تناولت في المقال السابق تحولات المشهد الإقليمي الراهن وكانت خلاصة المقال أن البيئة الإقليمية الراهنة لدول الخليج العربي تشهد تحولات في مضامين وأطراف ومسارات الصراعات والتي تلقي بظلالها على أمن دول الخليج العربي التي وبرغم أنها ليست طرفاً في تلك الصراعات فإنها ليست بمنأى عن تداعياتها، فكيف يمكن لدول الخليج التعامل مع تلك التداعيات؟ وواقع الأمر أنه ليس من السهولة بمكان اختزال الإجابة عن ذلك التساؤل في مقال محدد بعدد كلمات، ولكن باختصار أتصور أن مجلس التعاون لدول الخليج العربية سيكون هو قاطرة تلك الجهود في ظل رؤية المجلس لتهديدات الأمن الإقليمي التي أعلنها السيد جاسم البديوي الأمين العام لمجلس التعاون في 28 مارس 2024م وربما تحتاج إلى المزيد من النقاشات والحوارات في مراكز الفكر الخليجية والمؤسسات المعنية ويا حبذا لو أن هناك مشاركين من خارج المنطقة في الوقت ذاته لسبب مؤداه أن تلك المنطقة لا تزال محل تنافس من جانب العديد من القوى العالمية بما يجعل من الضرورة بمكان التعرف على ثوابت ومستجدات القوى الكبرى بشأن أمن الخليج والأمن الإقليمي، ولدول المجلس رصيد كبير من النجاح في إدارة الأزمات التي مثلت تهديداً لأمن الخليج العربي والأمن الإقليمي، حيث تكاملت أدوار المجلس مع الأدوار الدولية في الحفاظ على توازن القوى الإقليمي سواء خلال الحرب العراقية - الإيرانية، أو حرب تحرير دولة الكويت، من ناحية ثانية أثبتت الأزمات قدرة دول الخليج على لعب دور الوساطة وهي خبرات مهمة أيضاً يمكن توظيفها لنزع فتيل العديد من الأزمات الإقليمية وأخيراً دور المجلس في إدارة الشراكات الدولية للخليج، حيث يلاحظ بدء المجلس كمنظمة في تأسيس عدد مهم من الشراكات والحوارات الاستراتيجية وهي وإن كانت تعزز فكرة الحوار بين الأقاليم كسمة للتحولات العالمية في الوقت الراهن فإنها في الوقت ذاته تعني تحقيق توافقات في الرؤى من أجل إيجاد حلول للصراعات الإقليمية.
وإذا كانت تلك الأطر العامة فهل من مجالات محددة تحتاج إليها دول الخليج العربي في ظل تلك التهديدات؟ وفي تقديري أنه يمكن أن نفرق بين المدى البعيد والآخر القريب والمتوسط، فعلى الصعيد الأول في تصوري أن دول الخليج بحاجة إلى العمل بشكل جماعي ضمن ثلاث قضايا الأولى: كيف يمكن أن تعكس دول الخليج مفهوم القوة الموازنة وهي التي خصصت لها الأدبيات دراسات عديدة، فكلما كانت لدى تلك القوة من أدوات التأثير ما يكفي يظل الصراع الإقليمي منضبطاً وفي حدوده المألوفة وتجنب المنطقة تأثير الأزمات الدولية، ولقد أتاحت بعض الأزمات لدول الخليج ممارسة ذلك الدور سواء الموقف الموحد بشأن الحفاظ على مستوى معقول لأسعار النفط خلال الأزمة الأوكرانية، أو تطور العلاقات السعودية - الإيرانية العام منذ عام 2023، والثانية: تنويع الشراكات الدولية من منظور اقتصادي وذلك في ظل انتظام دول العالم في تجمعات أساسها ومحركها الاقتصاد بعيداً عن مسألة السعي لاستبدال شراكات بأخرى، صحيح أن الشراكات الأمنية الغربية تظل هي الأساس لمسألة الأمن ولكن في الوقت ذاته نجد أن هناك اهتماما من الدول الآسيوية والتجمعات الإقليمية في مناطق مختلفة من العالم بمنطقة الخليج العربي التي تؤدي دوراً مهماً في الاقتصاد العالمي، وقد يقول البعض أن دول الخليج بدأت بالفعل زيادة مستوى التعاون مع منظمات مثل الآسيان والبريكس وشنغهاي، ولكن ما أود تأكيده هو الشراكات الخليجية الجماعية هي الأكثر تأثيراً في مسار تلك الشراكات «صيغة الكل مقابل الكل»، والثالثة: البعد الإقليمي للأمن وهو أمر مهم للغاية لأسباب أوجدتها نتائج الصراعات الراهنة منها أنه ربما يكون من الأفضل تسوية الصراعات داخل تنظيمات الأمن الإقليمي مقارنة بالمنظمات الدولية التي تشهد صراعاً محتدماً وتضارباً في المصالح، صحيح أن الحدود الفاصلة بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي قد تلاشت ومن ذلك مجال الأمن البحري إلا أن وجود إطار إقليمي يعد أمراً مهماً سواء من خلال المنظمات القائمة أو استحداث سبل جديدة للتعاون الإقليمي.
وإذا كانت تلك الخيارات الاستراتيجية هي سبل دول الخليج العربي للحفاظ على أمنها القومي على المدى البعيد، فماذا عن القريب والمتوسط؟ فمع أهمية النقاط الخمسة عشر التي أعلنها الأمين العام لمجلس التعاون ضمن رؤية المجلس للأمن الإقليمي وهي مهمة إذ تقدم صورة متكاملة للتحديات التي تواجه دول الخليج وليس بالضرورة أن تكون جميعها أمنية وتتطلب استنفار الجهود، ولكن في تقديري أن أمام دول الخليج خمس مهام أساسية يجب العمل عليها بشكل متواز أولها: تطوير آلية مشتركة لإدارة الأزمات والكوارث بكل أشكالها سواء التلوث البحري أو مواجهة هجوم سيبراني أو حتى الكوارث الطبيعية التي لم تعد دول الخليج بمنأى عنها وذلك لا يعزز العمل الخليجي الجماعي فحسب وإنما يستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة، وثانيها: ضرورة بل حتمية التكامل في مجال التكنولوجيا العسكرية في ظل تسارع وتيرتها واستمرار احتكارها من جانب الشركات الغربية الكبرى ووقوع تلك التكنولوجيا في أيدي الجماعات دون الدول، ولدى دول الخليج خطط بشأن توطين تلك الصناعات عموماً ولكن يجب أن تكون التكنولوجيا العسكرية جوهر ذلك التعاون، وثالثها: سبل تحقيق الأمن الغذائي الخليجي في ظل ما أوجدته جائحة كورونا وحرب أوكرانيا من تحد هائل في هذا المجال ويحتم الإسراع بإعلان استراتيجية خليجية موحدة لتحقيق الأمن الغذائي الخليجي، ورابعها: تقييم مسيرة التعاون الاقتصادي والإسراع بتنفيذ المشروعات التنموية الخليجية المشتركة والتي أكدت تجارب الأمن الإقليمي ومن بينها تجربة الاتحاد الأوروبي أن التكامل الاقتصادي كان الأساس الراسخ الذي ارتكز عليه تطور ذلك التجمع الأوروبي بما يقدمه من دروس مستفادة لدول الخليج العربي، وخامساً وأخيراً كيف يمكن لدول الخليج التصدي لتوظيف الإعلام الحديث لمفردات تحض على التطرف بما ينعكس على جهود دول الخليج التي قدمت نموذجاً في الاعتدال والتسامح والتعايش السلمي من خلال خبرات تاريخية ومؤسسات كان لها صدى عالمي ولاشك أن هناك حاجة إلى تكامل الخطاب الإعلامي الخليجي في هذا الشأن.
وربما يرى البعض أن هناك مجالات أخرى فالقائمة تطول ولكن ما أردت تأكيده هو مسألة الأولويات التي تعكسها الاحتياجات الأمنية لدول الخليج في ظل شمول وتنوع مضامين الأمن بعيداً عن المفهوم العسكري التقليدي.
وعود على ذي بدء ومع أهمية التنسيق الإقليمي والشراكات الدولية مع دول ومنظمات لها مصالح جوهرية في منطقة الخليج العربي فإن نقطة البدء تكمن في مجلس التعاون لترجمة رؤيته للأمن الإقليمي إلى خطط وآليات تنصهر فيها مصالح دوله الأعضاء ويكون هو ثقل التفاوض على المستويين الإقليمي والعالمي.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك