هذه سياحة مباركة في تدبر بعض آيات من القرآن الكريم وفاء لِما أمرنا به رسول الله (صلى الله عليه سلم) حينما قال صلوات ربي وسلامه عليه: «بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار» رواه البخاري عن عبدالله ابن عمرو (رضي الله عنهما)، ولقد أحسسنا بِعِظَمْ المسؤولية علينا، وذلك حين قال تعالى: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) القمر / 17.
لقد كرر الحق سبحانه هذا التوجيه الرباني في نفس السورة – أي سورة القمر – أربع مرات في الآيات: (17، 22، 32،.4)، فجعل المسؤولية مضاعفة علينا في الدنيا، والمحاسبة عليها يوم القيامة، فالرسول صلوات ربي وسلامه عليه أمرنا بالبلاغ عنه، ولًو بآية واحدة في نص يسره الله تعالى لنا بكلام فصيح مبين، وبهذا وضع الرسول (صلى الله عليه وسلم) المسلمين، وخاصة العلماء منهم، وطلبة العلم كل واحد منهم أمام مسؤولياتهم التي سوف يُسأَلون عنها يوم القيامة.
ربما أطلت بعض الشيء في المقدمة، ولكني رأيتها ضرورية لبيان ما وراءها، وما تنطوي عليه من معارف وأسرار، وإليك عزيزي القارئ إنموذجًا من هذه الآيات محل النظر والتدبر، يقول تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني إثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة / 40.
في أشد أوقات الشعور بالوحدة، وفي قمة ابتلائه صلى الله عليه وسلم أراد الله تعالى أن يسري عن عبده ورسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) بعد أن أعدت قريش عدتها للقضاء على الدعوة وهي في مهدها، والخلاص منه صلى الله عليه وسلم، وبعد أن ضاقت السبل، وتعذر الخلاص من ملاحقة قريش لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتآمرهم عليه صلوات ربي وسلامه عليه، وذلك حين خططوا ، ودبروا للخلاص منه بالقتل، واختاروا من كل قبيلة شابًا قويًا جلدًا ، فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يستطيع بنو هاشم المطالبة بدمه ويقبلوا بالفدية فيه.
في تلك الليلة حالكة السواد أنار الله تعالى لرسوله محمد (صلى الله عليه وسلم) ولصاحبه أبي بكر الصديق الذي أبى إلا أن يلازم أخاه وصاحبه، ويفديه بروحه، وهي هينة عليه في سبيل المحافظة على الدعوة وصاحبها صلوات ربي وسلامه عليه، وكان رضي الله عنه يتذكر الرصد، فيسير مرة أمام الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ويتذكر الطلب، فيسير خلف رسول الله، ويسير عن يمينه، وعن يساره حماية له صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يعجب من فعله هذا.
ولقد أراد الله تعالى أن يطمئن رسوله (صلى الله عليه وسلم)، فنزل قوله تعالى الآية (40) من سورة التوبة التي مضمونها أن مادام رسوله وصاحبه في معية الله تعالى، فإنهما قد دخلا في عالم الملكوت حتى لو نظر كفار قريش تحت أقدامهم، فإنهم لن يروا رسول الله وصاحبه ، لأن الله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدركها ، ومن كان في معية الله تعالى فلن تدركه الأبصار – كما قال الشيخ الإمام محمد متولي الشعراوي (رحمه الله تعالى) في تفسيره العظيم ، ولهذا كان هذا هو سر اطمئنان رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وثقته في موعود مولاه سبحانه وتعالى ، وهذه الطمأنينة جاء التعبير عنها عن طريق الفعل الماضي الذي يفيد الدوام والاستمرار والتحقق، وتأكيدًا لهذا المعنى جاء حرف «قد» الذي يفيد التحقق لا محالة، كما جاء ذلك في قوله سبحانه وتعالى: (أتى أمر الله فلا تستعجلوه سبحانه وتعالى عما يشركون) النحل / 1.
فكيف يقول الحق سبحانه وتعالى: «أتى» وهو فعل ماض يفيد أن الفعل قد حدث وانتهى زمنه، ثم يقول سبحانه: (فلا تستعجلوه) حين نسب الفعل أو تحقق الفعل إلى زمن المستقبل، أراد الله تعالى بهذا أن يثبت تحقق النصر، ولكن لحكمة يريدها الله تعالى أمرنا ألا نستعجل لأن في ذلك حكمة لم يأت زمانها بعد.
إذًا، فالله تعالى هو مالك الملك والملكوت لا تحكمه الأسباب، بل هو سبحانه يملكها، ويُفَعِّلْ الأسباب ويطلقها، وهو قادر سبحانه على أن يمنع تحققها، كل ذلك لحكمة يعلمها سبحانه، وذلك لأن العقول لا تقوى على مواجهتها، فإذا أذن سبحانه للحكمة أن تظهر، وللفعل أن يتحقق استبان كل مستور، وبرز كل مخبوء، وزال العجب، واطمأنت النفوس إلى حكمة الله تعالى ورحمته سبحانه.
إذًا، فقد أظهر الحق سبحانه تعالى في قوله جل جلاله: (إلا تنصروه فقد نصره الله…) أظهر من البشارات ما اطمأنت إليه نفس رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وتلك إحدى معجزاته المادية عليه الصلاة والسلام.
إذًا، فتدبر مثل هذه الآيات الجليلات، والبحث عن أسبابها، ودواعيها يعين المسلم على إدراك معانيها، وفهم مقاصدها، وعلى المسلم ألا يكتفي بتلاوة القرآن ما لم يكن مع التلاوة كتاب تفسير يشرح الآيات، ويبين معاني الألفاظ ليكون المسلم على دراية ومعرفة من كلام الله تعالى الذي أنزل على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للتطبيق في حياة المسلم، لتتحول حياة المسلمين إلى جنة في الأرض قبل جنة السماء.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك