات شغفها بدورها الثقافي مُستعينة بنشر مقالاتها التي تمتاز بأصالة الأفكار وأناقة الصياغة المُتقنة، ولطالما شعر قارئ مقالاتها – لا سيَّما تلك التي تبدأها بـ«القُرَّاء الأعزَّاء» – أن لهم مكانة خاصَّة في نفس الكاتِبة، يوجَّه حديثها نحوهم من القلب إلى القلب، حديثٌ يعتبرهم أولئك «الأعزَّاء» الذين يسمعون بين حروفها ما هو «أرهف من الهمس» مثلما تسمع ما يدور في خواطرهم وتُعبر عنها بكلماتها.
في قصيدتها «تهجَّاني» تقول الشاعرة هنادي الجودر: «يفهرسني عبير الشوق عنوانٍ لأشجاني/ يذوّبني فــ «عنا قلبٍ عبث تطويك صَفحاته». ونحنُ مهما كتبنا عن هذه النجمة في سماء الشعر الشعبي البحريني لا تنتهي الصفحات وعبثًا تُطوى، لعلمنا أن أحلامها لا تعرف سقفًا، وشغفها لا يعترف بحدٍ، وطموحاتها تستمر بالتحليق دون قيود.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك