أمرتْ محكمة يابانية في مقاطعة نياجاتا (Niigata) في 18 أبريل 2024 شركة «روزوناك القابضة» (Resonac Holdings) دفع مبلغ 104 ملايين ين ياباني، أو قرابة 260 ألف دينار بحريني إلى 26 يابانيا من الذين تضرروا من حالة مرضية غامضة أُطلق عليها «مرض مينماتا» (Minamata Disease)، وهم الذين عانوا من شدة آلامها، وقسوة تأثيرها في أجسامهم جسديًّا وعقليًّا ونفسيًّا. وهذه ليست أول مرة، وليست الحالة الأولى، ولن تكون حتما الحالة الأخيرة التي تَحْكُم فيها المحكمة اليابانية للتعويض المالي للذين سقطوا في شباك هذا المرض الغريب.
وعندما نقرأ عن مثل هذه الأخبار نظن أن هذه الحالات المرضية التي أصابت شريحة كبيرة من المجتمع الياباني حديثة العهد، وأنها قد وقعت قبل سنة، أو حتى قبل عقد من الزمن، فلا نتصور أنها من الماضي الغابر البعيد، وأن خيوطها بدأت تنسج وتظهر فوق السطح قبل أكثر من مائة عام، أي منذ مطلع العشرينيات من القرن المنصرم.
فمثل هذه الحالات تؤكد لنا أن بعض الأمراض التي يتعرض لها الإنسان قد لا تموت، وتبقى حية تنبض بالحياة في المجتمعات البشرية، وقد تستمر فيها خالدة أبد الدهر.
فمرض مينماتا يُقدم مثالاً حيا واقعيًّا على مثل هذه الحالات المرضية المستدامة التي تبقى جذورها قوية وصلبة ومتغلغلة في شرايين المجتمعات التي تُصاب بها.
فبذور هذا المرض الخبيث تم نشرها وزرعها في البيئة البحرية الساحلية في مدينة مينماتا قبل أكثر من قرن عندما قام مصنع «شيسو للمواد الكيميائية» بصرف مخلفات سائلة إلى خليج مينماتا، وكانت تحتوي على واحد من أخطر العناصر السامة التي يعرفها الإنسان الآن، وهو عنصر الزئبق، أو الزئبق غير العضوي الذي لا يتحلل، وثابت ومستقر في مكونات البيئة. ومع الأيام، ومع ازدياد الصرف الصناعي المحتوي على الزئبق، حدثت ظاهرة أخرى جديدة كانت غائبة عن علم الإنسان، وهي أن هذا الزئبق غير العضوي تحول في التربة القاعية للبحر ومع وجود البكتيريا اللاهوائية إلى ما هو أخطر منه، وأشد وطأة وتنكيلاً بصحة الإنسان، وهو الزئبق العضوي، وبالتحديد ميثيل الزئبق. ومن الخصائص غير المرغوبة والسلبية لهذا المركب العضوي الفلزي أنه لا يتحلل ويبقى على ما هو عليه، ويبدأ في التراكم في التربة القاعية البحرية، وينتقل رويداً رويداً وفي سرية تامة إلى الكائنات النباتية (الفيتوبلانكتون)، ثم إلى الكائنات الحيوانية الصغيرة الحجم (الزوبلانكتون)، وبعدها عبر السلسلة الغذائية البحرية إلى الأسماك الكبيرة التي يستهلكها الإنسان والحيوانات الأليفة كالقطط والكلاب. وهذه العملية التراكمية وزيادة التركيز مع الوقت استغرقت قرابة ثلاثين عاماً حتى وصل تركيز الزئبق على مستويات مرتفعة في الأسماك بحيث تحول إلى سم قاتل عرَّض الإنسان والقطط والحيوانات الأخرى لأعراض مرضية كانت غريبة وفريدة من نوعها في ذلك الزمن، وبالتحديد في مطلع الخمسينيات من القرن المنصرم، فأصابت بشكلٍ خاص الجهاز العصبي المركزي، والعظام، وضعف في البصر، وهوان في العضلات، إضافة إلى الإصابة بالشلل، ثم الموت.
ومع الوقت أخذت الحالات الغامضة تزداد يوماً بعد يوم، كما أن الذين قضوا نحبهم بسبب هذا المرض الغريب ارتفع بشكل مرعب ومخيف يدعو إلى القلق العميق من وجود وباءٍ ما لا يعرف أحد أي تفاصيل عنه، مما اضطر العلماء والأطباء من مختلف التخصصات إلى إعلان حالة الطوارئ البحثية وإجراء الدراسات المعمقة. فشمر الجميع عن ساعديه لحل هذا اللغز المحير والعصيب، وفك أسراره وخيوطه. وهذه العملية المضنية والمعقدة استغرقت أكثر من ثلاث سنوات حتى اكتشف العلماء أن المتهم هو تناول المأكولات البحرية التي كانت ملوثة بالزئبق، وأن مصدر الزئبق هو مخلفات المصنع السائلة.
ولم ينته الوباء عند هذا الحد، وإنما اكتُشفت هذه الأعراض المرضية على المولودين حديثاً، حيث تأكد من الفحوصات التي أُجريت للأطفال أن أجسامهم ملوثة بالزئبق وبنسبة مرتفعة جداً، مما يعني أن هذا الزئبق لا يتراكم في مكونات البيئة فقط، ولا ينتقل عبر السلسلة الغذائية البحرية فحسب، وإنما ينتقل من الأم إلى جنينها أثناء وجوده في رحم أمه. أي أن للزئبق خاصية الانتقال المباشر بين الجيل الواحد، والأجيال المتلاحقة، ولذلك نجد أن هذا المرض مازال حيا في المجتمع الياباني، وترثه الأجيال أباً عن جد، فمازالت روحه تنبض بالحياة حتى بعد مضي أكثر من 100 عام على أول مشهد للكارثة البيئية الصحية العامة وأول خطوة زرعها الإنسان لنمو هذه الشجرة الخبيثة التي امتدت جذورها قوية ومتشابكة في قلب المجتمع.
ونظراً إلى هول هذه الطامة الكبرى على المجتمع الياباني خاصة، والمجتمع الدولي عامة، فقد حدثت عدة أمور تؤكد شدة وطأتها وعمق تأثيرها وتغلغلها في كل دول العالم حتى يومنا هذا. ومن هذه الأمور هو موافقة دول العالم على معاهدة دولية مشتركة ومتخصصة للتصدي لهذا العنصر الخبيث تحت مسمى «معاهدة مينماتا». وتهدف هذه المعاهدة الدولية إلى إدارة هذا العنصر الخطير بأسلوب مستدام، والحد من إنتاجه وتسويقه، وتنظيم وتقنين ولوجه إلى مكونات بيئتنا المختلفة. كما أن اليابان وبعض دول العلم تحيي يوماً واحداً من كل عام لتخليد ذكرى هذه الكارثة، وبنت اليابان نُصباً تذكارياً لضحايا هذا المرض القاتل. كذلك اعتذر رئيس الوزراء الياباني عدة مرات وفي مناسبات مختلفة عن وقوع هذه الكارثة التي هي من صنع الإنسان ومن صنع أيدينا، وتؤكد تقصيرنا وتجاهلنا لهموم بيئتنا، والتعدي باستمرار على حرماتها. كذلك وفي الوقت نفسه تم تأليف كثير من الكتب والأفلام الوثائقية، إضافة إلى فيلم من هوليود تم عرضه في عام 2020.
فهذه الكارثة التي وقعت قبل قرنٍ في اليابان، وما زالت تداعياتها قائمة ومستمرة حتى الآن، قد تحدث في أية دولة، فليس هناك أي مجتمع بمنأى عن مثل هذه الحوادث المؤلمة، لأنها قد تقع بسبب ممارسة يحسبها البعض بسيطة جداً ويمكن تجاهلها وغض الطرف عنها، وهي السماح للملوثات في الانطلاق بحرية إلى عناصر بيئتنا، وإعطائها الفرصة الكافية لكي تنمو، وتترعرع ويرتفع تركيزها مع الزمن، وتتراكم وتتضخم في البيئة أولاً، ثم في السلسلة الغذائية ثانياً، حيث يكون الإنسان على رأس هذا الهرم الغذائي، فيتسمم ويمرض، وقد يلقى نحبه فيُنقل إلى مثواه الأخير تحت الثرى.
ismail.almadany@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك