العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٩ - الثلاثاء ٢٦ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٤ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

لماذا لا يفهم العراقيون مأساة بلدهم؟

بقلم: فاروق يوسف {

السبت ١٨ مايو ٢٠٢٤ - 02:00

‮«‬ليس‭ ‬هناك‭ ‬من‭ ‬أمل‮»‬‭ ‬الجملة‭ ‬الأكثر‭ ‬شيوعا‭ ‬على‭ ‬ألسنة‭ ‬العراقيين؛‭ ‬موالين‭ ‬ومعارضين‭ ‬لشكل‭ ‬ونوع‭ ‬ومحتوى‭ ‬الدولة‭ ‬الجديدة‭ ‬التي‭ ‬أقيمت‭ ‬في‭ ‬بلادهم‭ ‬على‭ ‬أنقاض‭ ‬العراق‭ ‬التاريخي‭ ‬الذي‭ ‬مزقه‭ ‬الغزو‭ ‬الأمريكي‭ ‬وزادته‭ ‬المليشيات‭ ‬والأحزاب‭ ‬المحلية‭ ‬تشتتا‭ ‬وحيرة‭ ‬وضياعا‭.‬

المزاج‭ ‬العراقي‭ ‬هو‭ ‬أصلا‭ ‬مزاج‭ ‬متشائم‭ ‬ويَغْلُبُ‭ ‬فيه‭ ‬الحزن‭ ‬على‭ ‬الفرح‭ ‬ويميل‭ ‬إلى‭ ‬النهايات‭ ‬المأساوية‭. ‬ليست‭ ‬هناك‭ ‬حقيقة‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬تصمد‭ ‬أمام‭ ‬تقلبات‭ ‬ذلك‭ ‬المزاج‭. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬وجدت‭ ‬مثل‭ ‬تلك‭ ‬الحقيقة‭ ‬فإن‭ ‬العراقيين‭ ‬يملكون‭ ‬القدرة‭ ‬على‭ ‬مقاومتها‭ ‬وغض‭ ‬الطرف‭ ‬عنها‭ ‬ونسيانها‭.‬

كانوا‭ ‬يمنون‭ ‬النفس‭ ‬بسقوط‭ ‬نظام‭ ‬الحزب‭ ‬الواحد‭ ‬الذي‭ ‬وصل‭ ‬به‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬إلى‭ ‬نقطة‭ ‬اللاعودة‭. ‬كان‭ ‬مفضلا‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليهم‭ ‬أن‭ ‬يقوم‭ ‬الآخرون‭ ‬بذلك‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬يتورطوا‭ ‬في‭ ‬مواجهة،‭ ‬كانوا‭ ‬على‭ ‬يقين‭ ‬من‭ ‬أنهم‭ ‬سيخرجون‭ ‬منها‭ ‬خاسرين‭ ‬ومهزومين‭ ‬بسبب‭ ‬قسوة‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬سيعوض‭ ‬هزيمته‭ ‬بالفتك‭ ‬بهم‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فتكت‭ ‬به‭ ‬وبهم‭ ‬العقوبات‭ ‬الدولية‭.‬

مشاهد‭ ‬عمليات‭ ‬النهب‭ ‬التي‭ ‬شهدتها‭ ‬بغداد‭ ‬ومدن‭ ‬عراقية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الحزين‭ ‬الذي‭ ‬اجتاحت‭ ‬فيه‭ ‬القوات‭ ‬الأمريكية‭ ‬العاصمة‭ ‬العراقية‭ ‬كانت‭ ‬حقيقية‭ ‬ولم‭ ‬تكن‭ ‬جزءا‭ ‬من‭ ‬فيلم‭ ‬رعب‭. ‬لقد‭ ‬عبرت‭ ‬فئات‭ ‬من‭ ‬الشعب‭ ‬عن‭ ‬هزيمتها‭ ‬بطريقة‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الاشمئزاز‭ ‬والبؤس‭ ‬الأخلاقي‭. ‬أهو‭ ‬الفرح‭ ‬أم‭ ‬الحزن؟‭ ‬هذا‭ ‬شعب‭ ‬يُجن‭ ‬حين‭ ‬يفرح‭ ‬أو‭ ‬حين‭ ‬يحزن‭ ‬على‭ ‬حد‭ ‬سواء‭.‬

عام‭ ‬2019‭ ‬اعترف‭ ‬العراقيون‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬تظاهراتهم‭ ‬المليونية‭ ‬المطالبة‭ ‬بإسقاط‭ ‬النظام‭ ‬أن‭ ‬لا‭ ‬أمل‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬المأزق‭ ‬في‭ ‬ظل‭ ‬بقاء‭ ‬ذلك‭ ‬النظام‭. ‬أما‭ ‬وقد‭ ‬دُحرت‭ ‬انتفاضتهم‭ ‬فقد‭ ‬عادت‭ ‬اللعبة‭ ‬إلى‭ ‬أصولها‭. ‬ومثلما‭ ‬فشل‭ ‬العراق‭ ‬الأمريكي‭ ‬في‭ ‬تلبية‭ ‬مطالبهم‭ ‬فإن‭ ‬العراق‭ ‬الإيراني‭ ‬سيكون‭ ‬أشد‭ ‬قسوة‭ ‬عليهم‭.‬

وإذا‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬الطائفي‭ ‬القائم‭ ‬على‭ ‬المحاصصة‭ ‬بين‭ ‬أحزابه‭ ‬قد‭ ‬شعر‭ ‬يوم‭ ‬وقعت‭ ‬الانتفاضة‭ ‬بدنو‭ ‬أجله‭ ‬فإن‭ ‬خروجه‭ ‬سالما‭ ‬قد‭ ‬وهبه‭ ‬دروسا‭ ‬تعلم‭ ‬من‭ ‬خلالها‭ ‬كيفية‭ ‬إجهاض‭ ‬أية‭ ‬محاولة‭ ‬للتمرد‭ ‬الشعبي‭ ‬في‭ ‬المستقبل‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬يخضع‭ ‬للشروط‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬المحتجون‭ ‬قد‭ ‬سعوا‭ ‬إلى‭ ‬فرضها‭ ‬عليه‭ ‬وبالأخص‭ ‬على‭ ‬المستوى‭ ‬الخدمي‭.‬

ستبقى‭ ‬البنية‭ ‬التحتية‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬عليه‭ ‬فلا‭ ‬إنتاج‭ ‬محليا‭ ‬للطاقة‭ ‬الكهربائية‭ ‬إلا‭ ‬بالاستعانة‭ ‬بإيران‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬دعم‭ ‬اقتصادها‭ ‬ولا‭ ‬مياه‭ ‬نظيفة‭ ‬إلا‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬تحلية‭ ‬المياه‭ ‬التي‭ ‬ستكون‭ ‬غير‭ ‬صالحة‭ ‬للشرب‭. ‬ولا‭ ‬مشاريع‭ ‬للصرف‭ ‬الصحي‭. ‬كل‭ ‬ذلك‭ ‬يقع‭ ‬في‭ ‬قائمة‭ ‬المحظورات‭ ‬التي‭ ‬صار‭ ‬على‭ ‬العراقيين‭ ‬التعايش‭ ‬معها‭.‬

أما‭ ‬في‭ ‬قطاعي‭ ‬التعليم‭ ‬والصحة‭ ‬فإن‭ ‬العراق‭ ‬لن‭ ‬يشهد‭ ‬تحسنا‭ ‬فلن‭ ‬تبنى‭ ‬مدرسة‭ ‬واحدة‭ ‬أو‭ ‬مستشفى‭ ‬واحد‭. ‬ذلك‭ ‬لأن‭ ‬كل‭ ‬البرامج‭ ‬الحكومية‭ ‬لا‭ ‬تتضمن‭ ‬أية‭ ‬فقرة‭ ‬تخرج‭ ‬عن‭ ‬المألوف‭ ‬وتعيد‭ ‬الاعتبار‭ ‬إلى‭ ‬تعليم‭ ‬المواطنين‭ ‬وتطبيبهم،‭ ‬بالرغم‭ ‬مما‭ ‬تشهده‭ ‬بغداد‭ ‬من‭ ‬عمليات‭ ‬إعمار‭ ‬اقتصرت‭ ‬على‭ ‬بناء‭ ‬مجمعات‭ ‬التسوق‭ ‬الكبيرة‭ ‬والمطاعم‭ ‬الفخمة‭.‬

لا‭ ‬يعكر‭ ‬العراقيون‭ ‬مزاجهم‭ ‬بالمزيد‭ ‬من‭ ‬التشاؤم‭ ‬وهم‭ ‬لا‭ ‬يفكرون‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬الذي‭ ‬انتصر‭ ‬عليهم‭ ‬إنما‭ ‬ينفذ‭ ‬أجندات‭ ‬المشروعين‭ ‬الأمريكي‭ ‬والإيراني‭ ‬اللذين‭ ‬يقومان‭ ‬أصلا‭ ‬على‭ ‬إبقاء‭ ‬العراق‭ ‬دولة‭ ‬فاشلة‭ ‬وعاجزة‭ ‬عن‭ ‬خدمة‭ ‬مواطنيها‭ ‬وصيانة‭ ‬كرامتهم‭ ‬والدفاع‭ ‬عن‭ ‬حقهم‭ ‬في‭ ‬التصرف‭ ‬بثرواتهم‭ ‬بطريقة‭ ‬عادلة‭ ‬ومنصفة‭. ‬ذلك‭ ‬هو‭ ‬العراق‭ ‬الجديد‭ ‬الذي‭ ‬بشر‭ ‬به‭ ‬العراقيون‭ ‬أنفسهم‭ ‬وهم‭ ‬يحلمون‭ ‬بالانتهاء‭ ‬من‭ ‬زمن‭ ‬صدام‭ ‬حسين‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬الاستعانة‭ ‬بأعدائه‭ ‬الذين‭ ‬هم‭ ‬أعداء‭ ‬العراق‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭.‬

لذلك‭ ‬فإن‭ ‬قانون‭ ‬تحرير‭ ‬العراق‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬إقراره‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الكونغرس‭ ‬الأمريكي‭ ‬قبل‭ ‬سنوات‭ ‬من‭ ‬الغزو‭ ‬قد‭ ‬جرى‭ ‬تطبيقه‭ ‬على‭ ‬الأرض‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أية‭ ‬حاجة‭ ‬إلى‭ ‬تعديلات‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬تأخر‭ ‬العراقيون‭ ‬في‭ ‬إدراك‭ ‬الفجوة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬أحلامهم‭ ‬الهوائية‭ ‬ووقع‭ ‬الحذاء‭ ‬او‭ ‬‮«‬الجزمة‮»‬‭ ‬الأمريكية‭ ‬على‭ ‬الأرض‭. ‬ما‭ ‬فعله‭ ‬العراقيون‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬الأسوأ‭. ‬جزء‭ ‬من‭ ‬ذلك‭ ‬أنهم‭ ‬انشغلوا‭ ‬بمشكلات‭ ‬الحكم‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬النظام‭ ‬محتالا‭ ‬في‭ ‬ابتكار‭ ‬أشكال‭ ‬وأنواع‭ ‬مختلفة‭ ‬لها‭. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬أيضا‭ ‬أنهم‭ ‬صدقوا‭ ‬أن‭ ‬الإرهاب‭ ‬صار‭ ‬اختراعا‭ ‬عراقيا‭ ‬من‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬ينتبهوا‭ ‬إلى‭ ‬مصادره‭ ‬ومرجعياته‭. ‬وبالنتيجة‭ ‬فإنهم‭ ‬استجابوا‭ ‬لمشروع‭ ‬النظام‭ ‬في‭ ‬تمزيق‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬قائما‭. ‬بحيث‭ ‬وافقوا‭ ‬على‭ ‬سبيل‭ ‬المثال‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬الجواهري‭ ‬شيعيا‭ ‬والسياب‭ ‬سنيا‭ ‬ومصطفى‭ ‬جواد‭ ‬كرديا‭ ‬والبياتي‭ ‬تركمانيا‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬حُرقت‭ ‬كتب‭ ‬شاعرهم‭ ‬الكبير‭ ‬سعدي‭ ‬يوسف‭ ‬أمام‭ ‬أنظارهم‭ ‬لأنه‭ ‬رفض‭ ‬أن‭ ‬يزوره‭ ‬أثناء‭ ‬مرضه‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬إقامته‭ ‬بلندن‭ ‬أحد‭ ‬وزراء‭ ‬حكومة‭ ‬لا‭ ‬يعترف‭ ‬بشرعيتها‭. ‬لا‭ ‬يزال‭ ‬العراقيون‭ ‬ينكرون‭ ‬أن‭ ‬المسافة‭ ‬التي‭ ‬تفصل‭ ‬بين‭ ‬وطنهم‭ ‬الحقيقي‭ ‬والدولة‭ ‬التي‭ ‬فرضت‭ ‬عليهم‭ ‬لا‭ ‬تُقاس‭ ‬بالكيلومترات‭ ‬ولا‭ ‬بالساعات‭ ‬بل‭ ‬هي‭ ‬مسافة‭ ‬كونية‭ ‬تستغرق‭ ‬ملايين‭ ‬الكيلومترات‭ ‬والسنوات‭. ‬ولأنهم‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬يفكرون‭ ‬في‭ ‬لحظة‭ ‬الفرج‭ ‬التي‭ ‬يصلح‭ ‬فيها‭ ‬النظام‭ ‬من‭ ‬أوضاعه،‭ ‬يمكن‭ ‬الحكم‭ ‬عليهم‭ ‬بأنهم‭ ‬ما‭ ‬زالوا‭ ‬غير‭ ‬قادرين‭ ‬على‭ ‬فهم‭ ‬وإدراك‭ ‬حقيقة‭ ‬المأساة‭ ‬التي‭ ‬تعيشها‭ ‬بلادهم‭.‬

‭ ‬{‭ ‬كاتب‭ ‬عراقي

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا