لم تكن صدفة تلك التي علقت بمشجاب قلمي، ولم تكن تلك الأحداث الواقعة بين الدم وبين انشغالات مشحونة بهوس بطلة الرواية «ليلى دوقة قلالي» رواية تأخذ بقارئها نحو صراع مرير واحداث متلاحقة، ينشغل فيها من يعيد سيرتها الأولى.
إنها «ليلى» الفتاة البحرينية ذات الواحد والعشرين ربيعاً التي كانت تعيش في مأمن في حيها المعروف بقلالي، المدينة الهادئة المشحونة بالذكريات وبصحبة ألفت التعاطي معهم، لكنها في موضع الحلم تنتقل من حيها بقلالي إلى مدينة الضباب «لندن» لتجد نفسها في مدينة مكتظة بالبشر وبصراعات وإغراءات مفتوحة على مصراعيها، إنها في وسط عالم غريب يدفعها نحو التحدي، بين واقع تعيشه وحلم فرض نفسه عليها، مختلف الطباع ذو غموض قادها نحو التحدي.
وبين هذا الصراع ترى نفسها بنت قلالي الفتاة الحالمة أنها في وسط زوبعة من الأحداث ذات الحكايات المختلفة والاشخاص المختلفين اصحاب المناصب العُليا والرتب ذوات الاختلاف، لم تكن ليلى مدركة لعالمها الجديد الذي قادها دون رغبة منها لعالم غير عالمها الذي عرفته وهي الفتاة الهادئة عبر أحداث متسارعة وغموض لجريمة تعيش أحداثها، برغبة منها أو دون رغبة أنها واقعة في موقع لا تحسد عليه.
لتجد نفسها في مواجهة عالمها الجديد والغريب المليء بالتحديات والغموض بعد أن يتكرر عليها حلم رؤيتها لجثة فتاة محاطة ببركة دم.
إنها دوقة قلالي صورة لمعنى الخوف حينما تسكننا احداثها، وحينما نتبرأ من واقعنا الذي اعتدنا عليه، نراها تقودنا نحو الشفيف من الحب.
هكذا هي رواية وليد هاشم الذي أمسك بتلابيب رقابنا ليقودنا نحو هذا الهوس الجنوني ويرمي بنا في صراع اتون الجريمة التي تدور أحداثها بين البحرين والإمارات والمملكة المتحدة البريطانية في وسط «لندن» رسائل أدركها وليد هاشم:
في هذا العمل الروائي استطاع وليد هاشم أن يحرك الأحداث بواسطة الشخوص دراماتيكية، جاعلا من القارئ في موضع التمثيل المسرحي أو السينمائي المؤذي إلى الحزن أو إلى الصراع البشري.
فالحكاية في مصلها الأول عند بداية سرد الأحداث في مداهمة (الأحلام) له وهو الفاعل الذي أشار إليه أو ابتدأ به وليد هاشم سرد دوقة قلالي، خارجاً بحلمه الذي حمّله وجع اكتشاف تلك الجثة التي رآها ممددة في الشارع محاطة ببركة كبيرة من الدماء، رغم يقينه أنه يعرف تلك الفتاة، كان الحلم رسالته الأولى نحو بداية اشتعال الجمر في مصل الحكاية.
بين عالمين مختلفين كان فيها الهجس بملاقاة ذلك الحلم في واقع يبصره دون ريب أو قصة لمعنى التحري، أو لغز القتل، في عالم الجريمة.
لا شك أن وليد هاشم قد استطاع أن يجعلنا كقراء لعمله الروائي ضمن شخوص أحداث عمله الروائي وذلك بوشمنا بما لم ندركه في الواقع بل أدركناها في الحلم لنعيد ما قاله: النبي يوسف عليه السلام في تفسيره لواقع الحلم في سورة يوسف «ألا وهو الابتلاء الذي يقع فيه الرائي».
وبعيدا عن النص الديني أرى أن الابتلاء هو نتاج واقع لعمل ما كان هذا العمل خير أو سيئ عبر واقع يسوده أو رواية الغموض، أو ما يعرف بالرواية البوليسية.
وليد استطاع أن ينقلنا إلى ذلك العالم من الخيال للفعل الإجرامي الواقع في سرديات الرواية، مثل اكتظاظ الصراع وصيرورة التحقيق في جريمة القتل، وبالخصوص (عالم جريمة القتل). ويتمثل هذا النوع من السرد الروائي الذي لا يخلو من تميز البعد الخيالي السائد في تحريك شخوص الأحداث الرئيسية وإبرازها في واقع العمل الإنمائي للصراع الدائر.
ولا شك أن أدب الجريمة لم يكن وليد صدفة، بل هو وليد واقع سنوات عمر وجود الأرض والبشر والذي بدأ بقول الباري في سورة المائدة الآية 31 «فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ» والإشارة للبعد التاريخي والديني ليس من الدقة لواقع أحداث الرواية في دوقة قلالي إنما أردتُ منه الإشارة لفعل واقع الجريمة، باختلاف الزمان والمكان.
وتاريخ أدب الجريمة حوته الكثير من الكتب وبالخصوص ما حوته سيرة ألف ليلة وليلة (الليالي العربية) وهي أقدم السرديات كأمثلة جوهرية عن أدب الجريمة.
استطاع وليد أن يقدم لنا تسلسل زمني لواقع أحداث الصراع في روايته، بدءاً من نقطة الحلم حتى اشتعال هذا الحلم في جذوة الصراع بين الشرق والغرب، والعالم العربي والأوربي.
الصورة جلية في رسالة وليد هاشم عندما أشار إلى أن الأحلام بدأت مع بطلة الرواية ليلى والجدة وعذيجة صديقة العائلة القادمة من دولة الإمارات وميرا المدللة الموجودة في بريطانيا. ومع متابعة الأحداث تبدأ أحداث الرواية لنقرأ عبرها ذلك الصراع الذي تتناغم عبرها سرديات العمل الروائي، وتكون أحداث الجريمة واقع ملموس والمجرم في طيات الأحداث رسالة تبوء بما هو معروف بالفعل لدى أكثر الناس اقتراباً من عالم ليلى دوقة قلالي وميرا المددلة.
ولو بعدنا قليل عن أحداث رواية وليد هاشم واقتربنا من التاريخ المعاصر للجريمة عند بعض مبدعيها المعاصرين لنقف على أقدم روايات الجريمة الحديثة المعروفة هي رواية «مادموزيل دي سكوديري 1819 للكاتب إرنست هوفمان. وهناك أيضًا رواية المجهول ريشموند أو قصص عن حياة ضابط شارع بو (1827)، وفي هذا النوع أيضًا هناك القصة القصيرة الكاملة للمؤلف الدنماركي ستين ستينسين بليشر وهي عميد فيلبي، التي نُشرت في عام 1829».
في ظل هذا النوع من الغموض الروائي لواقع الجريمة قد نرى أن وليد هاشم اقترب من عالم الروائية اجاثا كرستي التي تعد الروائية الأولى في العصر الذهبي للروايات البوليسية كونها لقبة بملكة الجريمة.
في تمكن وليد إدخالنا تلك اللعبة الدامية، من نقطة الحلم حتى واقع الحدث، وإن اختلف البعد، ففي الحكاية مصل واقع الزمن الذي يهز بهودج نياق المسافرين التائهين في صحراء التعب، والشمس الحارقة.
ما لم يكن موفقا في مثل هذا العمل:
يمتلك وليد هاشم كروائي وقاص خيال واسع في بناء سردياته كما هو متمكن من لغته تمكناً عالياً ما يتضح في الكثير من أعماله التي وظف فيها السرد بلغة عربية سليمة وجميلة يقود زمام نياطها امتلاكه لثقافة عالية.
وما لفت نظري في روايته ليلى دوقة قلالي عدم توظيفه للغة الأم الفصحى بشكل تام، معتمداً اللهجة العامية على لسان أبطاله ما أربك العمل بحسب وجهة نظري، لأن بعض اللهجات ثقيلة عبر توظيفا في مثل هذه الأعمال الروائية التي تستند على وعي متكامل البصيرة، وقد لا يكون هذا التوظيف عيباً في العمل السردي ولكنه في مثل هذه الأعمال المشحونة بالدراما وسرعة الأحداث وصراع الشخوص وتنوع الأمكنة أرى أن اللغة الأم الفصحى تضيف على العمل جمالا أكثر مما هي عليه وتترك للقارئ العربي سعة وسلامة القراءة، فأرى أن اللغة الموحدة للحدث لكل أبطال الرواية يجب أن تكون مدروسة وذات صلة واحدة دون تنوع درجات الصعود والنزول.
أخيراً أؤكد أن الرواية جميلة ومتماسكة في سرديات ليلى دوقة قلالي، وكعادة وليد لا يتركنا حتى يحرك ما بداخلنا من وجع أو فرح نحن نرفع له القبعة ولن نصرخ أو نستغيث في أتون هوس جنون جمر المعركة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك